التلقيح لفهم قارئ الصحيح

باب بعث النبي أسامة بن زيد في مرضه الذي توفي فيه

          قوله: (بابُ بَعْثِ النَّبِيِّ صلعم أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ): (أسامةَ): منصوب مفعول المصدر؛ وهو (بَعْث)، و(ابنَ): تابع له.
          قوله: (فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ): اعلم أنَّما بعثه قبل ابتداء مرضه، وقد يُجابُ عنه بأنَّه ◙ إنَّما عقد اللواء له وهو مريض، أو أنَّه ◙ لمَّا قال وهو مريض: «أنفذوا جيش أسامة»؛ أطلق البُخاريُّ عليه في التبويب ما ذكر، وسأذكر ذلك قريبًا جدًّا.
          ثُمَّ اعلم أنَّ هذه السريَّة التي بعثها ◙ _سريَّة أسامة بن زيد بن حارثة_ بعثها إلى أُبنى؛ وهي أرض الشَّراة، ناحية البلقاء، قالوا: لمَّا كان يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة من مهاجره ◙؛ أمر رسول الله صلعم الناس بالتهيُّؤ لغزو الروم، فلمَّا كان من الغد؛ دعا أسامة بن زيد، فقال: «سِرْ إلى موضع مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل، فقد ولَّيتك هذا الجيش، فأغِرْ صباحًا على أهل أُبنى، وحرِّق عليهم، وأسرع السير لسبق الأخبار، فإن ظَفَّرَك الله؛ فاقتل الليث فيهم، وخذ معك الأدلَّاء، وقدِّم العيون والطلائع معك»، فلمَّا كان يوم الأربعاء؛ بُدِء برسول الله صلعم وجعُه، فحُمَّ وصُدِع، فلمَّا أصبح يوم الخميس؛ عقد لأسامة اللواء بيده، ثُمَّ قال: «اغزُ بسم الله وفي سبيل الله، فقاتل من كفر بالله»، فخرج بلوائه معقودًا، فدفعه إلى بُريدة بن الحُصَيب الأسلميِّ، وعسكر بالجُرف، فلم يبقَ أحد من وجوه المهاجرين الأوَّلين والأنصار إلا انتَدبَ في تلك الغزوة؛ منهم: أبو بكر، وقد تَقَدَّم إنكار أبي العبَّاس ابن تيمية كون أبي بكر معهم، والذي قاله ظاهر صحيح، وكيف يستخلفه في الصلاة ويأمره بالخروج؟! وقيل: إنَّ عمر كان معهم، انتهى، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ عائشة قالت لحفصة: (قولي: فلو أمَرت عمر)، اللهمَّ إلَّا ألَّا تكون عائشة وحفصة علمتا تعيين عمر، والله أعلم، وكان معهم أبو عبيدة ابن الجراح، وسعد بن أبي وقَّاص، وسعيد بن زيد، وقتادة بن النعمان، وسلمة بن أسلم بن حريش.
          فتكلَّم قوم، وقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأوَّلين، والذي عُرِف من القائلين: عيَّاش بن أبي ربيعة، فغضب رسول الله صلعم غضبًا شديدًا، فخرج وقد عَصَبَ على رأسه عِصابة وعليه قطيفة، فصَعِدَ المنبر، وذلك يوم السبت لعشر خلون من شهر ربيع الأوَّل سنة إحدى عشرة، والقصَّة معروفةٌ مشهورةٌ في كتب المغازي والسير، فلا نطوِّل بذكرها كلِّها.
          وقد تأخَّر الجيش؛ لموت رسول الله صلعم، فلمَّا كان هلال ربيع الآخر سنة إحدى عشرة؛ خرج أسامة فسار إلى أهل أُبنى عشرين ليلة، فشنَّ عليهم الغارة، وكان شعارهم: (يا منصورُ أَمِتْ)، فقتل مَن أشرف له، وسبى مَن قدم عليه، وحرَّق في طوائفها بالنار، وحرق منازلهم وحرثهم ونخلهم، وأقاموا يومهم ذلك في تعبئة ما أصابوا من الغنائم، وكان أسامة على فرس أبيه سبحة، وقتل قاتل أبيه في الغارة، وأسهم للفرس سهمين، وللفارس سهمًا، وأخذ لنفسه مثلَ ذلك، فلمَّا أمسى؛ أمر الناس بالرحيل، ثُمَّ أغذَّ السير، فوردوا وادي(1) القرى في تسع ليال، ثُمَّ بعث بشيرًا إلى المدينة بسلامتهم، ثُمَّ قصد بعدُ في السَّير، فسار إلى المدينة ستًّا، وما أصيب من المسلمين أحد، وخرج أبو بكر في المهاجرين وأهلِ المدينة يتلقَّونهم سرورًا بسلامتهم، ودخل على فرس أبيه سبحة، واللواء أمامه يحمله بُريدة بن الحُصيب، حتَّى انتهى إلى باب المسجد فدخل، فصلَّى ركعتين، ثُمَّ انصرف إلى بيته، وبلغ هرقلَ _وهو بحمص_ ما صنع أسامةُ، فبعث رابطةً تكون بالبلقاء، فلم يزل هنالك حتَّى قدمتِ البعوث إلى الشام في خلافة أبي بكر وعمر ☻.


[1] في (أ): (ودي)، ولعلَّ المُثبَت هو الصَّواب.