التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما قيل في العمرى والرقبى

          ░32▒ (بَابُ مَا قِيلَ فِي العُمْرَى وَالرُّقْبَى)
          أَعْمَرْتُهُ الدَّارَ فَهِيَ عُمْرَى، جَعَلْتُهَا لَهُ، {اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61] جَعَلَكُمْ عُمَّارًا.
          2625- ثُمَّ ذَكر فيْه حديثَ جابرٍ قال: (قَضَى النَّبيُّ صلعم بِالعُمْرَى، أَنَّهَا لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ).
          وحديثَ أبي هريرة مرفوعًا: (العُمْرَى جَائِزَةٌ) وَقَالَ عَطَاءٌ: حَدَّثَنِي جَابِرٌ، عَنِ النَّبيِّ صلعم نَحْوَهُ.
          الشَّرح: قال الأزهريُّ في «تهذيبِه»: {اسْتَعْمَرَكُمْ} [هود:61] أي أذن لكم في عِمارتِها واستخرج قُوتكم منْها، وفي الحديث ((لَا تُعْمِرُوا وَلَا تُرْقِبُوا، فَمَنْ أُعْمِرَ دَارًا أَو أُرْقِبَها فَهِيَ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ)).
          قال أبو عُبيدٍ: و(العُمْرَى) أن يقولَ الرَّجل للرَّجل: داري لك عمرَك، أو يقول: داري هذِه لك عُمْرَى، فإذا قال ذلك وسلَّمَها إليْه كانت للمُعمَر ولم ترجع إليْه إن مات.
          و(الرُّقْبَى) أن يقول للَّذي أرقبها: إن مُتَّ قبلي رجعتْ إليَّ، وإن متُّ قبلك فهي لك.
          وأصل (العُمْرى) مأخوذةٌ مِنَ العُمر، و(الرُّقْبَى) مِنَ المراقبة، فأبطل الشَّارعُ هذِه الشُّروط وأمضى الهبة.
          وهذا الحديث أصلٌ لكلِّ مَنْ وهب هبةً وشَرَطَ فيْها شرطًا بعدما قبضَها الموهوب لَه، أنَّ الهبة جائزةٌ، والشَّرط باطلٌ، وقال ابن عَرَفَةَ: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ} [هود:61] أطال أعمارَكم.
          قال ابْنُ سِيْدَه: و(العُمْرَى) المصدر كالرُّجْعى.
          قلت: وهي بضمِّ العين وسكون الميم وبضمِّهما، وبفتح العين وسكون الميم، كما نبَّه عليه القاضي عِياضٌ وغيرُه، وهما مِنْ هبات الجاهليَّة.
          وعبارة أبي عُبيدٍ: تأويل (العُمْرَى) هذِه الدَّار لك عمرَك أو عمري. وأصلُه مِنَ العُمر.
          فإن قلتَ: البخاريُّ ترجم عَلَى (العُمْرَى) و(الرُّقْبَى) ولم يذكر الرُّقْبى.
          قلتُ: كأنَّهُ يرى أنَّهما واحدٌ، كذا أجاب به الدَّاوُدِيُّ فيما نقلَه ابنُ التِّينِ، وممَّن سوَّى بينَهما عليٌّ وابن عبَّاسٍ ومجاهدٌ ووَكِيعٌ، وأجوَدُ منْه أنَّ البخاريَّ أحال عَلَى بقية الحديث، فإنَّ التِّرمِذيَّ أخرجَه بإسنادٍ صحيحٍ عن جابرٍ مرفوعًا: ((الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا، وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا)).
          قال التِّرمِذيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ، وقد روَاْه بعضُهم عن أبي الزُّبير عن جابرٍ موقوفًا، وأخرجَه النَّسائيُّ مِنْ حديث عبد الكريم، عن عطاءٍ، عنْه مرفوعًا: ((نَهَى عن الْعُمْرَى والرُّقْبَى)).
          وفي حديث عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاءٍ: ((لَا تُعْمِرُوا ولا تُرْقِبُوا)) وفي حديث أبي الزُّبير عن جابرٍ: ((وَالرُّقْبَى لِمَنْ أُرْقِبَهَا)).
          وحديث جابرٍ أخرجَه مسلمٌ والأربعة، ولمسلم: ((أَيُّمَا رَجُلٍ أُعْمِرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَإِنَّهَا لِمَنْ أُعْطِيَهَا لَا تَرْجِعُ إِلَى الَّذي أَعْطَاهَا لأنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهَا الْمَوَارِيثُ)). وفي لفظٍ: ((مَنْ أَعْمَرَ رَجُلًا عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ، فَقَدْ قَطَعَ قَوْلُهُ حَقَّهُ فيها وَهِيَ لِمَنْ أُعْمِرَ وَلِعَقِبِهِ)). وفي لفظٍ لَه: ((أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْمَرَ رَجُلًا عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ، فَقَالَ: قَدْ أَعْطَيْتُكَهَا وَعَقِبَكَ مَا بَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدٌ، فإنَّها لِمَنْ أُعْطِيَها وَعَقِبِهِ وإنَّها لَا تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ)).
          وفي لفظٍ عن جابرٍ: ((إنَّما العُمْرَى الَّتي أجازَ رَسُولُ اللهِ صلعم أن يقول: هِيَ لَكَ وَلَعَقِبِك، فأمَّا إذا قال: هِيَ لَكَ مَا عِشْتَ فإنَّها تَرْجِعُ إلى صاحبها)) قال مَعمرٌ: وكان الزُّهْريُّ يُفتي بِه، ويُحكى عنْه أنَّه ◙ قضى فيمن أعمر عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِه، فَهِيَ لَهُ بَتْلَةٌ، لَا يَجُوزُ لِلْمُعْطِي مِنْهَا شَرْطٌ، وَلَا ثُنْيَا.
          قال أبو سَلَمة: لأنَّهُ أعطى عطاءً وقعت فيْه المواريثُ فقَطعت المواريثُ شرطَه.
          وعنْه أيضًا مرفوعًا: ((الْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ)). وعنْه أيضًا مرفوعًا: ((أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا تُفْسِدُوهَا، فَإِنَّهُ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فإنَّها لِلَّذِي أُعْمِرَهَا حَيًّا وَمَيِّتًا، وَلِعَقِبِهِ)). وعنْه أيضًا مرفوعًا: ((أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ)). وعن أبي الزُّبير، عن جابرٍ مرفوعًا: ((العُمْرَى لِصَاحِبِهَا)).
          هذِه الطُّرق كلُّها في مسلمٍ، ولم يُخرج البخاريُّ عن جابرٍ في العُمرى غيرَ ما ساقَه أولًا، وللنَّسائيِّ: ((فَقَدْ قَطَعَ قَوْلُهُ حَقَّهُ)).
          وفي لفظٍ: ((قَدْ بَتَّهَا مِنْ صَاحِبِهَا الَّذي أعطاه)). وفي آخر: ((أَنْ يَهَبَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ وَلِعَقِبِهِ الْهِبَةَ، ويَسْتَثْنِيَ إِنْ حَدَثَ بِكَ حَدَثٌ وَبِعَقِبِكَ فَهِي إِلَيَّ، وَإِلَى عَقِبِي، فإنَّها لِمَنْ أُعْطِيَهَا وَلِعَقِبِهِ)).
          ولأبي داود بإسنادٍ جيِّدٍ: وقضى النَّبيُّ صلعم في امرأةٍ أعطَاْها ابنُها حديقةً فماتت، فقال ابنُها: إنَّما أَعطيتُها حياتَها ولَه إخوةٌ، فقَالَ ◙: ((هِيَ لَهَا حياتَها وموتَها)) قال: كنتُ تصدَّقتُ بِها عليْها، قال: ((ذلك أبعدُ لك)).
          وحديثُ أبي هريرة أخرجَه مسلمٌ بلفظين: ((العُمْرَى جَائزَةٌ)) ((مِيَرَاثٌ لِأَهْلِهَا))، و قال: ((جَائزَةٌ)).
          والبخاريُّ روَاْه عن حفص بن عمر: حَدَّثَنا همَّام، حَدَّثَنا قَتادة، حدَّثني النَّضْر بن أنس، عن بَشير بن نَهِيكٍ، عن أبي هريرة، ثُمَّ قال: وقال عطاء: حدَّثني جابر عن النَّبيِّ صلعم نحوَه.
          وهذا التَّعليق ذكر صاحبُ «الأطراف» أنَّ البخاريَّ روَاْه هنا، عن حفص، عن همَّام، عن قَتادة، عن عطاء.
          ورواه أبو نُعيم، عن أبي إسحاقَ بن حمزةَ حَدَّثَنا أبو خليفة، حَدَّثَنا أبو الوليد، حَدَّثَنا همَّام بِه مثلُه، لا نحوه ولفظُه ((الْعُمْرَى جَائِزَةٌ)).
          ورواه مسلمٌ عن خالد بن الحارث عن شُعبة عن قَتادة عن عطاءٍ بلفظ: ((الْعُمْرَى مِيرَاثٌ لِأَهْلِهَا)) وكأنَّهُ الَّذي أراد البخاريُّ بقوله: نحوه.
          وفي الباب عن عِدَّة مِنَ الصَّحابة:
          أحدها: زيد بن ثابتٍ، أخرجَه ابن حِبَّانَ في «صحيحِه» مَرفوعًا: ((العُمْرَى سَبِيلُهَا سَبِيلُ المِيرَاثِ))، وللنَّسائيِّ: ((لَا تَحِلُّ الرُّقْبَى، فَمَنْ أَرْقَبَ رُقْبَى فَهِيَ سَبِيلُ المِيرَاثِ))، وفي لفظ: ((العُمْرَى مِيرَاثٌ))، وفي لفظ: ((العُمْرَى للِوَارِثِ))، وفي آخر: ((جَائزَةٌ)).
          وآخر: ((مَنْ أَعْمَرَ شَيئًا فَهِي لمعمَره مَحْيَاهُ وَمَمَاتَهُ، لَا تُرْقِبُوا، مَنْ أَرْقَبَ شَيئًا فَهُو سَبِيلُهُ)).
          ثانيها: ابن عبَّاسٍ، أخرجَه أيضًا بلفظ: ((لَا تُرْقِبُوا أَمْوَالَكُمْ فَمَن أَرْقَبَ شَيْئًا، فَهُوَ لِمَنْ أُرْقِبَهُ)).
          والرُّقْبى أن يقولَ الرَّجل: هذا لفلان ما عاش، فإن مات فلانٌ فهو لفلان.
          وحديث طاوسٍ عنْه مرفوعًا: ((العُمْرَى جَائزَةٌ)) قضى بِها في هُذَيل.
          وعن طاوسٍ: ((بَتَل رَسُولُ الله صلعم / العُمْرَى والرُّقْبَى)).
          وفي «المصنَّف» عن طاوسٍ: قال رَسُول الله صلعم: ((لَا تَحِلُّ الرُّقْبَى، فَمَنْ أرقب رُقْبَى فَهِيَ في سَبِيلُ المِيرَاثِ)) وفي لفظٍ: ((فَهِي لِوَرَثةِ الْمُرْقَبِ)).
          ثالثها: ابن عمر، روى عطاءٍ عن حَبيب بن أبي ثابتٍ، عن ابن عمر ولم يسمعه منه قال: قال رَسُول الله صلعم: ((لَا عُمْرَى، وَلَا رُقْبَى، فَمَنْ أُعْمِرَ شَيْئًا أَوْ أُرْقِبَهُ فَهُوَ لَهُ، حَيَاتَهُ وَمَمَاتَهُ)) قال عطاءٌ: هو للآخر.
          قال أحمدُ فيما حكَاْه المَرْوَزيُّ: قال ابن جُرَيْجٍ: إنَّ عطاءً أخبرَنا عنك في الرُّقْبَى، قال حَبيبٌ: لم أسمع مِنِ ابن عمر في الرُّقْبَى شيئًا.
          رابعها: مِنْ حديث معاوية أخرجه أحمدُ مِنْ حديث ابن عَقيل عن ابن الحنفيَّة عنه: سمعت رَسُول الله صلعم يقول: ((الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا)).
          خامسها: حديث الحسن عن سَمُرة أنَّ نبيَّ الله صلعم قال: ((الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا _أو_ مِيْرَاثٌ لِأَهْلِهَا)) أخرجَه التِّرمِذيُّ.
          سادسها: عبد الله بن الزُّبير أخرجَه التِّرمِذيُّ في «عللِه الكبير» قال رَسُول الله صلعم: ((الْعُمْرَى لِمَنْ أُعْمِرَهَا)) يريد مَنْ يرثُه، ثُمَّ قال: سألت محمَّدًا عن هذا الحديث فقال: هو عندي حديثٌ معلولٌ، ولم يذكر عِلَّتَه، ولم يعرفْه حسنًا في الْعُمْرَى.
          إذا تقرَّر ذلك فقد قال التِّرمِذيُّ: العملُ عَلَى هذا عند بعض أهل العلم إذا قال في العُمرى: هي لك حياتَك ولعقبك، فإنَّها لِمَنْ أُعْمِرَها لا ترجع إلى الأوَّل، فإذا لم يقل: لعقبك فهي راجعةٌ إلى الأوَّل إذا مات المعمَر وهو قول الشَّافعيِّ ومالكٍ.
          ورُوي مِنْ غير وجهٍ مرفوعًا: ((العُمْرَى جِائزةٌ لِأَهْلِهَا)) والعملُ عَلَى هذا عند بعض أهل العلم قالوا: إذا مات المعمَر فهي لورثتِه وإن لم يجعل لعقِبِه، وهو قول سفيان بن سعيدٍ وأحمد وإسحاق.
          وقال: والعمل عَلَى هذا عند بعض أهل العلم مِنَ الصَّحابة وغيرِهم أنَّ الرُّقْبَى جائزةٌ مثل العُمْرَى، وهو قول أحمدَ وإسحاقَ، وفرَّق بعض أهل العلم مِنْ أهل الكوفة وغيرِهم بينَهما، فأجازوا العُمْرَى ولم يجيزوا الرُّقْبَى، قال: وتفسير الرُّقْبَى أن يقول: هذا الشَّيء لك ما عشتَ، فإذا متَّ قبلي فهي راجعةٌ إليَّ.
          وقال أحمدُ وإسحاق: الرُّقْبَى مثلُ العُمْرَى، وهي لِمَنْ أُعطِيْها ولا تَرجع إلى الأوَّل.
          قلت: ونقل ابن بَطَّالٍ عن الكوفيِّين والشَّافعيِّ في أحد قوليْه وأحمدَ: العُمْرَى تصير ملكًا للمُعْمَر ولورثتِه ولا تعود ملكًا إلى المعطي أبدًا.
          وفصَّل أصحابنا العُمْرَى فقالوا: إنَّها ثلاث صُوَرٍ الأولى أن يقول: أعمرتُك هذِه الدَّارَ، فإذا مُتَّ فهي لورثتك أو لعَقِبِك، فتصِحُّ قَطْعًا ويملك بهذا اللَّفظ رقبة الدَّار، وهي هبةٌ لكنَّه طوَّل العبارة.
          وقولُه: فهي لورثتك باليد لملكِه، ولا ينبغي أن يحمل عَلَى الباقين والشَّرط، فإذا مات فالدَّار لورثتِه، فإن لم يكونوا فلبيت المال ولا تعود إلى الواهب بحالٍ لرواية مسلمٍ السَّالفة: (أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْمَرَ عُمْرَى...) إلى آخرِه، ولا فرق في العُمْرَى بين العقار وغيرِه، وإن كان كثيرٌ مِنْ أصحابنا إنَّما فرضُوْها في العقار، وجماعةٌ منْهم صرَّحوا بِها في كلِّ شيءٍ، ولا خلاف في ذلك.
          وذكر الرَّافعي العبدَ، وعن أحمدَ في الجارية يُعْمِرُها: لا أرى لَه وَطْأها، أي تورُّعًا.
          الثَّانية: أن يقتصر عَلَى أعمرتُك، فالجديد الصِّحَّة ولَه حكم الهبة لحديث أبي هريرة في الباب.
          وفي القديم ثلاثة أقوالٍ أشهرُها بطلانها لقول جابرٍ السَّالف عند مسلمٍ ولأنَّهُ تمليكٌ مؤقَّتٌ فبطَل كالبيع وكما لو أقَّتَها سنةً.
          والثَّاني: أنَّها تكون للمُعمَر في حال حياتِه، فإذا مات رجعَت إلى المُعمِر أو لورثتِه لحديث جابرٍ السَّالف [خ¦2625] وهو غريبٌ.
          والثَّالث: أنَّها عاريَّةٌ، يستردُّها المعمِر متى شاء، فإذا مات المعمَر عادت إلى صاحبِها وهو الواهب.
          الثَّالثة: أن يقول جعلتُها لك عمرَك، فإذا مُتَّ عادت إليَّ أو إلى ورثتي إن كنتُ مُتُّ.
          فالأصحُّ عندنا الصِّحَّة وإلغاء الشَّرط، لإطلاق الأحاديث الصَّحيحة، وأغْرَبَ بعضُ أصحابنا فقال: يصِحُّ ولا يُلغَى الشَّرط حكَاْه صاحب «النَّبيه مختصر التَّنبيه» وهو ابن يونُسَ، وكأنَّهم عَدَلُوا بِه عن سائر الشُّروط الفاسدة، والقياسُ البطلانُ.
          وحاصل المذهب الصِّحَّةُ في الثَّلاث وأنَّ الموهوب لَه يملكُها ملكًا تامًّا، يتصرَّف فيْها بالبيع وغيرِه مِنَ التَّصرُّف، وقال أبو حنيفة بالصِّحَّة كمذهبِنا، وبِه قال الثَّوْريُّ والحسن بن صالحٍ وأبو عبيدٍ.
          وقال ابن بَطَّالٍ: اختلف العلماء في العُمرى، فقال مالكٌ: إذ قال: أعمرتُك داري أو ضيعتي، فإنَّهُ قد وهب لَه الانتفاعَ بذلك مدَّة حياتِه، فإذا مات رجعتِ الرَّقبة إلى المالك وهو المعمِر، وإذا قال: قد أعمرتك وعقبك فإنَّه قد وهب لَه ولعقبِه الانتفاع ما بقي منْه إنسانٌ، فإذا انقرضوا رجعت الرَّقبة إلى المالك المعمِر لأنَّهُ وهب لَه المنفعة ولم يهب الرَّقبة، وروي مثلُه عن القاسم بن محمَّدٍ ويزيدَ بن قُسَيْطٍ وهو أحد قولي الشَّافعيِّ، وقال الكوفيُّون والشَّافعيُّ في الآخر وأحمدُ: تصير ملكًا للمعمَر ولورثتِه ولا تعود إلى المعطي أبدًا.
          واحتجُّوا بما رواه مالكٌ عن ابن شهابٍ عن أبي سَلَمة، عن جابرٍ أنَّه ◙ قال: ((أَيُّمَا رَجُلٍ أُعْمِرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ، فَإِنَّهَا لِلَّذِي يُعْطَاهَا، لَا تَرْجِعُ للَّذِي أَعْطَاهَا لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ))، وقالوا: إنَّ مالكًا روى هذا الحديث وخالفَه وقال: ليس عليه العملُ.
          واحتجَّ أصحابُه بأنَّ الإعمار عند العرب والإفقار والإسكان والمنحة والعاريَّة والإعراء إنَّما هو تمليكُ المنافع لا الرِّقاب.
          وللإنسان أن ينقل منفعة الشَّيء الَّذي يملك إلى غيرِه مدَّةً معلومةً ومجهولةً، إذا كان ذلك عَلَى غير العِوض لأنَّ ذلك فعل خيرٍ ومعروفٍ، ولا يجوز أن يخرج شيءٌ مِنَ ملكِ مالكِإلَّا بيَقِيْنٍ ودليلٍ عَلَى صِحَّة، وقد قال القاسم بن محمَّدٍ: ما أدركتُ النَّاس إلَّا عَلَى شروطِهم فيما أعطَوا.
          والدَّليل عَلَى أنَّ العُمْرَى لا تقتضي نقلَ الملك عن الرَّقبة أنَّهُ لو قال: بعتُك شهرًا أو تصدَّقت بِه عليك شهرًا، وأراد نقل ملك الرَّقبة لم يصحَّ، وكذلك إذا قال: أعمرتُك لأنَّهُ علَّقه بوقتٍ مقيَّدٍ، وهو عمرُه.
          وأمَّا حديث جابرٍ الَّذي احتجُّوا بِه فهو حُجَّةٌ عليْهم، وذَلِكَ أنَّ المعمِر إذا أَعمر زيدًا وعَقِبَه، فليس لَه أن يرجع فيما أعطى زيدًا، فكذلك فيما أعطى عَقِبَه، والكوفيُّ خالف هذا الحديث ولم يقل بظاهرِه كما زعم لأنَّه يقول: إنَّ للمعمِر بيعَ الشَّيءِ الَّذي أعمرَه ومنعَ ورثتَه / منْه، وهذا خِلاف شرط المعمِر لأنَّه أعطى عَقِبَه كما أعطَاْه، وليس هو بأولى بالعطيَّة مِنْ عقبِه، وهو معنى قولِه ◙: ((لأنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وقعت فيه المَوَارِيثُ)) يعني التَّداولَ للمنفعة لا ميراث الرَّقبة، وقد قال تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [الأحزاب:27]، فلم يملكُوْها بالمواريث الَّتي فرض الله تعالى، وإنَّما أخذوا منْهم ما كان في أيدِيْهم، فكذلك العَقِب في العُمْرى يأخذ ما كان لأبيْه بعطيَّة المالك.
          قال: واختلفوا في الرُّقْبى فأجازَها أبو يوسف والشَّافعيُّ كأنَّها وصيَّةٌ عندَهم، وقال مالكٌ والكوفيُّون ومحمَّدٌ: لا يجوز، واحتجُّوا بحديث ابن عمر السَّالفِ، ولفظُه نهى رَسُول الله صلعم عن الرُّقْبَى، وقال: ((مَنْ أُرْقِبَ رُقْبَى فَهِيَ لَهُ)).
          والرُّقْبَى عند مالكٍ أن يقول: إن مُتُّ قبلك فداري لك وإن مُتَّ قبلي فدارك لي، فكأنَّكلُّ واحدٍ منْهما يقصد إلى عوضٍ لا يدري هل يحصل لَه، ويتمنَّى كل واحدٍ منْهما موت صاحبِه، وليس كذلك العُمْرى لأن المعمِر لا يقصد عوضًا عن الَّذي أَخرج عن يدِه.
          فرعٌ: لو قال: جعلتُها لك عُمرى أو عُمْرَ زيدٍ.
          فقيل: هو كما لو قال: جعلتُها لك عمرك أو حياتك لشمول اسم العُمْرى، فالأصحُّ عندنا البطلان لخروجِه عن اللَّفظ المعتاد، ولما فيْه مِنْ تأقيت الملك.
          فرعٌ: قال: داري لك عمرَك، فإذا مُتَّ فهي لزيدٍ، أو عبدي لك عمرَك فإذا مُتَّ فهو حُرٌّ، صحَّت عندنا عَلَى الجديد، ولَغَا المذكورُ بعدَها، وقد أوضحت فروع العُمْرَى وتفاصيل الرُّقْبَى في كتب الفروع فهو أليقُ بِه منْها.
          لو باع عَلَى صورةِ العُمْرَى فقال: ملَّكتُها بعشرة عمرك، وفيْه وجهان لأنَّهُ تطرُّق الجهالة إلى الثَّمن.
          خاتمةٌ:
          قال ابن التِّينِ: تفسير العُمْرَى أن يقول الرَّجل للآخر: أعمرتُك عمر العطاء.
          وقال بعض أهل اللُّغة: عمر المعطى، وقيل: يصحُّ فيْهما فهي عند مالكٍ هبة الدَّار حياةَ المعطى، وعند الشَّافعيِّ يملكُها المعطي.