التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا وهب هبةً أو وعد ثم مات قبل أن تصل إليه

          ░18▒ (بَابُ مَنْ وَهَبَ هِبَةً أَوْ وَعَدَ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ)
          وَقَالَ عَبِيدَةُ: إِنْ مَاتَ وَكَانَتْ فُصِلَتِ الهَدِيَّةُ، وَالمُهْدَى لَهُ حَيٌّ فَهِيَ لِوَرَثَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فُصِلَتْ فَهِيَ لِوَرَثَةِ الَّذي أَهْدَى. وَقَالَ الحَسَنُ: أَيُّهُمَا مَاتَ قَبْلُ فَهِيَ لِوَرَثَةِ المُهْدَى لَهُ، إِذَا قَبَضَهَا الرَّسُولُ.
          2598- ثُمَّ ذكر حديثَ جابرٍ: (لَوْ قد جَاءَ مَالُ البَحْرَيْنِ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا ثَلاَثًا)، وقد سلف [خ¦2296].
          واختَلف العلماء في الَّذي يَهب أو يتصدَّق عَلَى رجلٍ ثُمَّ يموت الواهب أو المتصدِّق قبل أن يصلَ إلى الموهوب لَه
          فذكر البخاريُّ قولَ عَبِيْدَةَ _وهو السَّلْمانيُّ بفتح العين_ والحسن، وبمثل قول الحسن قال مالكٌ: إن كان أشهدَ عليْها أو أبرزَها أو دفعَها إلى مَنْ يدفعُها إلى الموهوب لَه، فهي جائزةٌ، كذا نقلَه عنْه ابن بَطَّالٍ.
          وقال ابن التِّينِ: قول مالكٍ: إن شهد الباعثُ والمبعوث إليْه حيٌّ يومئذٍ، وفي «كتاب محمَّدٍ»: مَنْ مات منْهما رجعت إلى ورثة الميِّت، إن لم يشهد.
          وفيْها قولٌ ثالثٌ وهو: إن كان بعث بِها المهدي مع رسولِه، فمات الَّذي أُهديت إليْه، فإنَّها ترجع إليْه، وإن كان أرسلَ بِها مع رَسُول الَّذي أُهديت إليْه فمات المهدى إليْه فهي لورثتِه، هذا قول الحكم وأحمدَ وإسحاقَ. وقالت طائفةٌ: لا تتمُّ الهبة إلَّا بقبض الموهوب لَه أو وكيلِه، فأيُّهما مات قبل أن تصل الهبة إلى الموهوب لَه، فهي راجعةٌ إلى الواهب أو إلى ورثتِه، هذا قول الشَّافعيِّ.
          وروى مسلم بن خالدٍ، عن موسى بن عُقبة، عن أمِّه، عن أمِّ كلثوم: لمَّا تزوَّج النَّبيُّ صلعم أمَّ سَلَمة قال: ((إنِّي أهديتُ للنَّجاشِيِّ أَوَاقِيَّ مِنْ مِسْك وحُلَّةً، ولَا أراهُ إلَّا قد مَاتَ، ولا أُرى الهديَّةَ الَّتي أهْدَيتُ إليهِ إلَّا ستُردُّ إليَّ، فإذا رُدَّت فَهِي لكَ)).
          واختَلف الفقهاء فيما يلزم مِنَ العِدَة، وفيما لا يلزم منْها، فقال الكوفيُّون والأوزاعيُّ والشَّافعيُّ: لا يلزم مِنَ العِدَة شيءٌ لأنَّها منافعُ لم تقبض، فلصاحبِها الرُّجوعُ فيْها.
          وقال مالكٌ: أمَّا العِدَة مثلُ أن يسأل الرَّجلُ الرَّجلَ أن يَهب لَه هبةً، فيقولَ لَه: نعم، ثُمَّ يبدوَ لَه ألَّا يفعلَ، فلا أرى ذلك يلزمُه.
          قال مالكٌ: ولو كان ذلك في قضاء دَينٍ فسألَه أن يقضيَه عنْه فقال: نعم، وثَمَّ رجالٌ يشهدون عليْه فما أحراه أن يلزمَه إذا شهد عليْه اثنان!.
          وقال ابن القاسم: إذا وعد الغرماء فقال: أُشْهِدُكم أنَّي قد وهبتُ لهذا مِنْ أين يؤدَّى إليكم، فإنَّ هذا يلزمُه، وأمَّا أن يقول: نعم، أنا أفعل ثُمَّ يبدو لَه، فلا أرى ذلك عليْه.
          وقال سُحْنون: الَّذي يلزمُه في العِدَة في السَّلف والعاريَّة أن يقول للرَّجل: اهدمُ دارك وأنا أسلِّفك ما تبنيْها بِه، أو اخرج إلى الحجِّ وأنا أسلِّفكَ ما يُبَلِّغُكَ، أو اشترِ سلعة كذا، أو تزوَّج وأنا أسلِّفُكَ.
          ذلك ممَّا يدخلُه فيْه وينشئُه بِه، فهذا كلُّه يلزمُه، قال: وأمَّا أن يقول: أنا أُسلِّفُكَ وأنا أعطيك بغير شيءٍ، يلزمُه المأمورُ نفسُه، فإنَّ هذا لا يلزمه شيءٌ، وقال أصبغُ: يلزمُه في ذلك كلُّ ما وعد بِه.
          قال ابن العربيِّ: وأجلُّ مَنْ ذهب إلى هذا المذهبِ عمرُ بن عبد العزيز، ورجَّح الأوَّلَ ابن بَطَّالٍ وقال: إنَّهُ أشبهُ بمعنى الحديث، أَلَا ترى فُتيا عَبِيْدَةَ السَّلْمَانيِّ والحسن في أنَّ الهبة والعِدَة إنَّما تتمُّ إذا وصلت إلى الْمُهدَى لَه قبل موت الواهب والموهوب لَه في قول الحسن، وفي قول عَبِيْدَةَ: إن مات الموهوب لَه قبل أن تصل إليْه الهبة فهي لورثة الواهب.
          وذكر عبد الرَّزَّاق عن قَتادة كقول الحسن، وهذا يدلُّ مِنْ فُتيَاْهم أنَّهم تأوَّلوا قولَه ◙ لجابرٍ: (لَوْ قَدْ جَاءَ مَالُ البَحْرَيْنِ أَعْطَيْتُكَ) أنَّها عِدَة غير لازمٌ الوفاءُ بِها في القضاء لأنَّها لم تكن فَصلت مِنْ عند رَسُول الله صلعم قبل موتِه وإنَّما وعد بِها جابرًا، وهو قولُه: (لَوْ قَدْ جَاءَ مَالُ البَحْرَيْنِ) فمات رَسُول الله صلعم قبل ذلك، ولذلك ذكر البخاريُّ قولَ عَبِيْدَةَ والحسن في أوَّل الباب، ليدلَّ / أنَّ فعل الصِّدِّيق في قضائِه عِداتِ رَسُولِ اللهِ صلعم بعد موتِه أنَّها كانت منْه عَلَى التَّطوُّع ولم يكن يلزم الشَّارعَ ولا الصِّدِّيقَ قضاءُ شيءٍ منْها، لأنَّهُ لم يروَ عن أحدٍ مِنَ السَّلف وجوبُ القضاء بالعِدَة، وإنَّما أنفذ ذلك الصِّدِّيقُ بعد موتِه ◙ اقتداءً بطريقة رَسُول الله صلعم ولفعلِه، فإنَّهُ كان أوفى النَّاس بعهدٍ وأصدقَهم بوعدٍ.
          قلت: قد ذكر البخاريُّ أنَّ ابن أَشْوَع وسَمُرة قضيا بِه، وفي «تاريخ المُنْتَجِيليِّ» أنَّ عبد الله بن شُبْرُمة قضى عَلَى رجلٍ بوعدٍ وحبسَه فيْه، وتلا قولَه تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:3].
          تنبيهان:
          أحدُها اعترض الإسماعيليُّ فقال: هذا البابُ لا يدخل في الهبة بحالٍ، وليس ما قالَه لجابرٍ هبةً، وإنَّما هو عِدَةٌ عَلَى وصفٍ إذا كان صحَّ الوعدُ، ولكن لمَّا كان وعدُه لا يجوز أن يعترضَه خُلْفٌ أو يعوِّق دون الوفاء بِه معنًى جعلوا وعدَه بمنزلة الضَّمان في الصِّحَّة، فرقًا بين وعدِه الَّذي لا خُلْف لَه وبين وعد غيرِه مِنَ الأمَّة، ممَّن يجوز أن يفيَ بِه وقد لا يفي.
          ثانيهما قَالَ المُهلَّب: إنجاز الوعد مندوبٌ إليْه، وليس بواجبٍ فرضًا، والدَّليلُ عَلَى ذلك اتِّفاقُ الجمع عَلَى أنَّ مَنْ وعد بشيءٍ لم يضارب بِه مع الغرماء.
          ولا خلاف أنَّهُ مستحسنٌ ومِنْ مكارم الأخلاق، وعِدةُ جابرٍ لم تكن في ذِمَّة رَسُول الله صلعم، إنَّما ادَّعى شيئًا في بيت المال والفيء، وذاك موكولٌ إلى اجتهاد الإمام.
          وقال ابن التِّينِ: إنَّما أعطَاْه الصِّدِّيق ليبلغ مراد رَسُول الله صلعم.
          وقول جمهور العلماء: إنَّ هذا لو كان مِنْ غير مراد رَسُول الله صلعم لم يقبض لَه في مالِه بعد موتِه في العِدَة، قال: والحاصل في العِدَة ثلاثة أقوالٍ: لا، نعم، إن كانت العِدَة لسببٍ مثلَ أن يقول: اهدم دارك وأنا أبنِيْها أنَّ ذلك يلزم وإن لم يهدم، وأمَّا أن يهدمَها فمتَّفقٌ عليْه أنَّ ذلك يلزمه مات أو عاش في ذمَّتِهِ أو فلس كالدَّين.