التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الهبة للولد

          ░12▒ (بَابُ الهِبَةِ لِلْوَلَدِ، وَإِذَا أَعْطَى بَعْضَ وَلَدِهِ شَيْئًا لَمْ يَجُزْ حتَّى يَعْدِلَ بَيْنَهُمْ وَيُعْطِيَ الآخَرِينَ مِثْلَهُ، وَلَا يُشْهَدُ عَلَيْهِ).
          وَقَالَ النَّبيُّ صلعم: (اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ فِي العَطِيَّةِ).
          وَهَلْ لِلْوَالِدِ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَطِيَّتِهِ؟ وَمَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَتَعَدَّى.
          وَاشْتَرَى النَّبيُّ صلعم مِنْ عُمَرَ بَعِيرًا ثُمَّ أَعْطَاهُ ابْنَ عُمَرَ، وَقَالَ: (اصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ).
          2586- ثُمَّ ساق حديثَ النُّعمان بن بشيرٍ أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ النَّبيَّ صلعم فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلاَمًا، فَقَالَ: (أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ) قَالَ: لاَ، قَالَ: (فَارْجِعْهُ).
          الشَّرح: هذا التَّبويب مُنتَزعٌ مِنْ حديث النُّعمان بن بَشيرٍ.
          وقولُه: (وَلَا يُشْهَدُ عَلَيْهِ) قال ابن بَطَّالٍ: / معناه الرَّدُّ لفعل الأب إذا فضَّل بعض بنيْهِ، وأنَّهُ لا يسعُ الشُّهودَ أن يشهدوا عَلَى ذلك مِنْ فعل الأب إذا تبيَّن لَهم الميلُ مِنَ الأب كما لم يشهد الشَّارع عَلَى عطيَّةِ بشيرٍ ابنَه النُّعمانَ دون إخوتِه، وكان ذلك سُنَّةً مِنَ الشَّارع ألَّا يشهدَ عَلَى عطيَّةٍ تبيَّنَ فيها الجَورُ.
          قلتُ: هذا تأويلُ مَنْ مَنعَ وهو الظَّاهر، ومَنْ قال: خالف المستحبَّ، أجاب بأنَّهُ قد أَذِن في الشَّهادة وقال: (أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي).
          وقد يُجَاب بأنَّهُ مِنْ باب التَّهكُّم، وقد ذكره البخاريُّ في كتاب الشَّهادات [خ¦2650]، وقال فيه: ((لَا أَشْهُد عَلَى جَورٍ)).
          وقولُه: (وَقَالَ النَّبيُّ صلعم: اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ فِي العَطِيَّةِ) قد أسندَه في الباب بعدَه [خ¦2587] بدون لفظ العطيَّة.
          وقولُه: (وَهَلْ لِلْوَالِدِ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَطِيَّتِهِ) قد أسند بعدَه قوله: (فَارْجِعْهُ) ومرادُه إذا جاز لَه ارتجاعُ هبتِه _كما في الحديث_ جاز الأكلُ، وهذا يدلُّ عَلَى أنَّ مذهبَه الصِّحَّةُ، كما سيأتي.
          وقولُه: (وَمَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ...) إلى آخرِه. هذا في حديث عمرو بن شُعيبٍ، عن أبِيْه عن جدِّه عند الحاكم مرفوعًا، وحسَّنَهُ التِّرمِذيُّ مِنْ حديث عائشة.
          قال ابن المنَيِّر: جميعُ ما في هذِه التَّرجمة يَظهر استخراجُه مِنْ حديث النُّعمان إلَّا هذا.
          ووجه مناسبة هذِه الزِّيادة أنَّ الاعتصار انتزاعٌ، وكأنَّهُ حقَّق معنَاْه مِنَ الحديث ويُمَكَّن الأب منْه بالوفاق عَلَى أنَّ لَه أن يأكلَ مِنْ مالِه، فإذا انتزع ما يأكلُه مِنْ مالِه الأصليِّ، ولم يتقدَّم لَه فيْه ملكٌ، فلأنْ ينتزع ما وهبَه بحقِّهِ السَّابق فيْه أَولى.
          واشتراؤُه مِنْ عمر البعيرَ وإعطاؤُه ابنَ عمر قد سلف [خ¦2115] قريبًا مسندًا، وهو دالٌّ عَلَى ما بوَّب بِه البخاريُّ مِن التَّسوية بين الأبناء في الهبة لأنَّهُ ◙ لو سأل عمرَ أن يهبَ البعير لابنِه عبد الله لم يكن عدلًا بين بني عمر، فلذلك اشترَاْه ووهبَه لابنِه عبد الله، ولو أشار عَلَى عمر لِيَهَبَه لابنِه عبد الله لبادر إلى ذلك، وهذا مِنْ لطيف تبويبِه، وإن كان يحْتَمل أنَّهُ ◙ اشتراه ثُمَّ بدا لَه بعد ذلك هبتُه لابن عمر، وفي ذلك إشارةٌ إلى أنَّ غير الأب لا يلزمُه التَّسويةُ فيما يَهبهُ بعضَ ولد الرَّجل كما يلزم الأبَ أو يستحبُّ في ولدِه لِمَا جبل الله النُّفوس عليْه مِنَ الغضب عند أَثَرة الآباء بعضَ بنيْهم دون بعضٍ، ولو لزمت التَّسويةُ بين الإخوة مِنْ غير الأب كما لزمت مِنَ الأب لِمَا وهب ◙ أحد بني عمرَ دون إخوتِه.
          2587- وحديث النُّعمان أخرجَه مسلمٌ أيضًا، ولَه ألفاظٌ منْها: أَعْطَانِي عَطِيَّةً، فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللهِ صلعم فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ عَطِيَّةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ، فَقَالَ: (أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟) قَالَ: لاَ، قَالَ: (فَاتَّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ) قَالَ: (فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ). وفي لفظٍ: (لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَورٍ).
          وفي لفظٍ سلف [خ¦2650]: ((لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ)) وقال أبو حَرِيزٍ، عن الشَّعبيِّ: ((لا، لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ)).
          ووصلَه ابن حِبَّانَ مِنْ حديث الفُضيل عنْه وهو ابن مَيسرةَ كما بيَّنَه الطَّبرانيُّ.
          ولمسلمٍ: ((فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي))، ثُمَّ قال: ((أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا لَكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً)) قال: بلى، قال: ((فلا إذًا))، وفي لفظٍ: ((ليسَ يَصْلُحُ هَذَا))، قال ابن عونٍ: فحدَّثتُ بِه محمَّدًا فقال: إنَّما يحَدِّثَنا أنَّهُ قال: ((قَارِبُوا بَيْنَ أَبْنَائِكُمْ)). وفي لفظٍ لأبي داود أنَّه قال للغلام: ((رُدَّه)) ولَه: ((اعْدِلُوا بَيْنَ أَبْنَائِكُمْ، اعْدِلُوا بَيْنَ أَبْنَائِكُمْ)). وللنَّسائيِّ: إنِّي نَحَلتُ ابني غلامًا فإن شئتَ أن أُنْفِذَه أنفذتُهُ، قال: ((لَا، فَارْدُدْهُ)) ولَه: ((أنَّهُ تصدَّق عليه به)). ولَه: ((أَلَكَ وَلَدٌ غَيْرُهُ)) قال: نعم، فصفَّ بيدِه بكفِّهِ أجمعَ كذا: ((أَلَا سَوَّيْتَ بَيْنَهُمْ)). وللإسماعيليِّ في «صحيحِه»: ((هذا جَورٌ)) وهَجَّنَه.
          وللبزَّار: ((إِنَّ لِبَنِيكَ عَلَيْكَ مِنَ الْحَقِّ أَنْ تَعْدِلَ بَيْنَهُمْ، كَمَا أَنَّ لَكَ عَلَيهِم مِنَ الحقِّ أَنْ يَبَرُّوكَ)). وللطَّبرانيِّ: ((لَا أَشْهَدُ عَلَى حَيْفٍ))، ولَه: ((اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ)) قالَها ثلاثًا.
          ولعبد الرَّزَّاق في «مصنَّفِه» عن ابن جُرَيْجٍ: أخبرنا ابن طاوسٍ، عن أبيْه أنَّه ◙ مرَّ ببشيرٍ فقال لَه بشيرٌ: اشهد أنِّي قد نَحَلتُ ابني هذا عَبْدًا أو أَمَةً، وفيْه: ((فإنِّي لَا أَشْهَدُ إلَّا عَلَى الحقِّ)).
          إذا تقرَّر ذَلِكَ فالكلام عليْه مِنْ أوجهٍ
          أحدُها قال ابن حِبَّانَ في «صحيحِه»: تبايُن ألفاظ هذِه القصَّة يُوْهِم تضادَّ الخبر وليس كذلك لأنَّ النَّحْل مِنْ بشيرٍ لابنِه كان في موضعين متباينين، وذَلِكَ أنَّهُ أوَّلَ ما وُلد أبتْ عَمْرة أن تربِّيْه حتَّى يجعلَ لَه حديقةً ففعل، وأراد الإشهاد عَلَى ذلك، فقَالَ ◙: ((لَا تُشْهِدْنِي، إِلَّا عَلَى عَدْلٍ، فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ)) عَلَى ما في خبر أبي حَرِيزٍ فلمَّا أتى عَلَى الصَّبيِّ مدَّةٌ، قالت عَمْرة لبَشيرٍ: انحَلِ ابني هذا فالْتَوى عليها سنةً أو سنتين، عَلَى ما في خبر أبي حيَّان والمُغيرة عن الشَّعبيِّ فَنَحلَهُ غلامًا فلمَّا جاء إلى رَسُول الله صلعم ليُشْهِدَهُ فقال: ((لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ)).
          قال: ويشبه أن يكون أبا النُّعمان قد نسي الحُكْم الأوَّل وتوهَّم أنَّهُ قد نسخ بقولِه ثانيًا: ((لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ)) زيادةُ تأكيدٍ في نفي جوازِه.
          والدَّليل عَلَى أنَّ النَّحْل في الغلام للنُّعمان كان ذلك وهو مترعرعٌ أنَّ في خبر عاصمٍ عن الشَّعبيِّ أنَّهُ ◙ قال لَه: ((مَا هَذا الغُلَامُ الَّذي مَعَكَ)) قال: أعطانِيْهِ أبي، فدليل هذِه اللَّفظة أنَّ هذا النَّحْل الَّذي في خبر أبي حَرِيزٍ في الحديقة أنَّ أُمَّه امتنعت مِنْ تربيتِه عندما ولدتْه ضدُّ قول مَنْ زعم أنَّ أخبار المصطفى مُتضادَّةٌ.
          الثَّاني: اختلف العلماء في الرَّجل يَنْحَل ولدَه دون بعضٍ عَلَى قولين
          أحدُهما: لا يجوز ذلك، قال طاوسٌ: لا يجوز ولا رغيفًا محرَّقًا، وهو قول عروة ومجاهدٍ، وبِه قال أحمد وإسحاق، قال إسحاق: فإن فعل فالعطيَّة باطلةٌ وإن مات النَّاحل فهو ميراثٌ بينَهم.
          واحتجُّوا بحديث الباب وردِّهِ عطيَّةَ النُّعمانِ وقال لَه: (اتَّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا)، و ((لا أشهد عَلَى جورٍ))، و((إلَّا عَلَى الحقِّ)).
          قال ابن عبد البرِّ: لا يجوز لأحدٍ أن يفضِّلَ بعضَ ولدِه عَلَى بعضٍ، فإن فعل لم ينفذ وفُسِخَ، وبِه قال داود وأصحابُه، وقال الخِرَقيُّ في «مختصرِه» عنْه وإذا فاضل بعضَ ولدِه في العطيَّة أمرَه بردِّهِ كما فعل رَسُول الله صلعم، فإن مات ولم يردَّهُ فقد ثبت لِمَنْ وهب لَه إذا كان ذلك في صحَّتِهِ، وقال ابن حِبَّانَ في «صحيحِه»: لا يجوز، وبسطه بسطًا شافيًا.
          وثانيْهما: / الجواز، وهو الأشهر عن مالكٍ، وبِه قال الكوفيُّون والشَّافعيُّ، وإن كانوا يستحبُّونَ التَّسوية بينَهم، ذُكرانًا كانوا أو إناثًا.
          وقال عطاءٌ وطاوسٌ: يجعل للذَّكر مثلَ حظِّ الأُنثيين كقِسمة الإرث، وهو قول شُرَيْحٍ والثَّوْريِّ ومحمَّد بن الحسن وأحمدَ وإسحاقَ، وبعضِ المالكيَّة، وبعضِ الشَّافعيَّة، ومِنْ حُجَّة مَنْ منع أنَّهُ مؤدٍّ إلى قطع الرَّحم والعقوق، فيجب أن يكون ممنوعًا منْه لأنَّهُ لا يجوز عليْه ◙ أن يحثَّ عَلَى صلة الرَّحم ويجيزَ ما يؤدِّي إلى قطعِها، قالوا: وكان النُّعمان وقتَ ما نحلَه أبُوْه صغيرًا، وكان أبُوْه قابضًا لَه لصغرِه عنْه، فلمَّا قال: ((ارْدُدْهُ)) بعدما كان في حكم ما قُبض، دلَّ عَلَى أنَّ النَّحْل لبعض ولدِه لا ينعقد ولا يملكه المنحول.
          ومِنْ حُجَّة المجيز أنَّ حديث النُّعمان لا دليل فيْه عَلَى أنَّهُ كان حينئذٍ صغيرًا، ولعلَّهُ كان كبيرًا ولم يكن قبضَه.
          وقولُه: ((فأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي)) خلاف ما في الحديث الأوَّل، وهذا القول لا يدلُّ عَلَى فساد العَقد الَّذي عُقد للنُّعمان لأنَّه ◙ قد يتوقَّى الشَّهادة عَلَى ما لَه أن يشهدَ عليْه.
          وقولُه: ((أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي)) دليلٌ عَلَى صحَّةِ العَقْد، وقد أمرَه ◙ بالتَّسوية بينَهم ليستووا جميعًا في البِرِّ، وليس في شيءٍ مِنْ هذا فسادُ العَقد عَلَى التَّفضيل، وكان كلامُه ◙ عَلَى سبيل المشورة، وعلى ما ينبغي أن يفعل عليْه إن آثر فعلَه، وكان ◙ إذا قسم شيئًا بين أهلِه سوَّى بينَهم جميعًا وأعطى المملوك كما يعطي الحُرَّ، ليس ذلك عَلَى الوجوب، ولكنْ مِنْ باب الإحسان.
          وقد روى مَعمرٌ عن الزُّهْريِّ عن أنسٍ قال: كان مع رَسُول الله صلعم رجلٌ فجاء ابنٌ لَه فقبَّلَه وأجلسَه عَلَى فخذِه، ثُمَّ جاءت ابنةٌ لَه فأجلسَها إلى جنبِه قال: ((فَهَلَّا عَدَلْتَ بَيْنَهُما)) أفلا ترى رَسُول الله صلعم أراد منْه التَّعديل بين الابن والبنت، وألَّا يفضِّل أحدَهما عَلَى الآخر؟
          فإن قلتَ: فما الجواب عن قولِه: ((لَا أَشْهَدُ عَلَى جَورٍ))؟ فإنَّ ظاهرَه المنع.
          قلت: جوابُه أنَّه ليس بأشدَّ مِنْ قولِه: (فَارْجِعْهُ).
          وهذا يدلُّ أنَّ العطيَّة قد لزمت وخرجت عن يدِه، ولو لم تكن صحيحةً لم يكن لَه أن يرتجع لأنَّها ما مضت ولا صحَّت فيرتجع فأمرَه بذلك لأنَّ المستحَبَّ التَّسويةُ، ولمَّا أجمعوا عَلَى أنَّهُ مالكٌ لمالِه وأنَّ لَه أن يعطيَه مَنْ شاء مِنَ النَّاس، كذلك يجوز أن يعطيَه مَنْ شاء مِنْ ولدِه.
          والدَّليل عَلَى جواز ذلك أنَّ الصِّدِّيق نحل ابنتَه عائشةَ دون سائر ولدِه، ونحلَ عمرُ ابنَه عاصمًا دون سائر ولدِه، ونحلَ عبد الرَّحمنِ بن عوف ابنتَه مِنْ أمِّ كلثوم ولم ينحل غيرَها، فأبو بكرٍ وعمرُ إماما هدًى وعبد الرَّحمنِ ومحلُّه ولم يكن في الصَّحابة مَنْ أنكر ذلك.
          وحُجَّة مَنْ جعلَه كالفرائض قولُه (أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَ هَذَا) ولم يقل لَه: هل فضَّلتَ الذَّكر عَلَى الأنثى، ولو كان ذلك مستحبًّا لسألَه عنْه كما سألَه عن التَّشريك في العطيَّة، فثبت أنَّ المعتبَر عطيَّةُ الكلِّ عَلَى التَّسوية، وفي حديث: ((سَوُّوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ فَلَوْ كُنْتُ مُفَضِّلًا أَحَدًا لَفَضَّلْتُ البَنَاتِ)) لكنَّهُ لا يقاوم ظاهرَ ما في الصَّحيح.
          فإن قلت: لم يكن لبشيرٍ بنت، فلذلك لم يسألْه كما صرَّح بِه ابن إسحاق في «سيرِه».
          قلت: قد كان لَه _يعني للنُّعمان_ أختٌ لَها خبرٌ، كما نقلَه المحدِّثون، وأبعدَ مَنْ قال: يحْتَمل أن يكون أولادُه كلُّهم ذكورًا.
          وقال ابن حَزْمٍ: ما سلف في التَّطوُّعات أعني التَّسوية، وأمَّا النَّفقات الواجبة فلا، وكذا الكِسوة يعطي كلَّ واحدٍ بحسب حاجتِه، وينفق عَلَى فقيرِهم دون غيرِهم.
          قال: ولا يلزمه ما ذكرنا في ولد الولد ولا في أمَّهاتِهم ولا نسائِهم ولا رقيقِهم، فإنْ كان لَه ولدٌ فأعطاْهم ثُمَّ وُلِدَ لَه فعليه أن يعطيَه كما أعطاهم، أو شاركَهم فيما أعطاهم وإن تغيَّرت عين العطيَّة ما لم يَمُت أحدُهم فيصير مالُه لغيرِه، فعلى الأب حينئذٍ أن يعطيَ هذا الولد كما أعطى غيره، فإن لم يفعل أُعطي ما ترك أبُوْه مِنْ رأس مالِه قبل ذلك، رُوي ذلك عن جمهور السَّلف.
          روى عبد الرَّزَّاق في «مصنَّفِه» عن مَعمرٍ، عن أيُّوب عن ابن سِيرِينَ: أنَّ سعد بن عُبادة قَسم مالَه بين بنِيْه في حياتِه، فوُلد لَه بعدما مات، فلقيَ عمرُ أبا بكرٍ، فقال: ما نمتُ اللَّيلة مِنْ أجل ابن سعدٍ، هذا المولودُ لم يُترَك لَه شيءٌ، فقال أبو بكرٍ: وأنا والله، فأتَوا قيسَ بن سعدٍ فكَلَّمَاه، فقال: أَمَّا شَيْءٌ أَمْضَاهُ سَعْدٌ فَلَا أَرُدُّهُ، ولكِنْ أُشْهِدُكُما أنَّ نَصِيبي لَهُ.
          قال ابن حَزْمٍ: فقد زاده قيسٌ عَلَى حقِّهِ، وإقرار أبي بكرٍ ذلك دليلٌ عَلَى صِحَّةِ اعتدالِها.
          قلت: ابن سِيرِينَ لم يُولد إلَّا بعد وفاة أبي بكرٍ وعمر وقُربَ وفاة عثمان، ولا ذَكَرَ لَه أحدٌ روايةً عن قيس بن سعدٍ، لاحتمال أن يقول سمع ذلك منْه.
          قال: وأخبرنا ابن جُرَيْجٍ: أخبرني ابن أبي مُلَيْكَة أنَّ القاسم بن محمَّدٍ أخبره أنَّ أبا بكرٍ قال لعائشة: إنِّي نَحَلْتُكم نحلًا مِنْ خيبرَ، وإنِّي أَخافُ أن أكون آثرتُكِ عَلَى وَلَدي وإنَّكِ لم تحوزيه فَرُدِّيه فردَّتهُ عَلَى ولدي فقالت: يَا أَبَتَاهْ، لَوْ كَانَتْ لِي خَيْبَرُ بِجِدَادِهَا ذَهَبًا لَرَدَدْتُهَا.
          قال ابن حَزْمٍ: فهؤلاء أبو بكرٍ وعمرُ وعثمان وقيسُ بن سعدٍ وعائشة فعلوا ذلك بحضرة الصَّحابة أجمعين ولا يُعرف لَهم منْهم مخالفٌ، وقالَه مجاهدٌ وطاوسٌ وعطاءٌ وعروةُ وابن جُرَيْجٍ وإبراهيم والشَّعبيُّ وشُرَيْحٌ وعبدالله بن شدَّاد بن الهاد وابنُ شُبْرُمة والثَّوْريُّ وجميع أصحابنا.
          قال: ورُوِّينا الإجازة عن القاسم ورَبيعةَ وغيرِهما، وكرهَهُ أبو حنيفة، وأجازَه إن وقع. وذكروا مِنْ طريق ابن لَهِيْعة عن بُكيرِ بن الأشجِّ عن نافعٍ عن ابن عمر أنَّه قطع ثلاثة أرؤسٍ أو أربعةً لبعض ولدِه دون بعضٍ.
          قال بُكيرٌ: وحدَّثني القاسم أنَّه كان مع ابن عمر إذ اشترى لرجلٍ مِنَ الأنصار، ثُمَّ قال لَه ابن عمر: هذِه الأرض لابْني واقدٍ، فإنَّهُ مسكينٌ نحلهُ إيَّاها دون ولدِه.
          قال ابن وهبٍ: بلغني عن عمرو بن دينارٍ أنَّ عبد الرَّحمنِ بن عوفٍ نحلَ ابنتَه مِنْ أمِّ كلثوم بنتِ عُقبة بن أبي مُعَيطٍ أربعةَ آلاف درهمٍ، ولَه ولدٌ مِنْ غيرِها.
          وذكروا ما رُوِّينا عن ابن وَهْبٍ عن سعيدِ بن أبي أيُّوب، عن بَشير بن أبي سعيدٍ، عن محمَّد بن المُنكَدِر أنَّ رَسُول الله صلعم قال: / ((كُلُّ ذِي مَالٍ أَحَقُّ بِمَالِهِ)) وتعلَّلوا في حديث النُّعمان أنَّ أباه وهبَه جميعَ مالِه، وهو غير جيِّدٍ لما أسلفنَاْه.
          وقولُه: ((أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي)) يريد الوعيدَ لقولِه تعالى: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام:150] ليس عَلَى إباحة الشَّهادة عَلَى الجَور والباطل لكن كما قال تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40] وحاشا لَه صلعم أن يُبيح لأحدٍ الشَّهادةَ عَلَى ما يخبر هو أنَّهُ جَورٌ أو أن يمضيَه ولا يردَّه.
          الثَّالث في قولِه ◙: ((اردُدْهُ)) أنَّ للأب الرُّجوعَ فيما وَهب لولدِه وفيْه قولان لأهل العلم
          أحدُهما: نعم، قال مالكٌ: لَه ذلك وإن أقبضَها الولدَ ما لم تتغيَّرْ في يد ولدِه أو يستحدثْ دَينًا أو يتزوَّج البنت بعد الهبة، وقال الشَّافعيُّ: لَه الرُّجوع مطلقًا، ولم يعتبر طُرُوَّ دَين أو تزويجًا.
          وثانيْهما: لا، وبِه قال أبو حنيفة، وحديث النُّعمان حُجَّةٌ عليْه، لأنَّهُ ◙ أمرَه بالرُّجوع فيما وَهب لابنِه.
          فإن قلتَ: لم يكن قَبضَها النُّعمان، فلذلك جاز الرُّجوع فيْها.
          قلتُ: هي تلزم عند مالكٍ بالقول ولا يُفْتَقر في صحَّتِها إلى القبض، ولو كان الحُكم فيْها يخْتَلف بين أن تكون مقبوضةً أو غيرَ مقبوضةٍ لاستعلم الشَّارعُ الحالَ، وفصَّل بينَهما.
          وأيضًا فإنَّ مجيئه لَه يُشْهِدُهُ يدلُّ عَلَى أنَّهُ كان أقبضَه، ولو كان لم يُقبِضْه لما كان لقولِه: (ارْجِعْهُ) معنًى، لأنَّهُ عندكم قبل القَبض لا يلزمُه شيءٌ رجع فيْه وليس لقولِه حُكمٌ، حُجَّة مالكٍ أنَّهُ لا يرجع إذا استحدث ابنُه دينًا لأنَّ حقَّ الغُرماء قد وجب في مال الابن لأنَّهم إنَّما داينُوْه عَلَى مالِه، فليس للأب أن يُتْلِف حقوق غُرماء ابنِه.
          وكذلك البنت إنَّما تزوَّجت بمالِها لأنَّ الزَّوج لَه معونةٌ فيْه وجمالٌ في مال زوجتِه، وقد قَالَ ◙: ((تُنْكَحُ المَرَأةُ لِمَالِهَا)) فليس للأب أن يبطلَ ما وجب للزَّوج مِنَ الحقوق في مال زوجتِه بأن يأخذ ذلك منْها، وليس لغير الأب الرُّجوعُ عند مالكٍ وأكثرِ أهل المدينة، إلَّا أنَّ عندهم أنَّ الأمَّ لَها الرُّجوعُ أيضًا فيما وهبت لولدِها إذا كان أبُوْهم حيًّا، هذا هو الأشهرُ عن مالكٍ، ورُوي عنْه المنعُ ولا يجوز عند أهل المدينة أن تَرْجِعَ الأمُّ ما وهبت ليتيمٍ مِنْ ولدِها لأنَّ الهبة لليتيم عَلَى وجه القُربة لله، فهي بمنزلة الصَّدقة عليْه، ولا يجوز الرُّجوع في الصَّدقة لأنَّها شيءٌ لله كما لا يجوز الرُّجوع في العِتق والوقف وأشباهِه. وهذا فيْه اضطرابٌ عندنا في التَّرجيح.
          وعندنا لا رجوع إلَّا للأصول أبًا كان أو أُمًّا أو جدًّا، وعن ابن وهبٍ: إلحاق الجدِّ بالأب.
          وعند الكوفيِّ لا يرجع فيما وَهبَه لكلِّ ذي رَحمٍ مَحرَمٍ بالنَّسب كالابن والأخ والأخت والعمِّ والعمَّة وكلِّ مَنْ لو كان امرأةً لم يحلَّ لَه أن يتزوَّجَها لأجل النَّسب.
          وقد أسلفنا أنَّهُ لا رجوع فيْها، وبِه قال الحسنُ وطاوسٌ وأحمدُ وأبو ثَورٍ، وقال مالكٌ: يجوز الرُّجوع مطلقًا وَهب لذي رحمٍ أو غيرِه، ولا يرجع فيْها وَهَبَ لله أو لصلة الرَّحم. وسيأتي إيضاحُ ذلك في آخر باب هبة الرَّجل لامرأتِه [خ¦2588].
          تنبيهاتٌ
          أحدُها قولُ البخاريِّ في الباب: (لَمْ يَجُزْ، حتَّى يَعْدِلَ بَيْنَهُمْ) ظاهرٌ في نفي الجَواز.
          وقال ابن التِّينِ: يصحُّ أن يُقَال: مرادُه أنَّه يفسخ إن وقع، مثل قول عروةَ وطاوسٍ وسفيانَ ومَنْ سلف، وقالَه مالكٌ مرَّةً: إن كانت الهبة كلَّ مالِه ويصحُّ حملَه عَلَى الكراهة. قلت: ويؤيِّدُه ما ذكرَه بعدُ مِنْ قولِه في أكلِه مِنْ مال ولدِه.
          ثانيْها: سأل أشهبُ مالكًا عن هذا الحديث فقال: ذلك في رأيي، لأنَّهُ كان مالَه كلَّه، قيل لَه: أَفيردُّ؟ قال: إن ذلك ليُقَال، ولقد قضى بِه بالمدينة فأمَّا إذا كان البعضَ وأبقى البعضَ فلا بأس.
          وقد نحل أبو بكرٍ عائشة جادَّ عشرين وَسْقًا وقال فيْه عمر وعثمان ما قالا، فلو كان الحديث عَلَى البعض ما جهلَه أبو بكرٍ وعمر وعثمان وقال سُحْنُون مثلَه، وعارض بعضُهم هذا وقال: هذا غيرُ حسنٍ لقولِه: (أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَ هَذَا).
          فجعل الردَّ لعدم المساواة والفصل عن عطيَّة أبي بكرٍ عائشة بأنَّه كان أعطى إخوتَها مثلَها، أو أنَّهُ خصوصٌ لَها لمحبَّةِ الشَّارع لَها، وأنَّ إخوتها يرضَون بذلك، أو حمل عروةُ الحديث عَلَى هذا وقال: لا يجوز بعضُ مالِه أو كلُّه.
          ثالثُها أوَّل ابن القصَّار: ((أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي)) بأنَّهُ أمرٌ بالتَّوثقة في العطيَّة لأنَّهُ هو الإمام ولا يحكم بعلمِه وهذا عَلَى مذهبِه في ذلك. والجور: هو الميل، مِنْ قولِهم جار السَّهم إذا مال، فأخبر أنَّهُ ميلٌ إلى المعطَى ولم يُرِد أَنَّهُ ظلمٌ.
          رابعُها: مشهور مذهب مالكٍ كما قال ابن التِّينِ أنَّ اليسير يجوز، قال ابن القاسم: وأخشى عليه الإثمَ، ووقع لمالكٍ في «الْعُتْبِيَّةِ» إن أخرج البنات مِنْ حبسَه إن تزوَّجنَ، فالحبس باطلٌ.
          وقال ابن شَعبانَ: إنَّ مَنْ أخرج البناتِ بطَل وقفُه، فقال بعضُهم: هذا مِنْ مالكٍ أخذ بحديث النُّعمان وحملَه عَلَى الوجوب والصَّدقة كالحبس، فإن تصدَّق بكلِّ مالِه عَلَى أحد بنيْه فقال مالكٌ: لا أراه جائزًا، قال ابن شَعبان: ويردُّ.
          قال ابن الموَّاز: ويُذكر عن ابن القاسم أنَّ مَنْ تصدَّق بمالِه كلِّهِ عَلَى بعض ولدِه، وتبيَّن أنَّهُ حيفٌ وفرارٌ مِنْ كتاب الله يُردُّ ذلك في حياتِه وبعد موتِه، وقال أصبغ: إذا جِيْز ذلك جاز عَلَى كل حال.
          وقد اجتمع أمر القضاة والفقهاء عَلَى هذا، وحَرَجُهُ بينَه وبين الله، قال محمَّدٌ: صوابٌ، وقال ابن القاسم: إنَّهُ مكروهٌ وعليْه البغاددة، قال ابن الجلَّاب: إلَّا أن يكون مالُه يسيرًا، وحكى الدَّاوُدِيُّ عن ابن القاسم أنَّهُ يرتجعُه ما لم يمت فيمضي، وفي «المختصر الكبير»: وقيل إنَّ الرَّجل إذا تصدَّق بالدَّار عَلَى بعض ولدِه وهي جُلُّ مالِه فلا بأس، وغيرُه أحسن منْه.
          خامسُها: النَّحْل العطاء مِنْ غير عِوَضٍ وكذلك النِّحلة، قيل النِّحلة ما طابت بِه النَّفس، ولا يكون ما أُكرهتْ عليْه نِحلةً، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: ناظرتُ بعض أصحابنا ممَّن تصدَّق ببعض مالِه عَلَى أحد ولدِه قال: هو جائزٌ. قلت: بحديث النُّعمان فقال لي: أجمَعوا عَلَى خلافِه، فذكرتُ لَه قول عروةَ فقال: إنَّما في الحديث أنَّهُ نِحلةٌ، / قلت لَه: فقد ذكر العلَّةَ الَّتي ردَّ ما فعلَه، ولم يكن ينهَى عن فعل الخير فسكت، وقال: هذا ممَّا أتوقَّف عن القول فيْه، للأثر ولمطابقة أصحابنا عَلَى جوازِه لغير أثرٍ يخالفُه، وقال سُحْنون: مَنْ أعطى جميع مالِه لولدٍ أو غيرِه لم يجزْ فعلُه لأنَّه ◙ لم يقبل مِنْ أحدٍ ذلك إلَّا مِنْ أبي بكرٍ نفسه.
          قلت: حمله أصحابنا عَلَى أنَّ مَنْ قويَ توكُّلهُ وصبرُه عَلَى الضَّير والإضافة يلحق بِه.