التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قبول الهدية

          ░7▒ (بَابُ قَبُولِ الهَدِيَّةِ)
          ذكر فيْه ستَّة أحاديثَ
          2574- أحدُها حديثُ عائشة: (أَنَّ النَّاس كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ، يتَّبِعُون _أَوْ يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ_ مَرْضَاةَ رَسُولِ اللهِ صلعم).
          2575- ثانيها حديثُ ابن عبَّاسٍ: (أَهْدَتْ أُمُّ حُفَيْدٍ خَالَةُ ابن عبَّاسٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم أَقِطًا وَسَمْنًا وَأَضُبًّا...) الحديث.
          2576- ثالثُها حديثُ أبي هريرة: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ: أَهَدِيَّةٌ أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَإِنْ قِيلَ: صَدَقَةٌ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قِيلَ: هَدِيَّةٌ ضَرَبَ بِيَدِهِ، فَأَكَلَ مَعَهُمْ).
          2577- رابعُها حديثُ أنسٍ قال: (أُتِيَ النَّبيُّ صلعم بِلَحْمٍ، فَقِيلَ: تُصُدِّقَ به عَلَى بَرِيرَةَ، فقَالَ: هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ).
          2578- خامسُها حديث عائشة في قصَّة بَريرة وفيْه: (وَأُهْدِيَ لَهَا لَحْمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: مَا هَذَا؟ فَقُلْتُ: تُصُدِّقَ به عَلَى بَرِيرَةَ قَالَ: هوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ).
          قَالَ عَبْدُ الرَّحمنِ: وَزَوْجُهَا حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ؟ قَالَ شُعْبَةُ: ثُمَّ سَأَلْتُ عَبْدَ الرَّحمنِ عَنْ زَوْجِهَا، فقَالَ: لَا أَدْرِي أَحُرٌّ أَوْ عَبْدٌ.
          2579- سادسُها حديثُ أمِّ عطيَّة قالت: (دَخَلَ النَّبيُّ صلعم عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَ: أَعِنْدَكُمْ شَيْءٌ، قَالَتْ: لاَ، إِلَّا شَيْءٌ بَعَثَتْ بِهِ أُمُّ عَطِيَّةَ مِنَ الشَّاةِ الَّتي بَعَثْتَ إِلَيْهَا مِنَ الصَّدَقَةِ، قَالَ: إِنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا).
          الشَّرح: في حديث عائشة جواز تحرِّي الهديَّة ابتغاء مرضاة المهدى إليْه، وفي حديث ابن عبَّاسٍ إهداء الأَقِطِ والسَّمْن والأَضُبِّ، والأَقِطُ سلف بيانُه في صدقة الفِطر، وهو لبنٌ غير منزوع الزُّبد، والأَضُبُّ جمع ضَبٍّ مثل فَلْسٍ وأَفْلُسٍ.
          و(أُمُّ حُفَيْدٍ خَالَةُ ابن عبَّاسٍ) بضمِّ الحاء المهملة.
          وقول ابن عبَّاسٍ: (لَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللهِ صلعم) احتجاج حسنٌ، وهو قول الفقهاء كافَّةً، ونصَّ عليْه مالكٌ في «المدوَّنة»، وعنْه روايةٌ بالمنع، وعن أبي حنيفة الكراهةُ.
          وقد روى مالكٌ في حديث الضَّبِّ أنَّهُ ◙ أمرَ ابن عبَّاسٍ وخالد بن الوليد بأكلِه في بيت ميمونة، وقالا لَه: ولم لا تأكل يا رَسُول الله؟ فقال: ((إنِّي يَحْضُرني مِنَ اللهِ حَاضِرة)) يعني الملائكةَ الَّذين يناجيهم، ورائحة الضَّبِّ ثقيلةٌ، ولذلك تقذَّرهُ خشيةَ أن يُؤذيَ الملائكة بريحِه.
          ففيه مِنَ الفقه أنَّهُ يجوز للإنسان أن يتقذَّر ما ليس بحرامٍ عليْه لقلَّةِ عادتِه لأكلِه ولِزَهَمِهِ.
          وقولُه: (أُكِلَ عَلَى مَائِدَتِهِ) قَالَ الدَّاوُدِيُّ: يعني القَصْعة والمنديل ونحوهما لأنَّ أنسًا قال: ما أكل عَلَى خِوَان قطُّ، وأصل المائدة مِنَ المَيْدِ وهو العطاء يُقال: مادني يَميدُني.
          وقال أبو عُبيدة: هي فاعلةٌ بمعنى مفعولة مِنَ العطاء، وقال الزَّجَّاج: هي عندي مِنْ ماد يميد إذا تحرَّك، وقَالَ ابن فارسٍ: هي مِنْ ماد يميد إذا أطعم، وقال قومٌ: مادني يميدني إذا أنعشني، ومنْه المائدة.
          قال: والخِوَان _فيما يُقَال_ اسمٌ أعجميٌّ غير أنِّي سمعت إبراهيمَ بن عليٍّ القَطَّانَ يقول: سُئل ثعلبٌ وأنا أسمع: أيجوز أن يُقال: إنَّ الخِوَان سُمِّي بذلك لأنَّه يُتَخَوَّنُ ما عليْهِ؟ أي يُنْتَقَصُ، فقال: مَا يَبْعُدُ ذَلِكَ.
          وفي حديث أبي هريرة: حُرمة الصَّدقة عليْه دون غيرِه، وفي آله خلافٌ، والأصحُّ عندنا إلحاقُهم بِه في الفرض دون التَّطوُّع، وهي عند المالكيَّة حرامٌ عَلَى آله _أعني التَّطوُّع_ خلافًا لابن القاسم، وقال أصبغ: يُكرَه، ذَكرَه ابن التِّينِ.
          وقد علَّل الشَّارع كونَه لا يتناولُها أنَّها أوساخُ النَّاس، وأخذُها أيضًا ضَعَةٌ لقولِه: ((الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى)) والأنبياء ╫ منزَّهون عن مواضع الضَّعة والذِّلَّة، والصَّدقة لا تنبغي للأغنياء، وقد عدَّد الله عَلَى نبيِّهِ كونَه وجدَه عائلًا فأغناه، فكذا حرِّمت عليْه الصَّدقة، ومِنْ أعلام نبوَّتِه عدمُ قَبولِها / بخلاف الهديَّة، وقولُه في لحم بَرِيرة: (هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ).
          وقولُه: (قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا) فإنَّ الصَّدقة يجوز فيها تصرُّف الفقير بالبيع والهديَّة وغير ذلك لصحَّةِ ملكِه لَها، فلمَّا أهدتْها بَرِيرة إلى بيت مولاتِها عائشة حلَّت لَها ولرسول الله صلعم وتحوَّلت عن معنى الصَّدقة لملك المتصدَّق عليْه بِها، ولذلك قال: (وَهِيَ لَنَا هَدِيَّةٌ) أي مِنْ قِبَلِها، و(قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا) أي صارت حلالًا بانتقالِها مِنْ باب الصَّدقة إلى باب الهديَّة لأنَّ الهديَّة جائزٌ أن يثبت عليها بمثلِها وأضعافِها عَلَى المعهود منْه ◙، وليس ذلك شأن الصَّدقة، وقد أسلفنا هذِه المعانيَ فيما مضى أيضًا وأعدنَاْها لطول العهد بِها.
          وقول عبد الرَّحمنِ في زوج بَرِيرة: (لَا أَدْرِي حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ) المشهور أنَّهُ عبدٌ، وهو قول مالكٍ والشَّافعيِّ وعليْه أهل الحجاز، وهو ما ذكرَه النَّسائيُّ عن ابن عبَّاسٍ، واسمُه مُغيثٌ كما سلف، وذكرَه أبو داود والنَّسائيُّ عن عائشة، وخالف أهلُ العراق فقالوا: كان حُرًّا.
          وفيْه أنَّ للحُرَّة أن تنكح العبد لتخييرِه بَرِيرة في بقائِها معَه وهو عبدٌ.
          قَالَ الدَّاوُدِيُّ: والَّذي بَعثت بِه أمُّ عطية، إنَّما بعثت بِه إلى عائشة هديَّةً، وظنَّتْ عائشةُ أنَّهُ إذا كان أصلُها صدقةً لا تَحِلُّ لرسول الله صلعم.
          وفيْه دليلٌ أنَّهُ كان قَبِلَ لحم بَرِيرة، أو إنَّما تأوَّلت أنَّ أمَّ عطيَّة ابتدأت بتوجيهِه وأنَّ بَرِيرة لم تبتَدِئ بإعطائِه، أو يكون في أحد الحديثين وَهْمٌ.