التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب المكافأة في الهبة

          ░11▒ (بَابُ المُكَافَأَةِ فِي الهَدِيَّةِ)
          (المُكَافَأَةِ) مهموزٌ مِنْ قولك كَفَأْتُ فلانًا إذا قابلتَه.
          2585- ذكر فيْه حديثَ عيسى بن يونسَ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم يَقْبَلُ الهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا).
          قال أبو عبد الله: (لَمْ يَذْكُرْ وَكِيعٌ، وَمُحَاضِرٌ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ).
          الشَّرح: هذا الحديثُ مِنْ أفرادِه، قال التِّرمِذيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ مِنْ هذا الوجه لا نعرفه معروفًا إلَّا مِنْ حديث عيسى بن يونسَ.
          وقال البزَّار: لا نعلم أحدًا رواه عن أبيْه عن عائشة إلَّا عيسى بنَ يونسَ، يعني ذِكرُ عائشة في الإسناد تفرَّد بِه عيسى.
          ووقع في «كتاب الطَّرْقيِّ» أنَّ أبا داود أخرجَه مِنْ طريق عيسى وأبي إسحاقَ، كِلَاهما عن هشامٍ.
          ثمَّ قال: وذكرُ أبي إسحاق مع أبي عيسى لا أدري كيف هو، وهو كما قال، والَّذي في أصولِ أبي داودَ عن عيسى بنِ يونُسَ وهو ابن أبي إسحاق السَّبِيْعيُّ، فتنبَّهْ لذلك.
          إذا تقرَّر ذلك فالمكافأة عَلَى الهِبة مطلوبةٌ اقتداءً بالشَّارع، وعندنا لا يجبُ فيْها ثوابٌ مطلقًا، سواء وَهب الأعلى للأسفل أو عكسه أو للمساوي.
          قَالَ المُهلَّب: والهديَّة ضربان للمكافأة فهي بيعٌ ويُجبَر عَلَى دفع العِوض، ولله وللصَّلة فلا يلزم عليْها مكافأةٌ، وإنْ فعلَ فقد أحسنَ.
          واختلف العلماء فيمن وهب هبةً ثُمَّ طَلب ثوابَها وقال: إنَّما أردتُ الثَّواب.
          فقال مالكٌ: يُنْظَر فيْه فإن كان مثلُه ممَّنْ يَطلب الثَّوابَ مِنَ الموهوب لَه فلَه ذلك، مثل هبة الفقير للغنيِّ، والغلام لصاحبِه، والرَّجل لأميرِه ومَنْ فوقَه، وهو أحد قولي الشَّافعيِّ.
          وقال أبو حنيفة: لا يكون لَه ثوابٌ إذا لم يشترطه، وهو قول الشَّافعيِّ الثَّاني، قال: والهبة للثَّواب باطلٌ لا تنعقد لأنَّها بيعٌ بثمنٍ مجهولٍ.
          واحتجَّ الكوفيُّ بأنَّ موضوع الهبة التبرُّع، فلو أوجبنا فيْها العِوض لبطَل معنى التبرُّع وصار في معنى المعاوَضات، والعرب قد فرَّقَت بين لفظ البيع ولفظ الهِبة، فجعلت لفظ البيع واقعًا عَلَى ما يستحقُّ فيْه العِوض، والهِبة بخلاف ذلك.
          واحتُجَّ لمالكٍ بحديث الباب، والاقتداءُ بِه واجب، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] وروى أحمدُ في «مسندِه» وابن حِبَّانَ في «صحيحِه» مِنْ حديث ابن عبَّاسٍ أنَّ أعرابيًا وهب للنَّبيِّ صلعم هِبةً فأثابهُ عليْها وقال: ((رَضِيتَ؟)) قال: لا، فزادهُ قال: ((رَضِيتَ؟)) قال: لا، فزادهُ قال: ((رَضِيتَ؟)) قال: نعم، قال النَّبيُّ صلعم: ((لَقَدْ هَمَمْتُ أَلَّا أَتَّهِبَ هِبَةً إِلا مِنْ قُرَشِيٍّ، أَوْ أَنْصَارِيٍّ، أَوْ ثَقَفِيٍّ)).
          وعن أبي هريرة نحوَه، رواه أبو داود والنَّسائيُّ والتِّرمِذيُّ، وقال: حسن، والحاكم وقال: صحيحٌ عَلَى شرط مسلم.
          وهو دالٌّ عَلَى الثَّواب فيْها وإن لم يَشْرِطه، لأنَّهُ أثابَه وزادَه منْه حتَّى بلغ رضاه.
          احتجَّ بِه مَنْ أوجبَه، قال: ولو لم يكن واجبًا لم يُثبْه ولم يزدْه، ولو أثاب تطوُّعًا لم يلزمْه الزِّيادة، وكان يُنكَر عَلَى الأعرابيِّ طلبُها، قلت: طَمع في مكارم أخلاقِه وعادتِه في الإثابة.
          وأمَّا قولُه تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] فمحمولٌ عَلَى النَّدْب إن استُدلَّ بِه عَلَى كلِّ هديَّةٍ وهبةٍ.
          قالوا: وقد رُوي عن عمر وعليٍّ أنَّهما قالا: إذا وهب الرَّجل هبةً ولم يُثَبْ منْها فهو أحقُّ بِها، ولا مخالف لَهما، قلت: وصحَّحَهُ الحاكم.
          وقال ابن التِّينِ: إذا شَرَطَ الثَّوابَ أجازَه الجماعةُ إلَّا عبدَ الملك، ولَه عند الجماعة أن يردَّها ما لم تتغيَّر، إلَّا عبدَ الملك فألزمَه الثَّوابَ بنفس القَبول، وعبارة ابن الحاجب: وإذا صرَّح بالثَّواب فإنْ عَيَّنه فبيعٌ، وإن لم يُعَيِّنه فصحَّحَه ابنُ القاسم، ومنعَه بعضُهم للجهل بالثَّمن، قال: ولا يلزم الموهوبَ إلَّا قيمتُها قائمةً أو فائتةً.
          وقال مطرِّفٌ: للواهب أن يأبى إن كانت قائمةً، وفي تعيُّن الدَّنانير والدَّراهم.
          ثالثُها لابن القاسم: إلَّا الحَطب والتِّبن وشِبْهَهُ، وليس لَه الرُّجوع في الثَّواب بعد تعيُّنِهِ وإن لم يُقبض.