التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته

          ░30▒ (بَابٌ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ وَصَدَقَتِهِ)
          2621- ذكر فيْه حديثَ ابن عبَّاسٍ السَّالفَ [خ¦2589] (العَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالعَائِدِ فِي قَيْئِهِ).
          2622- وفي روايةٍ: (لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الَّذي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ كَالكَلْبِ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ).
          2623- وحديثَ عمر في قصَّةِ الفرس وفي آخِرِه: (فإنَّ العَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ) وقد سلف في الزَّكاة [خ¦1490].
          وقد اختلف العلماءُ في هذا الحديثِ، فقالت طائفةُّ: ليس لأحدٍ أن يَهَب هبةً ويرجعَ فيْها عَلَى ظاهرِ حديث ابن عبَّاسٍ وعمر، رُوي ذلك عن طاوسٍ والحسن وهو قول الشَّافعيِّ وأحمد وأبي ثَورٍ، وفيْها قولٌ ثانٍ بأنَّ مَنْ وهب لذي رحمٍ فلا رجوع لَه، ومَنْ وهب لغير ذي رحمٍ فلَه الرُّجوع وإن لم يُثَبْ منْها خلاف قول عمر.
          وقال الثَّوْريُّ والكوفيُّون: يرجع فيما وهبَه لذي رحمٍ غير مَحرَمٍ إذا كانت الهبة قائمةً لم تستهلك ولم تزد في يديْها، أو لم يثب منْها، مثل ابن عمِّه وابن خالِه وقد أسلفنا ذلك، وأمَّا إن وهب لذي رحمِ مَحرَمٍ وقبضَها فلا رجوع، وهم ابنتُه أو أخوْه لأمِّه أو جدُّه أبو أمِّه أو خالُه أو عمُّه أو ابن أخيْه أو ابن أختِه أو بنُوْهما.
          وتفسير الرَّحم المحرَمِ هو مَنْ لو كان الموهوب لَه امرأةً لم يحلَّ للواهب نكاحُها، وحُكم الزَّوجين عندَهم حكمُ ذي الرَّحم المحرَمِ، ولا رجوع لواحدٍ منْهما في هبتِه.
          وقال مالكٌ: يجوز الرُّجوع فيما وهبَه للثَّواب، وسواءٌ وهبَه لذي رحمٍ محرَمٍ أو غير ذي محرَمٍ، ولا يجوز لَه الرُّجوع فيما وهبَه لله، ولا لصلة الرَّحم.
          واحتجَّ أهل المقالة الأولى بحديث الباب، فالمراد إذن العائدُ في قيئِه الرَّجلُ لا الكلب، ولمَّا كان قد جعل الرُّجوع في الهبة كالرُّجوع في القيء، وكان رجوع الرَّجل في قيئِه حرامٌ كان كذلك رجوعُه في هبتِه.
          حُجَّة الكوفيِّين قولُه: (كَالكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ) فالرَّاجع إذنْ في قيئِه الكلبُ، وهو غير متعبَّد بتحليلٍ ولا تحريمٍ فالمعنى: العائد في هبتِه كالعائد في قَدْر كالقَدْر الَّذي يعود فيْه الكلب ولا يثبت بذلك منع الواهب مِنَ الرُّجوع في هبتِه.
          فأراد بذلك تنزيْه أمَّتِه عن أمثال الكلاب لأنَّهُ أبطل أن يكون لَهم الرُّجوع في هباتِهم، ويصلح الاحتجاج بهذِه الحُجَّة لمالكٍ.
          واحتجَّ أهل المقالة الأولى بحديث ابن عبَّاسٍ وابن عمر السَّالفين [خ¦2589]، باستثناء الوالد للولد.
          قال الطَّحاويُّ: ولا دليلَ لَهم فيْه عَلَى تحريم الرُّجوع فيْها، فقد يكون الشَّارع وصَفَه بأنَّه لا يحلُّ لتغليظِه إيَّاه لكراهة أن يكون أحدٌ مِنْ أمَّتِه لَه مثلُ السَّوء، وقد قال: ((لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ)) وقد أسلفنا ذلك فيما مضى.
          وقال الطَّبريُّ: قوله ◙: (العَائِدُ فِي هِبَتِهِ) معناْه الخصوص، وذَلِكَ لو أنَّ قائلًا قال: العائد في هبتِه كالكلب يعود في قيئِه إلَّا أن يكون والدًا للموهوب لَه أو يكون وهبَه لثوابٍ يلتمسُه، فإنَّهُ ليس لَه مثلُ السَّوء، لم يكن مختلًّا في كلامِه، ولا مخطئًا في منطقِه.
          قال: ومَنْ بيَّن طلب ثوابٍ _إمَّا باشتراط ذلك أو بغير اشتراطٍ_ بعد أن يكون الأغلبُ مِنْ أمر الواهب والموهوب لَه أنَّ مثلَه يهب لمثلِه طلبَ الثَّوابِ منْه.
          وأمَّا الواهب لله تعالى يطلب الأجر كالواهب الغنيِّ للفقير المحتاج، أو طلب صلة رحمٍ كالواهب يهب لأحد أبويْه أو أخيْه أو أختِه أو قريبٍ لَه قريبِ القرابة يريد بذلك صلة رحمِه، فلا رجوع لَه، فهذا المعنيُّ بالذَّم بقولِه: (كَالكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ).
          وقد أشار المُهلَّب إلى قريبٍ مِنْ هذا المعنى، قال: وعلى هذا التَّأويل لا تَعَارُض، فالصَّدقة في حديث عمر هي الهبة في حديث ابن عبَّاسٍ فإنَّها تجري مَجرى الصَّدقة، والصَّدقة لا يجوز الرُّجوع فيْها، وإنَّما يرجع فيما خرج مِنَ هذا المعنى، وأُرِيد بها الثَّواب، وقد سلف في كتاب الزَّكاة اختلافُ العلماء في شراء الرَّجل صدقتَه في باب هل يشتري الرَّجل صدقتَه؟
          وقال الطَّحاويُّ: قد بيَّن ما قلنَاْه ما رُوي عن عمر روى ذلك مالكٌ عن داود بن الحُصَين عن أبي غَطَفَانَ بن طَرِيفٍ، عن مروانَ بن الحكم أنَّ عمر بن الخطَّاب قال: مَنْ وهب لصلة رحمٍ أو عَلَى وجه الصَّدقة فإنَّهُ لا يرجع فيْها، ومَنْ وهب هبةً يرى أنَّهُ إنَّما أراد بِها الثَّوابَ فهو عَلَى هبتِه يرجع فيْها إن لم يَرْضَ منْها.
          فهذا عمرُ فرَّق بين الهبات والصَّدقات أنَّهُ لا يرجع فيْها، وجعل الهبات عَلَى ضربين فضربٌ منْه لصلة الأرحام، فردَّ ذلك إلى حُكم الصَّدقات لله، ومنع الواهبَ مِنَ الرجوع فيْها، وضربٌ منها جعل فيها الرُّجوع للواهب ما لم يَرضَ منْها.