التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب هدية ما يكره لبسها

          ░27▒ (بَابُ هَدِيَّةِ مَا يُكْرَهُ لُبْسُه)
          ذكر فيْه ثلاثة أحاديثَ
          2612- أحدها حديثُ ابن عمرَ: (رَأَى عُمَرُ حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ المَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوِ اشْتَرَيْتَهَا، فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الجُمُعَةِ...) الحديث، وسلف في الجمعة [خ¦886].
          2613- ثانيها حديثُه أيضًا: (أَتَى النَّبيُّ صلعم بَيْتَ فَاطِمَةَ، فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا) لأجل السِّتر الموشَّى، (فَقَالَ: مَا لِي وَلِلدُّنْيَا) ثُمَّ (قَالَ: تُرْسِلُ بِهِ إِلَى فُلاَنٍ، أَهْلِ بَيْتٍ بِهِمْ حَاجَةٌ).
          2614- ثالثها حديث عليٍّ: (أَهْدَى إِلَيَّ النَّبيُّ صلعم حُلَّةً سِيَرَاءَ فَلَبِسْتُهَا، فَرَأَيْتُ الغَضَبَ فِي وَجْهِهِ فَشَقَقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي).
          الشَّرح: وقد أسلفنا أنَّ الحُلَّة مِنْ بُرود اليمن، وأنَّها لا تكون إلَّا ثوبين، إزار ورداء.
          والموشَّى الملوَّن، يُقال: وشَّى الثَّوب إذا نسجَهُ عَلَى لونين.
          و(مَوْشِيًّا) كان أصلُه مَوْشُوْيًا عَلَى وزن مفعولٍ فالتقى حرفا عِلَّة وسبق الأوَّلُ بالسُّكون فقُلِب ياءً وأُدْغِم في الياء الَّتي بعدَه وكُسِرت الشِّين لأجل الياء الَّتي بعدَها.
          وفعل ذلك ◙ كان يرغب ألَّا يكون لفاطمة في الدُّنيا نصيبٌ غير أخذ البُلْغة، ليعظم أجرُها في الآخرة، وقد سألتْه خادمًا فقال: ((أَدلُّكِ عَلَى خَيرٍ مِنْ ذلكَ: تُسَبِّحينَ وتُحَمِّدينَ وَتُكبِّرينَ)) وسارَّها بمحضر عائشة فبكت ثُمَّ سارَّها فضحكت، فقالت عائشة: ما رأيت ضحكًا أقربَ مِنْ بكاءٍ منذ اليوم، فسألتْها عن ذلك فقالت: ما كنتُ لأُفْشِيَ سرَّه.
          فلمَّا تُوفِّيَ فَسَّرتْهُ لَها _لمَّا أقسمتْ عليْها_ أنَّهُ يموتُ مِنْ وجعِه ذلك فبكيتُ، وأنِّي أوَّلُ أهلِه لُحوقًا بِه فضحكتُ، وأخبرني أنِّي سيِّدةُ نساء أهل الجنَّة.
          وأمرَها أن تعطيَ السِّتر ليكون لَها ثوابُ ذلك ولَه نصيبٌ منْه، لشفاعتِه الحسنة، وقد قال صلعم: ((لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِلْءَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ))، قالَه مَخلَدٌ في بعض السَّابقين الأوَّلين، فإذا كان هذا حالَ أُمَّتِه فكيف بمقامِه الرَّفيع؟ قال عليٌّ: سبق النَّبيُّ صلعم وصلَّى أبو بكر وثلَّث عمر، وإنَّما إعطاء الحُلَّة لأجل النِّساء لأنَّها حريرٌ.
          وقول عليٍّ: (فَشَقَقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي) المراد نساء قوم، لأنَّهُ لم يتزوَّج في حياة النَّبيِّ صلعم غير فاطمة.
          وفي «مبهَمات عبد الغنيِّ» مِنْ حديث أمِّ هانئٍ: فراح عليٌّ وهي عليْه فقَالَ ◙: ((إِنَّمَا كَسَوْتُكَهَا لِتَجْعَلها خُمْرًا بَيْنَ الْفَوَاطِمِ)).
          وذَكر ابنُ أبي الدُّنيا في كتاب «الهدايا» عن عليٍّ قال: فشققتُ منْها أربعة أخمُرٍ لفاطمة بنت أسدٍ أمِّي، ولفاطمةَ زوجي، ولفاطمةَ بنت حمزة بن عبد المطَّلب قال: ونسي الرَّاوي الرَّابعةَ.
          قال القاضي عياضٌ: يشبه أن تكونُ فاطمةَ بنتَ شَيبة بن ربيعةَ، امرأةَ عَقيلٍ، أخي عليٍّ.
          وعند أبي العلاء بن سليمان: فاطمة بنت أبي طالبٍ المكنَّاة أمَّ هانئٍ، وقيل: فاطمة بنت الوليد بن عُقبة، وقيل: فاطمة بنت عُتبة بن رَبيعة، حكَاْهما القُرْطُبيُّ. وهذا الثَّوب كان أهدَاْه لَه أُكَيْدِرُ دُوْمَةَ.
          ولأحمدَ مِنْ حديث عليِّ بن زيدٍ عن أنسٍ: وأهدى لَه جَرَّةَ مَنٍّ فأعطى لكلِّ واحدٍ مِنْ أصحابِه قطعةً قطعةً، وأعطى جابرًا قطعتين فقال: يا رَسُول الله، إنَّكَ أعطيتني مَرَّة، قال: ((هَذَا لبناتِ عَبْدِ اللهِ)).
          وفي قولِه: (فَرَأَيْتُ الغَضَبَ فِي وَجْهِهِ) ظاهرُه تحريمُه.
          وأمَّا عبد الله أخو المُهلَّب فقال: هو دالٌّ عَلَى أنَّ النَّهي للكراهة فقط لا محرَّمًا، ولو كان تحريمًا لَمَا عرف الكراهية مِنْ وجهِه، بل مِنْ نهيِه.
          وقولُه: (لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِين) دليلٌ آخرُ، ولو كان حرامًا لكان المتَّقي فيْه والمسيءُ واحدًا، ولكنَّهُ كما قال تعالى في المتعة: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:180] {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236].
          قلتُ: ويَبعُد أن يكون قبلَ التَّحريم، ولا شكَّ أنَّ هدية ما يُكره لُبسُه مباحةٌ لأنَّ مِلكَه جائزٌ ولصاحبِه التَّصرُّف بالبيع والهبة ممَّن يجوز لباسُه لَه، كالنِّساء والصِّبيان، وإنَّما حَرُمَ عَلَى الرِّجالِ خاصةً دون ملكِه.
          قَالَ المُهلَّب: وإنَّما كَره ◙ الحرير لابنتِه لأنَّها ممَّن يَرغب لَها في الآخرة كما يَرغب لنفسِه، ولا يرضى لَها تعجيلَ طيِّباتِها في حياتِها الدُّنيا، فدلَّ هذا عَلَى أن النَّهي عن الحرير إنَّما هو مِنْ جهة السَّرف لأنَّ الحديث يُروى عن النَّبيِّ صلعم في تحريم الحرير قد سألتُ عنْه أبا محمَّدٍ الأَصيليَّ، ووقفتُه عَلَى لفظة (حرام) فقال لي: لا تصحُّ لفظة (حرام) ألبتَّة، وإن صحَّت فإنَّما معناها حرامٌ تحريمَ السُّنَّة، وحرامٌ دون حرامٍ، وهو كقولِه ◙: ((كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ)) وفي ذلك الحديث ((حِلُّ لإِنَاثِها)).
          قلت: وقد صحَّ فقد كره لابنتِه وهو حلالٌ، فكذلك كما كره للرِّجال مِنْ أجل السَّرف.
          وقال ابن بَطَّالٍ: مَنْ جَعل تحريمَ الحرير كتحريم كلِّ ذي نابٍ مِنَ السِّباع فذلك دليلٌ عَلَى التَّحريم لأنَّ جمهور الأمَّة عَلَى تحريم ذلك الَّذي هو ضدُّ التَّحليل، فكيف يحتجُّ هذا القائل بما يخالفُه فيْه أكثرُ الأُمَّة؟
          وقولُه في حديث عمر: (مَا لِي وَلِلدُّنْيَا) / هو دليلٌ قاطعٌ.
          وقولُه: (إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لَا خَلاَقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ) يريد بِه _والله أعلم_ أنَّها لباس الكفَّار في الدُّنيا، ومَنْ لا حظَّ لَه في الآخرة، فنهى عن مشابهتِهم واستعمال زيِّهم، وسيأتي بسط المسألة في موضعِها مِنْ كتاب اللِّباس إن شاء الله [خ¦5841].
          وجعلت طائفةٌ الآثارَ المرويَّة في الباب في النَّهي عن لباس الحرير عَلَى التَّحريم، ولم يأتِ عنْه ما يعارضُها، إلَّا ما يخصِّصُها مِنْ جواز لباسِه في الحرب، وعند التَّداوي، وما عَدَا هذين الوجهين فباقٍ عَلَى التَّحريم.