التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الهدية للمشركين

          ░29▒ (بَابُ الهَدِيَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ)
          وَقَوْلِهِ تعالى: ({لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]).
          2619- ذكر فيْه حديثَ ابن عمرَ في الحُلَّة وقد سلف في الجمعة [خ¦886].
          2620- وحديثَ أسماءَ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم، فَاسْتَفْتَيْتُ النَّبيَّ صلعم، فَقُلْتُ: وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: (نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ).
          كذا هنا، وفي موضعٍ آخر منْه ومِنْ غيرِه (فَقُلتُ: قَدِمتْ عليَّ أُمِّي وَهِيَ رَاغِبةٌ) وهو أتمُّ.
          أمَّا الآية فكانت في الابتداء عند موادَعة المشركين، ثُمَّ صارت منسوخةً بالأمر بالقتال، أو كان لخزاعةَ والحارث بن عبد مَنافٍ عَهْدٌ فأمروا أن يَبَرُّوهم بالوفاء بِه، أو أراد النِّساء والصِّبيان أُمِرُوا ببرِّهم لَهم، فنزلت في قتيلةَ في امرأةِ أبي بكرٍ كان قد طلَّقَها في الجاهليَّة فقدمت عَلَى ابنتِها أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ في الهدنة فأهدت لَها قُرْطًا وأشياءَ، فكرهتْ قَبولَه، حتَّى ذكرتْه لرسول الله صلعم فنزلت {وَتُقْسِطُوا} [الممتحنة:8]: تعطُوْهم قسطًا مِنْ أموالكم أو تعدلوا فيْهم، فلا تغلُوا في مقاربتِهم ولا تُسرعوا في مباعدتِهم.
          وروى الطَّبريُّ، عن ابن الزُّبير أنَّ الآية نزلت في أمِّ أسماءَ بنت أبي بكرٍ وكان اسمُها قتلة بنت عبد العُزَّى. وقالت طائفةٌ: نزلت في مشركي مكَّة، مَنْ لم يقاتل المؤمنين ولم يخرجُوْهم مِنْ ديارِهم. وقال مجاهدٌ: هو خِطابٌ للمؤمنين الَّذين بقُوا بمكَّة ولم يهاجروا، والَّذين قاتلُوْهم كفار أهل مكَّة. وقيل: هم خزاعة، صالحَهم عَلَى ألَّا يقاتلُوْه والَّذين قاتلُوْهم أهل مكَّة. وقال السُّدِّيُّ: كان هذا قبل أن يؤمر بقتال المشركين كافَّة، فاستشار المسلمون رَسُولَ الله صلعم في قراباتهم مِنَ المشركين أن يَبرُّوهم ويَصِلُوْهم فأنزلَها الله.
          وفي «تفسير الحسن» قال قَتادة وابن زيدٍ: ثُمَّ نُسخ ذلك، ولا يجوز هذا اليومَ في المشركين ولا متاحفتهم، إلَّا للأبوين خاصَّةً لأنَّ الهديَّة فيْها تأنيسٌ للمهدى إليْه وإلطافٌ لَه وتثبيتٌ لمودَّتِه.
          وقد نهى الله عن التَّودُّد للمشركين بقولِه تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ} الآية [المجادلة:22]، وقولُه: {يَاأَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1]. وقال ابن التِّينِ: اخْتُلف في هذِه الآية عَلَى ثلاثة أقوالٍ لأنَّهُ قال في السُّورة: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] فذكر قول مجاهدٍ وقَتادة.
          وروي عن ابن الزُّبير: نزلت في أسماء _يريد أُمَّه_ جاءت أمُّها قَتْلة بنت عبد العُزَّى إليْها بهدايا فلم تقبل هدايَاْها، ولم تدخلْها عليْها، فسألت عائشة، فأنزلت الآية.
          وقال ابن عُيَينة في حديث الباب في رواية الحُميديِّ: فأنزل الله تعالى {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ} الآية [الممتحنة:8].
          وصحَّحَه الحاكم في «مستدركِه»، وذكر الحُميديُّ عن البَرْقانيِّ أن عبدَةَ بن سليمان، رواه عن هشامٍ عن أبيْه مرسلًا، وأنَّ يحيى بن آدمَ قال فيْه: عن سفيانَ عن هشامٍ عن فاطمةَ بنت المنذِر، عن أسماءَ.
          قال البَرْقانيُّ: والأوَّل _يعني هشام عن أبيه عن أسماء_ مسندًا أثبت.
          وقال الدَّارَقُطْنيُّ: رواه الثَّوْريُّ وأبو معاوية وعبد الحميد بن جعفرٍ، عن هشامٍ، عن أبيه، عن عائشة: ((أنَّ أَسْمَاءَ، قَالتْ: يَا رَسُولَ اللهِ)).
          ورواه ابن حِبَّانَ في «صحيحِه» مِنْ حديث سفيانَ عن هشامٍ عن أبيْه، عن عائشة: واختلف في هذِه الأمِّ فقيل: كانت ظِئرًا لَها، وقيل: كانت أمَّها مِنَ النَّسب.
          قَالَ الدَّاوُدِيُّ: كان أبو بكرٍ طلَّقها في الجاهليَّة وكانت تُسمَّى أمَّ بكرٍ، وفيْها قيل:
تُحَيِّي بِالسَّلاَمَةِ أُمُّ بَكْرٍ                     وأَنَّى بَعْدَ قَومِي مِنْ سَلامِ
          ويأتي بكمالِه في الهجرة، ولعلَّ هذه كنيةٌ لَها لما تقدَّم أنَّ اسمَها قَتْلة كذا قال، واسمُها قُتَيْلة _بضمِّ القاف وفتح التَّاء المثنَّاة فوقُ بعدَها مثنَّاةٌ تحتٌ ساكنةٌ ثُمَّ لامٌ ثُمَّ هاءٌ_ ويُقال: قَتْلة _بفتح القاف ثُمَّ مثناةٍ فوق ساكنةٍ_ قال النَّوويُّ: وهو الأصحُّ الأشهر في اسمِها مِنْ غير ياءٍ مثنَّاةٍ تحتُ.
          قلت: ولعلَّ مَنْ قالَه بالياء قالَه عَلَى وجه التَّصغير، واسم أبيْها عبد العُزَّى بن عبدِ بنِ أسعدَ بنِ جابرِ بنِ نصر بنِ مالكِ بنِ حَسَلِ بنِ عامرِ بنِ لؤيٍّ، وذكرَها المُسْتَغْفِريُّ في جملة الصَّحابة وقال: تأخَّر إسلامُها.
          قال أبو موسى المدينيُّ: ليس في شيءٍ مِنَ الحديث ذكرُ إسلامِها.
          وقد تأوَّل بعضُهم في قولِها (رَاغِبَةٌ) أي في الإسلام، قلت: وتأوَّلَه بعضُهم عَلَى أنَّها راغبةٌ في الصِّلة، أو راغبةٌ عن ديني كارهةٌ لَه، وقال أبو داود في «جامعِه»: معنى راغبةٍ عن دينَها، أو عن صلتي، وفي أبي داود: ((راغِمة)) _بالميم_ أي كارِهةٌ للإسلام والهجرة وساخطةٌ عليَّ.
          وقيل: هاربةٌ مِنَ الإسلام، قال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء:100] وعند مسلمٍ: ((أَوْ رَاهِبةٌ)) وقال ابن بَطَّالٍ: هو بالباء مِنَ الرَّغبة في العطاء.
          وقال بعض أصحابنا: معناه هاربةٌ مِنْ قومِها، واحتجَّ بالآية قال: فلو كان أرادت المضيَّ لقالت: مراغمةً لا راغمةً، وقال أبو عمرو بن العلاء: تأوَّل في الآية أنَّهُ الخروج عن العدوِّ برغم أنفِه، وراغبةٌ بالباء أظهر في معنى الحديث، ووقع في «كتاب ابن التِّينِ» ((داعية)) ثُمَّ فسَّرها بقولِه: طالبةً بِرِّي ومتعرِّضةً لَه.
          وإنَّما بعث عمر الحلَّة إلى أخيْه المشرك بمكَّة عَلَى وجه التَّألُّف لَه عَلَى الإسلام، لأنَّهُ كان طمع بإسلامِه، وكان التَّآلف حينئذٍ عَلَى الإسلام مباحًا، وقد تألَّف صناديدَ قريشٍ، وجعل الله للمؤلَّفة قلوبُهم سهمًا في الصَّدقات، وكذلك فعلت أسماءُ في أُمِّها لأنَّ الله تعالى قد أمر بصلة الآباء الكفَّار وبِرِّهما بقولِه: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} إلى قولِه: / {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] فأمر تعالى بمصاحبة الأبوين المشركين في الدُّنيا بالمعروف، وبترك طاعتِهما في معصية الله.
          قال الخَطَّابيُّ: وفيْه جوازُ صلة الرَّحم الكافرة كالرَّحم المسلمة، وفيْه مستدَلٌّ لِمَنْ رأى وجوب نفقة الأب الكافر والأمِّ الكافرة عَلَى الولد المسلم.
          فائدةٌ: قال الدِّمْياطيُّ _ومِنْ خطِّه نقلتُ_: الَّذي أرسل إليْه عمر الحُلَّة لم يكن أخَاْه إنَّما هو أخو أخيْه زيد بن الخطَّاب لأمِّه أسماء بنت وهبٍ، وهي أيضًا أمُّ عثمان بن حَكيم بن أميَّة، وبنتُه أمُّ سعيد بن عثمان ولدت سعيد بن المسيِّب وخولة، ويُقال: خُويلة بنت حكيمٍ أمُّ السَّائب وعبد الرَّحمنِ ابني عثمان بن مظعونٍ، وأبُوْها مِنْ خلفاء بني أميَّة.