التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب القليل من الهبة

          ░2▒ (بَابُ القَلِيلِ مِنَ الهِبَةِ)
          2568- ذَكر فيْه حديثَ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبيِّ صلعم قَالَ: (لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ).
          هذا الحديث مِنْ أفرادِه وأخرجَه في الأَنْكحة بلفظ: ((لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ)) والكُراع في حدِّ الرُّسْغ وهو في البقر والغنم بمنزلة الوَظِيف في الفرس والبعير أي وهو خُفُّه وهو مستدقُّ السَّاق، يُذَكَّر ويُؤنَّث، وفي المثل: أَعْطِ العبد كراعًا يطلب ذراعًا.
          والذِّراع مِنْ جيِّد اللَّحم، وقيل: إنَّ الكُرَاع هنا اسم موضعٍ وذكرَه الغزاليُّ في «الإحياء» بلفظ: كُرَاع الغَمِيم، ولم أرَه كذلك، ويردُّهُ رواية التِّرمِذيِّ عن أنسٍ مرفوعًا: ((لَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ، وَلَوْ دُعِيتُ عَلَيْهِ لأَجَبْتُ)) ثُمَّ صحَّحَه.
          وادَّعى صاحب «التَّنقيب عَلَى المهذَّب» أنَّ سبب هذا الحديث أنَّ أمَّ حكيمٍ بنت وادعٍ قالت: يا رَسُول الله، أتكرهُ الهَدَيةَ؟ فقَالَ ◙: ((ما أقبحَ ردَّ الهديَّةِ! لو دُعيتُ إلى كُرَاعٍ لأَجَبْتُ، ولو أُهدي إليَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ)).
          فائدةٌ: الذِّرَاع أفضلُ مِنَ الكُرَاع وكان ◙ يحبُّ أكله ولهذا سُمَّ فيْه، وإنَّما كان يحبُّهُ لأنَّهُ مَبَادئ الشَّاة وأبعدُ مِنَ الأذى.
          ثانيةٌ: قد ذكرنا الحديث مِنْ طريقين وزيادة ثالثٍ إن صحَّ، وذكره ابن مَنْدَهْ في «مستخرَجِه» أيضًا مِنْ حديث أبي الدَّرداء وجابر بن عبد الله.
          ثالثةٌ: هذا منْه صلعم حَضٌّ لأمَّتِه عَلَى المهاداة والصِّلة والتَّأليف والتَّحابِّ، وإنَّما أخبر أنَّهُ لا يحتقر شيئًا ممَّا يُهدى إليْه أو يُدعى إليْه لئلَّا يمنع الباعث مِنَ المهاداة لاحتقار المهدى، وإنَّما أشار بالكُرَاع وفِرسِن الشَّاة إلى المبالغة في قَبول القليل مِنَ الهديَّة لا إلى إعطاء الكُرَاع والفِرسن ومهاداتِه لأنَّ أحدًا لا يفعل ذلك.
          رابعةٌ قولُه: (وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ) أي لحمُ ذراعٍ لأنَّ الذَّرِاع مؤنَّثةٌ وسُمِعَ مِنَ العرب: جاءتْه كتابي فخرَّقَها.
          وادَّعى ابن التِّينِ أنَّ الكُراع / مِنَ الدَّوابِّ ما دون الكعب مِنْ غير الإنسان، ومن الإنسان ما دون الرُّكبة، قال عن ابن فارسٍ: كُراع كلِّ شيءٍ طرفُه.
          وقال أبو عبيدٍ: الأكارع قوائم الشَّاة وأَكَارِع الأرض أطرافُها.
          وفي الحديث: ((لَا بَأسَ بالطَّلَبِ فِي أكارِعِ الأرْضِ)) أي أطرافِها القاصية، شبَّهَهُ بأكارع الشَّاة أي قوائمِها.
          قال: وفيْه إجابة الدَّعوة لِمَا قَلَّ أو كَثُر، وَتَقَبَّلَهَا هديَّةً ليُقْتدى بِه فيْه.