التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الهبة المقبوضة وغير المقبوضة والمقسومة وغير المقسومة

          ░23▒ (بَابُ الهِبَةِ المَقْبُوضَةِ وَغَيْرِ المَقْبُوضَةِ، وَالمَقْسُومَةِ وَغَيْرِ المَقْسُومَةِ)
          وَقَدْ وَهَبَ النَّبيُّ صلعم وَأَصْحَابُهُ لِهَوَازِنَ مَا غَنِمُوا مِنْهُمْ وَهُوَ غَيْرُ مَقْسُومٍ.
          يريد الحديث السَّالف الَّذي أسندَه [خ¦2307].
          2603- ثُمَّ ساق حديث جابرٍ: (أَتَيْتُ النَّبيَّ صلعم فِي المَسْجِدِ، فَقَضَانِي وَزَادَنِي).
          وشيخ البخاريِّ (ثَابِتٌ) هو ابن محمَّدٍ أبو إسماعيلَ الشَّيبانيُّ الكوفيُّ، مِنْ أفرادِه، مات سنة خمسَ عشرةَ أو ستَّ عشرةَ ومئتين، وقد سلف في الصَّلاة [خ¦443] أيضًا.
          قال الجَيَّانيُّ: وفي رواية أبي زيدٍ <وقَالَ ثَابتٌ> وكذا هو عن النَّسَفيِّ، وقال ابن السَّكَن في روايتِه عن الفَرَبْريِّ: <حَدَّثَنا ثَابتُ بن مُحَمَّدٍ>.
          وفي نسخة الأَصيليِّ عن أبي أحمد قال البخاريُّ: <حَدَّثَنا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنا ثابتٌ>. كذا وقع غيرَ منسوبٍ عن ثابتٍ، وقد حدَّث البخاريُّ عن ثابتٍ في غير موضعٍ مِنَ «الجامع»، ولم يتابَع أبو أحمد عَلَى هذا.
          2604- ثُمَّ ساقَه أيضًا عن محمَّد بن بشَّارٍ، وفيْه (قَالَ شُعْبَةُ: أُرَاهُ فَوَزَنَ لِي فَأَرْجَحَ، فَمَا زَالَ مِنْهَا شَيْءٌ حتَّى أَصَابَهَا أَهْلُ الشَّأْمِ يَوْمَ الحَرَّةِ).
          2605- ثُمَّ ساق حديثَ سهل بن سعدٍ السَّالفَ في الباب قبلَه [خ¦2602].
          2606- وحديثَ أبي هريرة (فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ _أَوْ خَيْرَكُمْ_ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً). وقد سلف الخلافُ في قبض الهبات.
          (وَالهِبَةِ غَيْرِ المَقْسُومَةِ) هي هبة المُشاع، وقد اختَلف العلماء فيْها.
          وقد أسلفنا عن مالكٍ والشَّافعيِّ وأحمدَ صِحَّةَ هبة المُشاع ومَنْ وافقَهم، ويتأتَّى فيْها القبضُ، كما يجوز فيْها البيع، وسواءٌ كان المُشاع ممَّا ينقسم كالعبيد والثِّياب والجواهر، وسواءٌ كان ممَّا يُقْبَض بالتَّخلية أو ممَّا يُقْبَض بالتَّحويل، وأبو حنيفة يقول: إن كان المُشاع ممَّا يُقْسَم لم يجزْ هبة شيءٍ منْه مُشاعًا، وإن كان ممَّا لا يُقْسَم كالعبيد واللؤلؤ فإنَّه يجوز هبتُه.
          حُجَّتُهم أنَّ المُشاع لا يتأتَّى فيْه القبضُ إلَّا بقبض الجميع، ومَنْ كلَّف الشَّريك هذا أَضَرَّ بِه، ولَه أن يمتنع مِنْ ذلك، وبقصَّة الصِّدِّيق السَّالفة في عدم القبض.
          حُجَّة المجيز أنَّه ◙ وهب حقَّهُ مِنْ غنائم حُنينٍ لهوازنَ، وحقُّهُ مِنْ ذلك مُشاعٌ لم يتعيَّن، وكذا حديث أبي هريرة في قضائِه الجملَ بأفضلَ مِنْ سِنِّه. ووجهُ الدِّلالة منْه أنَّ ثمن ذلك الفضلِ مُشاعٌ في ثمن السِّنِّ الَّتي كانت تلزمُه، وقد وهب ذلك. وكذلك قول جابرٍ: (قَضَانِي فَزَادَنِي).
          وقولُه: (فَوَزَنَ لِي فَأَرْجَحَ) وقد عُلم أنَّ تلك الزِّيادةَ وذَلِكَ الرَّجحانَ لم يكن مِنَ الثَّمن وإنَّما كان هبةً، ولم يكن متميِّزًا بل كان مُشاعًا، وهبةُ النَّبيِّ صلعم، وحديثُ الغلام والأشياخ بيِّنٌ في ذلك أيضًا، لأنَّهُ استوهب الغلام بنصيبِه مِنَ الشَّراب، وكان ذلك مُشاعًا غير متميِّزٍ ولا مقسومٍ، ولا يُعرف ما كان يشرب ممَّا كان يترك للأشياخ، ومَنْ أجاز هبة ما لا يُقْسَم فما ينقسم أجوَزُ.
          وأمَّا احتجاجُهم بقصَّةِ الصِّدِّيق فهو حُجَّةٌ عليْهم لأنَّهُ وهب لَها جِدَاد عشرين وَسْقًا مِنْ أوساقٍ كبيرةٍ، وهذا مُشاعٌ بينَهم، فدلَّ هذا عَلَى جواز هبة المُشاع لأنَّهُ لو لم يجزْ لم يفعلْه.
          وقولُه: ((لَوْ كُنْتِ حُزْتِيهِ لَكَانَ لَكِ)) لا يدلُّ عَلَى منع ما عقدَه وإنَّما قال ذلك، لئلَّا يقتديَ بِه مَنْ يريد الهروب بمالِه مِنَ الميراث، ولمَّا لم تَحُزْه عائشة في صِحَّتِه لم ينفذْه لَها في مرضِه لأنَّ عطايا المريض المقبوضة هي في ثلثِه كالوصايا، والوصيَّة للوارث لا تجوز إمَّا مطلقًا أو موقوفةً عَلَى إجازة باقي الوَرَثة، ولم يختلف الثَّلاثة مالكٌ وأبو حنيفة والشَّافعيُّ أنَّ عطايا المريض جائزةٌ في ثُلثِه، فلم يخالف مالكٌ مِنْ حديث أبي بكرٍ شيئًا، وأبو حنيفة خالف أوَّلَه وتأوَّل في آخرِه ما لم يجامَع عليْه.
          تنبيهاتٌ:
          أحدُها في قِصَّة هوازنَ: هبة المُشاع والمجهول، ومَنْ منع هبة المُشاع لأجل انتفاء القبض، وقد سلف، قال ابن التِّينِ: ولا أعلم خلافًا فيما إذا وهب جماعةٌ شيئًا شَركةً بينَهم لواحدٍ وقبضَه وحازَه دونَهم أنَّه يصحُّ فَتَقُومُ عَلَى المخالِف الحجَّة مِنَ الحديث.
          ثانيْها: كانت هَوَازنُ سنة ثمانٍ عَقِب الفتح، خرج إليْهم مِنْ مكَّة قبل مرجِعِه إلى المدينة، فكانت حُنينٌ وَهَوَازن، وحاصر الطَّائفَ وانصرف عنْها ولم يفتحْها، وهي آخرُ غزوةٍ شهدَها بنفسِه وقاتل فيْها، ذكرَه أجمعَ الدَّاوُدِيُّ.
          وذكر الشَّيخ أبو محمَّدٍ أنَّ غزوة تبوكَ _وهي جيش العُسرة_ كانت عام تسعٍ، وأن النَّبيَّ صلعم توجَّه إليْها أوَّلَ يومٍ مِنْ رجبٍ، واستخلف عليًّا عَلَى المدينة، وذكر أبو محمَّدٍ أيضًا أنَّ حُنينًا هي هوازن، وإنَّما حُنينٌ بلدٌ وَهَوَازنُ قبيل، اجتمعوا هناك مع رَسُول الله صلعم بخلاف ما ذكرَه الدَّاوُدِيُّ.
          ثالثُها قولُه: (فَأَرْجَحَ) فيْه هبةُ المُشاع أيضًا وكان يوم الحَرَّة في إمارة يزيد، قاتلَهم مسلم بن عُقبة، كان يزيد أخرجَه إلى ابن الزُّبير، ونهَاْه ألَّا يعارضَ أهل المدينة، فطرد أهلُ المدينة مَنْ كان بِها مِنْ بني أميَّة إلَّا عمرو بن عثمان ومروان، وتعرَّضوا لمسلمٍ وخرجوا إليْه، فأقام وكتب إلى يزيدَ، فكتب / إليْه: أمَّا إذْ أبَوا فارجع إليْهم، فإن ظفرتَ بِهم فأبحْها ثلاثًا، وكان مسلمٌ مريضًا فأمر أن يُجعل عَلَى سريرٍ بين الصَّفَّين، لئلَّا يفرَّ أصحابُه، فقَتَل مِنْ أهل المدينة ستَّةَ آلافٍ وخمس مئةٍ، وأباح المدينة وختم في أعناق مَنْ كان بِها مِنَ الصَّحابة بالخشب ليُذلَّهم، فبايع أهل المدينة ليزيدَ، ونتف لحية عمرو بن عثمان وما ماطل حوصرت مكَّة ورميت الكعبة بالنِّفط فاحترق سقف الكعبة.
          رابعُها: في حديث سهلٍ في الشَّراب شركةُ الهديَّة إذا كانت طعامًا إلَّا أنَّ صاحبَها المبدأ فيْها ثُمَّ الأيمن فالأيمن. وفيْه هبة المجهول، قالَه الدَّاوُديُّ.