الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}

          ░47▒ (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلَا قَلِيلاً} [الإسراء:85]): اعلم: / أن غرض المصنف بهذا الباب التنبيه على أن من العلم أشياء لم يطلع الله عليها نبياً ولا غيره، والاستثناء من العلم؛ أي: إلا علماً قليلاً أو من الإيتاء؛ أي: إلا إيتاء قليلاً، وقيل: من ضمير {أُوتِيتُمْ}؛ أي: إلا قليلاً منكم.
          سبب ورودها: ما ذكره في ((الكشاف)) وغيره بقوله: بعثت اليهود إلى قريش أن سلوه عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين وعن الروح، فإن أجاب عنها، أو سكت، فليس بنبي، وإن أجاب عن بعض وسكت فهو نبي، فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة، فندموا على سؤالهم.
          وقال البيضاوي: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلَا قَلِيلاً}: تستفيدونه بتوسط حواسكم فإن اكتساب العقل للمعارف النظرية، إنما هو من الضروريات المستفادة من إحساس الجزئيات، ولذلك قيل: من فقد حساً فقد علماً، ولعل أكثر الأشياء لا يدركه الحس، ولا شيئاً من أحواله الكثيرة المعرفة لذاته، وهو إشارة إلى أن الروح مما لا يمكن معرفة ذاته إلا بعوارض تميزه عمَّا يلتبس به، فلذلك اقتصر على هذا الجواب، كما اقتصر موسى في جواب: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] بذكر بعض صفاته. انتهى.
          قال في ((الكشاف)): الخطاب عام، روي عن رسول الله صلعم أنه لما قال لهم قالوا: نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه؟ فقال: (بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلاً)، فقالوا: ما أعجب شأنك، ساعة تقول: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269]، وساعة تقول: هذا، فنزلت: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان:27].
          وليس ما قالوه بلازم؛ لأن القلة والكثرة تدوران مع الإضافة، فيوصف الشيء بالقلة مضافاً إلى ما فوقه، وبالكثرة مضافاً إلى ما تحته، فالحكمة التي أوتيها العبد خير كثير في نفسها، إلَّا أنها إذا أضيفت إلى علم الله، فهي قليلة.
          وقيل: هو خطاب لليهود خاصة؛ لأنهم قالوا للنبي صلعم: قد أوتينا التوراة، وفيها الحكمة، وقد تلوت: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}، فقيل لهم: إن علم التوراة قليل في جنب علم الله.
          وقال البيضاوي: وما قالوه لسوء فهمهم؛ لأن الحكمة الإنسانية: أن يعلم من الخير والشر ما تسعه القدرة البشرية، بل ما ينتظم به معاشه ومعاده، وهو بالإضافة إلى معلومات الله التي لا نهاية لها قليل ينال به خير الدارين، وهو بالإضافة إليه كثير.