الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب كتابة العلم

          ░39▒ (بَابُ كِتَابَةِ العِلْمِ): الشامل للحديث.
          اعلم أن طريقة البخاري في الأحكام التي يقع فيها اختلاف أن لا يجزم فيها بشيء كما هنا، فإن السلف اختلفوا في كتابة العلم وتركها أولاً فقد كره جماعة من الصحابة والتابعين كتابة الحديث، واستحبوا أن يؤخذ عنهم حفظاً كما أخذوه، لكن لما قصرت الهمم، وخاف الأئمة من ضياع العلم، دونوه، وأول من دون الحديث ابن شهاب الزهري على رأس المائة بأمر عمر بن عبد العزيز، ثم كثر التدوين والتصنيف.
          وقد ذكر البخاري في الباب أربعة أحاديث تدل على جواز كتابته، لكن استشكل بأن الحديث عن أبي سعيد الخدري الذي رواه مسلم يعارض ذلك أن رسول الله قال: (لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن).
          وأجيب بالجمع / بينهما: بأن النهي خاص بوقت نزول القرآن، خشية التباسه بغيره والإذن في غير ذلك، أو أن النهي خاص بكتابة غير القرآن معه في صحيفة واحدة، والإذن في تفريقهما أو النهي متقدم والإذن ناسخ له عند الأمن من الالتباس وهو أقربها مع أنه لا ينافيها. وقيل: النهي خاص بمن خشي الإشكال على الكتاب دون الحفظ، وقيل: حديث أبي سعيد معلول بوقفه عليه، قاله البخاري وآخرون، ثم استقر الأمر وانعقد الإجماع على جواز كتابته لما فيه من الخير، بل على استحبابها، بل لا يبعد الوجوب لقلة اهتمام الناس بالحفظ؛ لأنه لو لم يكتب لضاع واندرس، وإذا أوجبوا ذلك في كتابة الوثائق تارة فهذا أولى بالوجوب.