الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول النبي: رب مبلغ أوعى من سامع

          ░9▒ (باب: قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم: رُبَّ مُبَلَّغٍ): بفتح اللام المشددة، وغلط من كسرها؛ أي: إليه عني، فحذف الجار واتصل الضمير بالفعل على حد قولهم مشترك؛ أي: فيه، وجملة (أَوْعَى): خبر مجرور (رب) أو صفة له، والخبر محذوف نحو يوجد؛ لأنها حرف جر شبيه بالزائد فمجرورها في محل رفع بالابتداء.
          نعم، يجوز في صفته الجر مراعاة للفظه؛ أي: افهم لما أقول (مِنْ سَامِعٍ): أي: مني، ورواه ابن منده بلفظ: (فإنه عسى أن يكون بعض من لم يشهد أوعى لما أقول من بعض من شهد).
          وقال في ((الفتح)): و(مبلَغ) _بفتح اللام_ و(أوعى) نعت له والذي يتعلق به (رب) محذوف كـ(يكون) ويجوز على مذهب الكوفيين في أن (رب) اسم أنها مبتدأ و(أوعى) الخبر، فلا حذف.
          وأقول: ما ذكره من تعلقها بمحذوف مبني على قول من جعلها معدية والذي صححه ابن هشام ككثيرين من المتأخرين أنها لا تتعلق _كما قدمنا_ فقد ذكروا أن محل مجرورها في نحو: رب رجل صالح عندي، رفع على الابتدائية، وفي: نحو رب رجل صالح لقيت، نصب على المفعولية، وفي نحو: رب رجل صالح لقيته، رفع أو نصب، وهذا على مذهب البصريين.
          وقول العيني: أنه مجرور بالإضافة على مذهب البصريين.
          لعله أراد الإضافة اللغوية، وهي من حروف الجر لكنها تفاوتها بأمور كوجوب تصديرها وتنكير مجرورها، ونعته إن كان ظاهراً.
          وصحح ابن مالك في ((التسهيل)): أنه لا يجب نعته وبزيادتها في الإعراب دون المعنى، وغلبة حذف المعدي بها.
          وقيل: يجب فتقول مثلاً: رب رجل صالح، بحذف لقيته مثلاً ومضيه في الأكثر، أما الكوفيون فإنهم زعموا أنها اسم دائماً فجروها مضاف إليه، وهي نفسها في نحو الأمثلة المذكورة اسم مبتدأ أو مفعول بمعنى القليل عندهم.
          فقد ذكر السيوطي في ((النكت)): أن جملة الكوفيين قالوا: بأنها للتقليل، وقد اختلف في معناها غيرهم، فقال الأكثرون: أنها للتقليل دائماً، ومشى عليه ابن مالك في ((سبك المنظوم)).
          وقال جماعة كابن دستويه: أنها للتكثير دائماً. وقيل: معناها التقليل في أكثر الأوقات. وقيل: معناها التكثير في موضع المباهاة. وقيل: معناها للتكثير كثيراً، وللتقليل / قليلاً، وصححه ابن مالك في ((التسهيل))، وابن هشام في ((المغني)).
          وقال السيوطي في ((النكت)): والمختار عندي عكسه؛ وهو أنها للتقليل غالباً، وللتكثير نادراً وقال: وهو قول أبي نصر الفارابي.
          وقيل: إنها لا دلالة لها أصلاً على تكثير ولا تقليل، وإنما يستفاد أحدهما من السياق، وصححه ابن حيان وفيها كما في (المغني) ستة عشرة لغة: ضم الراء وفتحها، وكلاهما مع التشديد والتخفيف، والأوجه الأربعة مع تاء التأنيث ساكنة أو محركة، ومع التجريد منها، فهذه اثنتي عشرة، والضم والفتح مع إسكان الباء، وضم الحرفين مع التشديد ومع التخفيف، وجعلها شيخ الإسلام في ((شرح المتفرجة الصغير)) ثمانية عشر بزيادة ما مع الثاء وحذفها.
          وقال في ((المنحة)): وفي (رب) سبعون لغة بينتها مع زيادة في ((شرح المنفرجة الكبير))، قال فيه: وفي (رب) سبعون لغة: ضم الراء وفتحها مع تشديد الباء وتخفيفها مفتوحة في الفتح والضم أو مضمومة في الضم كل من الستة مع تاء التأنيث ساكنة أو مفتوحة أو مضمومة، أو مع ما، أو معهما بأحوال التاء أو مجردة منها، فذلك ثمان وأربعون، وضمها وفتحها مع إسكان الباء كل منهما مع التاء مفتوحة أو مضمومة، أو مع ما أو معهما بحالتي التاء، أو مجردة، فذلك اثنتي عشرة، وربتا: بضم الراء وفتحها، كل منهما مع إسكان الباء أو فتحها أو ضمها مخففة أو مشددة في الأخيرين، فذلك عشرة فالجملة سبعون وإن نظرت إلى تحريك التاء بالكسر كما اقتضاه تعبير من عبر فيها بتحريكها بدل فتحها، زادت اللغات على ذلك، انتهى.
          قال الشيخ قطب الدين: أراد البخاري بهذا التبويب الاستدلال على جواز الحمل عمن ليس بفقيه من الذين لا علم عندهم ولا فقه إذا ضبط ما يحدث به.
          قال في ((الفتح)): هذا الحديث المعلق أورد المصنف في الباب معناه، وأما لفظه فهو موصول عنده في باب الخطبة بمنى من كتاب الحج.
          وقال الكرماني: وهذا الحديث رواه معلقاً، وهو إما معنى الحديث الذي ذكره بعده بالإسناد، وإما أنه ثبت عنده بهذا اللفظ من طريق آخر.
          وأقول: لا يلزم في الحديث المعلق أحد الأمرين وإن كان موجوداً هنا.
          وقال الشيخ قطب الدين: وقد جاءت لفظ الترجمة في الترمذي من رواية عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه قال: سمعت النبي صلعم يقول: (نضر الله امرأ سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع). قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
          واعتُرض بأنه كيف قال: حسن صحيح مع أنهم تكلموا في سماع عبد الرحمن من أبيه؟ فقال: يحيى بن معين: عبد الرحمن وأبو عبيدة ابنا عبد الله بن مسعود لم يسمعا من أبيهما؛ أي: لصغرهما.
          وأجاب ابن الملقن: بأنه لعله لم يعبأ بما قيل في عدم سماع عبد الرحمن من أبيه لصغره.
          ثم قال الشيخ قطب الدين: لم يخرج البخاري لأبي عبيدة شيئاً، وأخرج هو ومسلم لعبد الرحمن عن مسروق فلما كان الحديث ليس من شرطه جعله في الترجمة.
          وقال ابن الملقن: وقد أخرج الترمذي في ((جامعه)) وابن حبان والحاكم في ((صحيحهما)) من حديث زيد بن ثابت قال: سمعت النبي صلعم يقول: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فحفظها ووعاها، فأداها إلى من لم يسمعها فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه). قال الترمذي: حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.
          ونضَّر: بالتشديد أكثر من التخفيف؛ أي: حسَّن، ويقال: أنضر الله وجهه، ونضر: بالضم والكسر، حكاها الجوهري، انتهى.
          وأقول: الحديث روي بالتشديد والتخفيف، وأما أنضر ونضِر _بالضم والكسر_ فلعله لغة فقط. فتأمل.