الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر

          ░16▒ (بَابُ: مَا ذُكِرَ فِي ذَهَابِ مُوسَى _ ◙_ فِي البَحْرِ إِلَى الْخَضِرِ) هذا الباب معقود للترغيب في احتمال المشقة في طلب العلم؛ لأن ما يغتبط به تحتمل المشقة فيه؛ ولأن موسى _ ╕ _ لم يمنعه بلوغه من السيادة المحل الأعلى من طلب العلم، وركوب البحر والبر لأجله، فظهر بهذا مناسبة هذا الباب لما قبله، قاله في ((الفتح)).
          اعلم: أن موسى هذا _ ◙_ هو ابن عمران لا موسى بن ميشا كما قيل به، مات _كأخيه هارون_ في التيه وعمره مئة وعشرون سنة على الصحيح؛ لأنه لما خرج ببني إسرائيل من مصر كان عمره ثمانين سنة وأقام في التيه أربعين سنة.
          وقال الفربري: مات موسى وعمره مئة وستون سنة، وكانت وفاته في التيه في سابع آذار لمضي ألف سنة وستمائة وعشرين سنة من الطوفان، وموسى عبراني معرب موشى _بالشين المعجمة_ سمته به آسية بنت مزاحم _امرأة فرعون_ لما وجدوه في التابوت، وهو اسم اقتضاه حاله؛ لأنه وجد بين الماء والشجر إذ مو بلغة القبط: الماء وشى: الشجر، فعرب.
          قال أبو عمرو بن العلاء: موسى: اسم رجل مفعل، فعلى هذا يصرف في النكرة، وقال الكسائي: وزنه فعلى فلا ينصرف بحال، والنسبة إليه موسوي وموسى وتصغيره: مويسَي _بفتح السين_ فعلى، ويقال: مويسِي _بكسر السين، وإسكان الياء_ غير منونة.
          وقوله: (فِي البَحْرِ): متعلق بذهاب، والبحر: خلاف البر سمي بذلك لعمقه واتساعه، والجمع: / أبحر وبحار وبحور.
          قال في ((الفتح)): وظاهر التبويب: أن موسى ركب البحر لما توجه في طلب الخضر، وفيه نظر؛ لأن الذي ثبت عند المصنف وغيره أنه خرج في البر، وسيأتي بلفظ: (فخرجا يمشيان) وفي لفظ لأحمد: (حتى أتيا الصخرة)، وإنما ركب في البحر في السفينة هو والخضر بعد أن التقيا، فيحمل قوله: (إلى الخضر) على أن فيه حذفاً؛ أي: إلى مقصد الخضر؛ لأن موسى لم يركب البحر لحاجة نفسه، وإنما ركبه تبعاً للخضر. انتهى. واعترضه العيني فقال: هذا لا يقع جواباً عن الإشكال المذكور، وإنما هو كلام طائح كما لا يخفى. انتهى.
          وأقول: قال في (الانتقاض): أخذ العيني كلام ((الفتح)) وتصرف فيه، وحَرَفَ بعضه، وادعى أنه طائح، و((الفتح)) إنما ذكر الاحتمال مرتباً على قوله: إنما ركب البحر في السفينة مع الخضر، وعبارته: إلى مقصد الخضر، وبه يتم التوجيه فحذفها العيني، ثم ادعى أنه كلام طائح، فـ(لله) الأمر.
          ثم قال في ((الفتح)): ويحتمل أن يكون التقدير: ذهاب موسى في ساحل البحر، فيكون فيه حذف مضاف، ويمكن أن يقال: مقصود الذهاب إنما حصل بتمام القصة، ومن تمامها أنه ركب معه في البحر فأطلق على جميعها ذهاباً مجازاً من إطلاق الكل على البعض أو من تسمية السبب باسم ما تسبب عنه. وحمله ابن المنذر على أن (إلى) بمعنى مع، وقال ابن رشيد: يحتمل أن يكون ثبت عند البخاري أن موسى توجه في البحر لما طلب الخضر، ولعله قوى عنده أحد الاحتمالين في قوله: (فكان يتبع أثر الحوت في البحر) فالظرف يحتمل أن يكون للحوت، ويحتمل أن يكون لموسى، ويؤيده ما رواه عبدُ بن حميد عن أبي العالية وغيره: أن موسى التقى بالخضر في جزيرة من جزائر البحر، وعنده أيضاً من طريق الربيع بن أنس قال: إنجاب الماء عن مسلك الحوت، فصار طاقة مفتوحة، فدخلها موسى على أثر الحوت حتى انتهى إلى الخضر، فهذان الأثران الموقوفان رجالهما ثقات يفيدان أنه ركب البحر إليه. انتهى ملخصاً.
          ثم قال: وفي (تفسير عطاء الخراساني): أن الحوت لما حيي ودخل البحر اتبع موسى أثره حتى وجد الخضر، ويقوى الحمل على هذا، وأن المصنف أشار بالترجمة إليه كونه عبر بقوله: (ما ذكر): فأتى بصيغة التمريض التي يعبر بها فيما فيه نظر، وهذا أليق بتصرفه. انتهى.
          وقوله: (إلى الخضر) متعلق أيضاً بذهاب، ولقب بذلك؛ لأنه جلس على فروة بيضاء فاخضر ما حوله كما يأتي في ((الصحيح)) وكنيته أبو العباس، وهو بفتح الخاء المعجمة، وكسر الضاد الساقطة، وتجري فيه باقي اللغات في كتف، واللام فيه للمح واسمه: بليا بن ملكان على الصحيح، وبَلْيى: بفتح الموحدة، وسكون اللام وبتحتية بعدها ألف مقصورة، وبعضهم يزيد همزة في آخره، وبعضهم يزيد في أوله همزة، ومَلْكَان: بفتح الميم، وسكون اللام، وفتح الكاف وبنون بعد الألف، وقيل: اسمه خضرون، وقيل: أحمد، وقيل: عامر، وقيل: أرميا، وقيل: اليسع، وسمي بذلك؛ لأن عمله وسع ست سموات، وست أرضين، قاله مقاتل، ووهاه ابن الجوزي. وقيل في أبيه: أنه قابيل ابن آدم، وقيل: ابن آدم لصلبه، وقيل: أنه الرابع من ولده، وقيل: من ولد عيصو، وقيل: أنه ابن فرعون صاحب موسى، وقيل: أبوه، وهما غريبان. واختلف في أي وقت كان، فقيل: كان أيام أفريدون، وهو ذو القرنين عند بعضهم.
          قال ابن جرير: والصحيح: أنه كان متقدماً على زمن أفريدون وأدرك موسى، وقيل: كان مقدمة ذي القرنين الأكبر الذي كان أيام إبراهيم _ ◙_، وقيل: كان زمن سليمان، وأنه المراد بقوله تعالى: و{قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ} [النمل:40].
          والصحيح: أنه كان نبياً غير مرسل، وقيل: مرسل، وقيل: إنه ملك وهو غريب، وقيل: ولي. والجمهور على أنه معمر حيّ إلى قرب الساعة، وقيل: إنه لا يموت إلا بعد ارتفاع القرآن لشربه من ماء الحياة، وقيل: لأنه دفن آدم بعد خروجه من الطوفان فنالته دعوة أبيه آدم بطول حياة من يدفنه، وقيل: ليقتله الدجال ثم يحييه فيكذبه ففي ((صحيح مسلم)) في حديث الدجال: أنه يقتل رجلاً ثم يحييه.
          قال إبراهيم بن سفيان أحد رواة ((صحيح مسلم)): يقال: أنه الخضر والكلام عليه استوفيناه في (الأجوبة المحققة عن الأسئلة المتفرقة) فراجعها.
          (وَقَوْلِهِ تَعَالَى): معطوف على (مَا): ونو من جملة الترجمة: ({هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي} [الكهف:66] الآيَةَ) بالنصب على تقدير أمر لا على تقدير: فذكر، وإن قاله في ((الفتح)) وتبعوه، فافهم.ويجوز الرفع، وذكر الأصيلي في روايته باقي الآية وهو <{مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}> وهذه الآية حكاية / لقول موسى مع الخضر _ ♂_ حين سأله أن يعلمه من العلم الذي عنده ممال لم يقف عليه، وكان له ابتلاء حيث لم يكل العلم إلى الله تعالى و({عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ})؛ أي: على شرط أن تعلمني، وهو في موضع الحال من الفاعل، و({رُشْدًا}): مفعول به لتعلمني، ويجوز أن يكون مفعول ({تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ}) و({رُشْدًا}): بدل منه؛ أي: علماً ذا رُشْد، وهو إصابة الخير، وقرأه بضم الراء، وسكون الشين أبو عمرو ويعقوب، والحسن، واليزيدي والباقون بفتحها وهما لغتان وعليهما فمفعول ({تُعَلِّمَنِ}) الثاني: ({مِمَّا عُلِّمْتَ})، ومفعول ({عُلِّمْتَ}) العائد إلى ما محذوف وكلا الفعلين منقول من ({عُلِّمْتَ}) المتعدية لواحد، ويجوز نصب ({رُشْدًا}) على المصدرية بمحذوف من لفظه أو على أنه مفعول له لأتبعك أو ظرف لاتبعك، ولا محذور في كون الرسول يتعلم من غيره ما لم يكن شرطاً في أبواب الدين، فإن الرسول ينبغي أن يكون أعلم ممن أرسل عليه فيما بعث به من أصول الدين وفروعه لا مطلقاً.وقال في ((الكشاف)): لا غضاضة بالنبي في أخذ العلم من نبي مثله، وإنما يغض منه أن يأخذ عمن دونه.
          وقد راعى موسى _ ◙_ غاية الأدب والتواضع، فاستجهل نفسه، واستأذن أن يكون تابعاً له، وسأله أن يرشده وينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم الله عليه. انتهى.