الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ما جاء في العلم وقوله تعالى {وقل رب زدني علمًا}

          ░6▒ (باب: مَا جَاءَ فِي الْعِلْمِ. وَقَوْلِ الله تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114]): قد تقدمت الآية في أول كتاب العلم، فلا حاجة إلى إعادتها، ولم يذكر للترجمة حديثاً، فالأولى إسقاط ذلك كله كما في غالب النسخ، وكما في رواية ابن عساكر والأصيلي وأبي ذرٍّ وأبي الوقت.
          (باب الْقِرَاءَةُ وَالْعَرْضُ عَلَى الْمُحَدِّثِ): وسقط <باب> في نسخة، وعلى المحدث تنازعه كل من المصدرين، والمراد بالعرض هنا عرض القراءة، فالعطف بحسب المراد للتفسير لا عرض المناولة، إذ العرض قسمان: عرض قراءة، وعرض مناولة.
          فعرض المناولة: أن يجيء الطالب إلى الشيخ بكتاب فيعرضه عليه فيتأمله الشيخ وهو عارف مستيقظ ثم يعيده إليه ويقول له: وقفت على ما فيه، وهو حديثي عن فلان، فأجزت لك روايته عني، ونحو ذلك.
          وعرض قراءة: وهو أن يقرأ الطالب على الشيخ من كتابه، أو حفظه، أو يسمعه عليه بقراءة غيره كذلك، فالمراد بالعرض: عرض القراءة لا به نفسها بدليل ما يذكر بعد الترجمة، قاله الكرماني ملخصاً مع زيادة.
          ثم قال: فإن قلت، فعلى هذا لا يصح العطف لما فيه من عطف الشيء على نفسه قلت: العرض تفسير للقراءة ومثله يسمى العطف التفسيري وجاز العطف لتغايرهما مفهوماً، وإن اتحدا بحسب الذات وفائدته الإشعار بأنه جامع لهذين الاسمين، انتهى.
          إذا علمت ذلك ظهر لك أن نقل العيني عن الكرماني: أن بين المعطوفين مساواة محمول على المساواة بحسب المراد والم صدق لا المفهوم.
          وقال ((الفتح)): إنما غاير بينهما بالعطف لما بينهما من العموم والخصوص؛ لأن الطالب إذا قرأ كان أعم من العرض وغيره، ولا يقع العرض إلا بالقراءة؛ لأن العرض عبارة عمَّا يعارض به الطالب أصل شيخه معه أو مع غيره بحضرته، فهو أخص من القراءة، انتهى.
          واعترضه العيني فقال: هذا كلام مخبط لأنه تارة جعل القراءة أعم من العرض، وتارة جعلها مساوية له لأن قوله: لأن الطالب إذا قرأ كان أعم من العرض وغيره مشعر بأن بين القراءة والعرض عموماً وخصوصاً مطلقاً لاستلزام صدق أحدهما صدق الآخر، كالإنسان والحيوان.
          وقوله: ولا يقع العرض إلا بالقراءة، مشعر بأن بينهما مساواة لأنهما متلازمان في الصدق كالإنسان والناطق، والتحقيق في هذا الموضع: أن العرض بالمعنى الأخص مساوٍ للقراءة، / وبالمعنى الأعم يكون بينهما عموم وخصوص مطلق لا يستلزم صدق أحدهما صدق الآخر، فالمستلزم أخص مطلقاً، واللازم أعم، فالقراءة بمنزلة الإنسان، والعرض بمنزلة الحيوان، وإنما قلنا: إن العرض له معنيان؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون بقراءة أو لا، فالأول: يسمى عرض قراءة، والثاني: عرض مناولة، وذكر ضابطه السابق انتهى.
          وأقول: قال في ((الانتقاض)): ليس ذلك مراد الفتح ولم يزد على ذلك ولا يخفى ما في كلام العيني لمن تدبره وأن كلام ((الفتح)) لا تخبيط فيه.
          ثم قال في ((الفتح)): وتوسع فيه بعضهم فأطلقه على ما إذا أحضر الأصل لشيخه فنظر فيه وعرف صحته، وأذن له أن يرويه عنه من غير أن يحدثه به، أو يقرأه الطالب عليه، والحقُّ أن هذا يسمى عرض المناولة بهالتقييد لا الإطلاق.
          وقد كان بعض السلف لا يعتدون إلا بما سمعوه من ألفاظ المشايخ، دون ما يقرأ عليهم؛ ولهذا بوب البخاري على جوازه، وأورد فيه قول الحسن البصري: لا بأس بالقراءة على العالم، ثم أسنده إليه بعد أن علقه، وكذا ذكر عن سفيان الثوري، ومالك موصولاً أنهما سويا بين السماع من العالم والقراءة عليه.
          وممن منع صحة الرواية بالقراءة على الشيخ أبو عاصم.
          تنبيه: وجه المناسبة بين البابين ظاهرة؛ لأن المذكور في الباب الأول وهو: طرح الإمام المسألة على أصحابه، قراءة الشيخ، والمذكور في هذا الباب القراءة عليه، قاله العيني.
          وقال الشيخ قطب الدين: لما ذكره البخاري في الباب الأول قراءة الشيخ وهو قوله: باب قول المحدث حدثنا...إلخ عقَّبه بهذا الباب، وكان من حقه أن يقدم هذا الباب على قول المحدث: ثنا...إلخ؛ لأن قول المحدث المذكور فرع عن تحمله هل كان بالقراءة أو بالعرض؟ أو يقول: باب قراءة الشيخ، ثم يقول: باب القراءة على المحدث.
          واعترضه العيني: بأن حق المناسبة أن تكون بين البابين المتواليين، وبأن قوله: وكان من حقه...إلخ ليس كذلك، بل الذي رتبه هو الحق لأنا قلنا المذكور في الباب السابق قراءة الشيخ، وفي هذا الباب القراءة على الشيخ، وقراءة الشيخ أقوى، والأقوى يستحق التقديم، انتهى.
          وأقول: يجوز، بل يحسن أيضاً إبداء المناسبة بين بابين، وإن لم يتواليا إذا جمعهما كتاب كما هنا، ولو صنع المؤلف كما قال الشيخ قطب الدين لكان له وجه أيضاً، فتأمل.
          (وَرَأَى الْحَسَنُ): أي: البصري، (وسفيان): أي: الثوري، (وَمَالِكٌ): أي: ابن أنس، (الْقِرَاءَةَ): أي: قراءة الطالب على المحدث (جَائِزَةً) وهو يسمع: أي: في صحة النقل عنه، والتحديث بمجرد ذلك، وليس قوله ورأى الحسن...إلخ داخلاً في الترجمة.
          قال الكرماني: إلا أن يأول الفعل الماضي بالمصدر؛ أي: باب القراءة ورأي الحسن واحتجاج بعضهم بل هو استئناف كلام، انتهى.
          وأقول: لكن لا سابك للمصدر موجود.
          (قال أبو عبد الله... إلخ) سقط هو ومقوله لغير الأصيلي وأبي الوقت وابن عساكر (سمعت أبا عاصم) هو: الضَّحاك بن مخلد الشيباني البصري، الحافظ الزاهد، قال عن نفسه: ما دلست قط، ولا أغتبت أحداً منذ عقلت تحريم الغيبة، مات في ذي الحجة سنة اثنتي عشرة ومائتين عن تسعين سنة وستة أشهر.
          يذكر عن سفيان الثوري ومالك أنهما كانا يريان القراءة والسماع جائزين، ولأبي ذر: <جائزة>؛ أي: القراءة؛ لأن السماع لا نزاع في جوازه وهذا كالسابق واللاحق يدل لجواز الرواية والنقل بالقراءة على الشيخ، وغرضه منه الرد على من خالف في ذلك كأبي عاصم النبيل وعبد الرحمن بن سلام الجمحي ووكيع، والراجح الجواز؛ بل نقل القاضي عياض: عدم الخلاف في صحة الرواية بها.
          وقد كان الإمام مالك يأبى أشد الإباء على المخالف، ويقول: كيف لا يجزئك هذا في الحديث، ويجزئك في القرآن، والقرآن أعظم.
          وقال بعض أصحابه: صحبته تسع عشرة سنة فما رأيته قرأ ((الموطأ)) على أحد بل يقرؤون عليه.
          (وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي) صحة (الْقِرَاءَةِ عَلَى) الشيخ (الْعَالِمِ) قال في ((الفتح)): المحتج بذلك الحميدي شيخ البخاري، قاله في (النوادر) له، كذا قال بعض من أدركته وتبعته في ((المقدمة)) ثم ظهر لي خلافه وأن قائل ذلك أبو سعيد الحداد أخرجه / البيهقي في (المعرفة) من طريق ابن خزيمة قال: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري، قال أبو سعيد الحداد: عندي خبر عن النبي صلعم في القراءة على العالم، فقيل له، فقال: قصة ضمام بن ثعلبة، قال: آلله أمرك بهذا؟ قال: (نعم). انتهى.
          وليس في المتن الذي ساقه البخاري بعد من حديث أنس في قصة ضمام أن ضماماً أخبر قومه بذلك، وإنما وقع ذلك من طريق أخرى ذكرها أحمد وغيره من طريق ابن إسحاق عن ابن عباس قال: بعث بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة، فذكر الحديث بطوله؛ وفي آخره: أن ضماماً قال لقومه عندما رجع إليهم: (إن الله قد بعث رسولاً وأنزل عليه كتاباً، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه، قال: فوالله! ما أمسى من ذلك اليوم وفي حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلماً).
          وقوله (بِحَدِيثِ): متعلق باحتج (ضِمَامِ): بكسر الضاد الساقطة (بْنِ ثَعْلَبَةَ): بفتح المثلثة وإسكان المهملة وبعد اللام موحدة، أخو بني سعد بن بكر وفد على النَّبي سنة تسع فيما قاله أبو عبيدة والطبري وابن إسحاق. وقال الواقدي: سنة خمس.
          (أنه): ثبتت للأصيلي وأبي ذرٍّ، وسقطت لغيرهما (قَالَ لِلنَّبِيِّ صلعم: آللَّهُ): بمد همزة الاستفهام، ورفعه على أنه مبتدأ.
          وجملة (أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ): خبره وسقطت الباء من (أن) في أكثر النسخ، وهي مرادة، وثبتت في بعضها، و(تصلي) بالفوقية، خطاب له وما ثبت له يثبت لأمته، إلا بدليل على الخصوص، وبالنون في ((فرع اليونينية))، ولأبوي ذرٍّ والوقت عن الكشميهني: <الصلاة> بالإفراد لإرادة الجنس (قَالَ): أي: ذلك المحتج الذي هو الحميدي.
          (فَهَذِهِ قِرَاءَةٌ عَلَى النَّبِيِّ صلعم) وللأصيلي كما في الفرع فهذه قراءة على العالم؛ أي: وهي بمعنى الأولى، ووقع في بعض النسخ بإضافة (قراءة) إلى (النبي) من الإضافة إلى المفعول بتقدير الجار.
          (أَخْبَرَ ضِمَامٌ قَوْمَهُ بِذَلِكَ): أي: المذكور الذي سأله للنبي من الأمر بالصلاة، وسيأتي آخر الباب.
          (فَأَجَازُوهُ): أي: قبله منه النبي وأصحابه أو قبله منه قومه وصح الاستدلال بإجازة قومه لأنهم أجازوه بعد إسلامهم، وليس في الرواية الآتية أنه أخبر قومه بذلك لكن روى ذلك من طريق أخرى عند أحمد.
          (وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِالصَّكِّ) بفتح المهملة وتشديد الكاف، وهو فارسي وهو ما يكتب فيه إقرار المقر، وجملة (يُقْرَأُ عَلَى الْقَوْمِ) بضم التحتية حال (فَيَقُولُونَ: أَشْهَدَنَا فُلاَنٌ، وَيُقْرَأُ ذَلِكَ قِرَاءَةً عَلَيْهِمْ): أي: والحال أن ذلك بصيغة القراءة لا الإقرار، فالجملة حال بتقدير: وهو، وفي نسخة: (وإنما ذلك قراءة عليهم) فسوغ الشهادة عليهم بقولهم: نعم بعد قراءة المكتوب عليهم مع عدم لفظهم بالمكتوب.
          (وَيُقْرَأُ عَلَى الْمُقْرِئِ): أي: المعلم للقرآن (فَيَقُولُ الْقَارِئُ) أي: عليه (أَقْرَأَنِي فُلاَنٌ).
          روى الخطيب البغدادي في (كفايته) عن ابن وهب أنه قال: سمعت مالكاً وقد سئل عن الكتب التي تقرأ، أيقول الرجل حدثني؟ قال: نعم، كذلك القرآن أليس الرجل يقرأ على الرجل فيقول: أقرأني فلان؟ فكذلك إذا قرئ على العالم صح أن يروي عنه.
          وبالسند إلى المؤلف: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ) بتخفيف اللام على الأرجح، قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ) مكبراً؛ أي: ابن عمران المزني (الْوَاسِطِيُّ) وكان قاضياً لواسط ليس له في البخاري إلا هذا.
          (عَنْ عَوْفٍ) بفتح العين المهملة وبالفاء، هو: ابن أبي جميلة، ويقال له: عوف الصدق (عَنِ الْحَسَنِ) أي: البصري، أنه (قَالَ: لاَ بَأْسَ) أي: في صحة النقل عن المحدث (بِالْقِرَاءَةِ) خبر (لا) (عَلَى الْعَالِمِ) متعلق بالقراءة لا خبر (لا).
          وقد روى الخطيب هذا الأثر بأتم مما هنا، فأخرج من طريق أحمد بن حنبل، عن محمد بن الحسن الواسطي، عن عوف الأعرابي: أن رجلاً سأل الحسن فقال: يا أبا سعيد منزلي بعيد والاختلاف يشق علي فإن لم تكن ترى بالقراءة بأساً قرأت عليك، قال: ما أبالي قرأت عليك أو قرأت علي، قال: فأقول: حدثني الحسن قال: نعم، قل: حدثني الحسن.
          ورواه أبو الفضل السليماني في كتاب: (الحث على طلب الحديث) من طريق سهل بن المتوكل، قال: حدثنا محمد بن سلام، بلفظ: قلنا للحسن: هذه الكتب التي تقرأ عليك إيش نقول فيها؟ قال: قولوا: / حدثنا الحسن.
          واعلم أنه يوجد بين قوله: (على العالم)، وبين قوله: (حدثنا عبيد الله) في ((فرع اليونينية)) في الهامش زيادة: <وحدثنا محمد بن يوسف الفربري، وحدثنا محمد بن إسماعيل البخاري>، مع الواو في (حدثنا) في الموضعين، بل وقيل: حدثنا عبيد الله في بعض النسخ، وعزا هذه الزيادة في بعض النسخ القسطلاني لغير أبوي ذرٍّ والوقت وابن عساكر، وكأنها من كلام بعض من روى عن الفربري، ولا معنى لزيادة الواو إلا أن يجعل للاستئناف.
          (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ) مصغراً (بْنُ مُوسَى): أي: العبسي (عَنْ سُفْيَانَ) أي: الثوري (قَالَ: إِذَا قُرِئَ): مبني للمجهول، ولأبي الوقت مبني للفاعل، وللأصيلي وابن عساكر: <إذا قرأت> بتاء الخطاب (عَلَى الْمُحَدِّثِ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنِي): قرنت بالفاء؛ لأنها جواب (إذا).
          وأما نحو: أخبرني وأنبأني، فجائز قطعاً (قَالَ): أي: البخاري (وَسَمِعْتُ) ولابن عساكر: <سمعت> بلا واو (أَبَا عَاصِمٍ) هو: الضحاك السابق (يَقُولُ عَنْ مَالِكٍ وَ) عن (سُفْيَانَ): أي: ينقل أبو عاصم ويقول: إنهما يقولان: (الْقِرَاءَةُ عَلَى الْعَالِمِ وَقِرَاءَتُهُ سَوَاءٌ) أي: في جواز الرواية عنه إلا أن مالكاً استحب القراءة على الشيخ، فقد ذكر الدارقطني في كتاب (الرواة عن مالك) أنه كان يذهب إلى أنها أثبت من قراءة العالم.
          وذكر فيه أيضاً: أنه لما قدم هارون المدينة حضر مالكاً فسأله أن يسمع منه الأمين والمأمون، فبعثوا إلى مالك فلم يحضر، فبعث إليه أمير المؤمنين فقال: العلم يؤتى أهله ويوقر، فقال: صدق أبو عبد الله سيروا إليه، فساروا إليه ومؤدبهم فسألوه أن يقرأه عليهم فأبى وقال: إن علماء هذه البلد قالوا: إنما يقرأ على العالم ويفتيهم مثل ما يقرأ القرآن على المعلم ويرد.
          سمعت ابن شهاب بحر العلماء يحكي عن سعيد، وأبي سلمة، وعروة، والقاسم، وسالم وغيرهم أنهم كانوا يقرؤون على العلماء، وظاهر قوله سواء: أنهما مستويان فينافي ما قاله عن مالك.
          روى أيضاً أنه قال: العرض خير من السماع إلا أن يريد التسوية في أصل الجواز وإن كان أحدها أرجح، لكن الأرجح عن مالك التسوية كما يعلم من قولي المأخوذ من التوضيح.
          وفي هذه المسألة أقوال ثلاثة:
          أحدها: أنها أرجح من قراءة الشيخ وسماعه، وبه قال أبو حنيفة وابن أبي ذئب ومالك في رواية.
          ثانيهما عكسه: وهو أن قراءة الشيخ بنفسه أرجح من القراءة عليه، وهو مذهب الجمهور وجمهور أهل الشرق.
          وثالثها: أنهما سواء، وهو قول معظم علماء الحجاز والكوفة، ومذهب مالك وأشياعه من علماء المدينة، ومذهب البخاري وابن أبي الزناد، وغيرهم.