الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول المحدث: حدثنا أو أخبرنا

          ░4▒ (باب: قَوْلِ الْمُحَدِّثِ: حَدَّثَنَا / وأَخْبَرَنَا وأَنْبَأَنَا): المراد بالمحدث كما قال الكرماني: وغيره المحدث اللغوي وهو الذي يحدث غيره لا الاصطلاحي وهو العالم بحديث النبي صلعم والمعنى: هل بينها فرق أو كلها بمعنى واحد؟ ولعل الثاني هو المختار وللمؤلف كما يرشد إليه إيراد قول ابن عيينة دون غيره فافهم.
          وثبت الجميع لأبي ذر، وسقط لكريمة: <وأنبأنا> وللأصيلي: <وأخبرنا>.
          قال ابن رشيد: أشار بهذه الترجمة إلى أنه بنى كتابه على المسندات المرويات عن النبي صلعم.
          (وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ): ليس داخلاً في الترجمة إلى قوله: حدثنا بل تمت عند قوله: وأنبأنا وللأصيلي وكريمة: <وقال لنا الحميدي> فيكون مصرحاً فيه بالاتصال دون الأول، وهو أحط مرتبة من حدثنا ونحوه سواء كان بزيادة لنا أو لا؛ لأنه يقال على سبيل المذاكرة بخلاف حدثنا، فإنه يقال على سبيل النقل والتحمل.
          وذكر جعفر بن أحمد النيسابوري: أن كلما في البخاري من قال لي فلان فهو عرض أو مناولة.
          والحميدي _بالتصغير_ وياء نسبة إلى حميد أحد أجداده شيخ البخاري وهو أبو بكر عبد الله بن الزبير المكي المار أول الكتاب.
          (كَانَ عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ): أي: سفيان، فالظرف متعلق بـ(كان) أو بواحداً الذي هو خبر كان واسمها حدثنا... إلخ مراداً به اللفظ، فافهم.
          (حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا وَسَمِعْتُ وَاحِداً): يعني: أن هذه الألفاظ الأربعة عند سفيان بن عيينة بمعنى واحد كما هو مقتضى اللغة بل لا خلاف فيه، واقتصار البخاري كشيخه عليه دال على اختيارها له.
          قال الكرماني: فإن قلت: هل يعلم من هذا الكتاب مختار البخاري في ذلك؟ قلت: نعم حيث نقل مذهب الاتحاد من غير رد عليه وغير ذكر مذهب المخالف أشعر بأن ميله إلى عدم الفرق.
          وقال في ((الفتح)): فإن قيل: من أين تظهر مناسبة حديث ابن عمر للترجمة ومحصلها التسوية بين صيغ الأداء، وليس ذلك بظاهر في الحديث.
          فالجواب: أنها تظهر إذا جمعت طرق الحديث فإن لفظ رواية ابن دينار: (فحدثوني ما هي) وفي رواية نافع _عند المؤلف في التفسير_: (أخبروني): وفي رواية عند الإسماعيلي: (أنبؤني ما هي) وفي رواية مالك عند المصنف في باب الحياء في العلم: (حدثوني ما هي) وقال فيها فقالوا: أخبرنا بها، فدل ذلك على أن التحديث والإخبار والإنباء عندهم سواء وهذا لا خلاف فيه عند أهل العلم بالنسبة إلى اللغة، انتهى.
          واعترضه العيني فقال: لا نسلم ذلك؛ لأن الحديث هو القول والخبر من الخُبْر _بضم الخاء وسكون الباء_، وهو العلم بالشيء، وإنما استواء هذه الألفاظ بالنسبة إلى الاصطلاح، انتهى.
          وقال في (الانتقاض): الذي استدل به لا ينهض لمدعاه، والجامع بينهما من حيث اللغة الإعلام، انتهى.
          وأقول: لعل مراده في (الانتقاض) بقوله: الذي استدل به لا ينهض لمدعاه بأن الحديث والخبر ليس مما الكلام فيهما إنما هو في التحديث والإخبار فهو جواب بالمنع، وقوله: والجامع بينهما...إلخ جواب تسليمي، يعني: لو سلمنا أنهما مختلفان معنى لكنهما يرجعان إلى الإعلام، فافهم.
          ثم قال في ((الفتح)): ومن أصرح الأدلة فيه قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4] وقوله تعالى: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14] وأما بالنسبة إلى الاصطلاح ففيه خلاف فمنهم من استمر على أصل اللغة، وهذا مروي أيضاً عن مالك فإنه قال: وليس العرض عندنا بأدنى من السماع والحسن البصري، ويحيى بن سعيد القطان، والزهري، وأكثر الكوفيين، والحجازيين، وعليه عمل المغاربة.
          وقال القاضي عياض: لا خلاف أنه يجوز في السماع من لفظ الشيخ أن يقول السامع: حدثنا وأخبرنا وأنبأنا وسمعته يقول: وقال لنا، وذكر لنا فلان، وإليه مال الطحاوي وصحَّحه ابن الحاجب فإنه قال: لم نجد بين الحديث والخبر فرقاً في كتاب الله وسنة نبيه قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4]، وقاله النبي: أخبرني تميم الداري.
          ونقل هو وغيره أنه مذهب الأئمة الأربعة، وذهب ابن راهويه والنسائي وابن حبان، وكثيرون إلى إطلاق ذلك حيث يقرأ الشيخ من لفظه وتقييده حيث يقرأ عليه، وهو قول مسلم فقد قال الكرماني: وذهب / مسلم إلى أن حدثنا لا يجوز إطلاقه إلا على ما سمعه من لفظ الشيخ خاصة وأخبرنا لما قرئ عليه، وهو مذهب الشافعي والأوزاعي وابن جريج، وهو جمهور أهل المشرق، وقيل: هو مذهب أكثر أصحاب الحديث، وهو الشائع والغالب عليهم والأول أعلى درجة وإنما خصوا قراءة الشيخ بحدثنا لقوة أشعاره بالنطق والمشافهة واصطلح بعض المتأخرين على إطلاق أنبأنا في الإجازة وهو أدني من أخبرنا، وأما سمعت فهو لما سمع من لفظ الشيخ سواء كان الحديث معه أو مع غيره فهو أحط من حدثنا.
          وقال الخطيب البغدادي: أرفع العبارات في ذلك: سمعت ثم حدثني ثم أخبرني، ثم أنبأني.
          وقال ابن بطال: قال طائفة: حدثنا لا يكون إلا مشافهة، وأخبرنا قد يكون مشافهة وقد يكون كتابة، وقد يكون تبليغاً؛ لأنك تقول: أخبرنا الله بكذا في كتابه ورسوله بكذا، ولا تقل حدثنا إلا أن يشافهك المخبر.
          وقال في ((الفتح)) بعد أن ذكر ما تقدم، وزاد فيه: أنه لا خلاف عندهم لغة بين التحديث والإنباء والإخبار، ثم أحدث أتباعهم تفصيلاً آخر فمن سمع وحده من لفظ الشيخ أفرد فقال: حدثني، ومن سمع مع غيره جمع فقال: حدثنا، ومن قرأ بنفسه على الشيخ أفرد فقال: أخبرني، ومن سمع بقراءة غيره جمع وكذا خصصوا الإنباء بالإجازة التي يشافه بها الشيخ من يجيزه وكل هذا مستحسن وليس بواجب عندهم، وإنما أرادوا التمييز بين أحوال التحمل وظن بعضهم أن ذلك على سبيل الوجوب فتكلفوا في الاحتجاج له وعليه بما لا طائل تحته.
          نعم يحتاج المتأخرون إلى مراعاة الاصطلاح المذكور لئلا يختلط لأنه صار حقيقة عرفية عندهم، فمن تحرز عنها احتاج إلى الإتيان بقرينة تدل على مراده وإلا فلا يؤمن اختلاط المسموع بالمجاز بعد تقرير الاصطلاح، فيحمل ما يرد من ألفاظ المتقدمين على محمل واحد بخلاف المتأخرين.
          وقال النووي: ذهب جماعة إلى أنه يجوز أن يقال فيما قرئ على الشيخ: حدثنا وأخبرنا؛ أي: ونحو ذلك وهو مذهب ابن عيينة ومالك والبخاري، ومعظم الحجازيين والكوفيين، وذهب مسلم إلى الفرق بما تقدم وذهب جماعة إلى أنه لا يجوز إطلاق حدثنا وأخبرنا في القراءة على الشيخ، وهو مذهب الإمام أحمد والمشهور عن النسائي، انتهى.
          والأحوط كما قال بعضهم: الإفصاح بصورة الواقع فيقول: إن كان قرأ: قرأت على فلان أو أخبرنا بقراءتي عليه، وإن كان سمع قرئ على فلان وأنا أسمع، أو أخبرنا فلان قراءة عليه وأنا أسمع قال: لئلا يختلط المسموع بالمجاز.
          قال الإسفراييني: لا يجوز فيما قرأ أو سمع أنه يقول: حدثنا ولا فيما سمع لفظاً أن يقول: أخبرنا، إذ بينهما فرق ظاهر ومن لم يحفظ ذلك على نفسه كان من المدلسين، والكلام على جميع ذلك مستوفى في كتب من أصول الحديث فراجعه، ثم عطف المصنف تعاليق يؤيد بها مذهبه من التسوية بين الصيغ المذكورة، فقال: (وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ): هو: عبد الله، وإذا أطلق عبد الله كان هو المراد من بين العبادلة وهذا التعليق من حديث طويل وصله المؤلف في باب القدر (حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلعم وَهُوَ الصَّادِقُ): أي: في نفس الأمر والواقع (الْمَصْدُوقُ): أي: بالنسبة إلى الله أو إلى الناس أو الصادق بالنسبة إلى ما قال: هو لغيره والمصدوق لما قاله له غيره كجبريل (وَقَالَ شَقِيقٌ): مكبراً، الوائلي، وتقدم (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ): أي: ابن مسعود لأنه المراد عند الإطلاق وهذا التعليق وصله المؤلف في الجنائز (سَمِعْتُ النَّبِيَّ): ولأبي ذرٍّ: <سمعت من النبي> بزيادة من صلعم (كَلِمَةً): على وجود من هي مفعول سمعت، وأما على حذفها فالظاهر أنها بدل اشتمال من النبي، والكلمة يحتمل أنها المفردة ويحتمل أنها الجملة فلينظر (وَقَالَ حُذَيْفَةُ): بالحاء المهملة والذال المعجمة مصغراً؛ أي: ابن اليمان واسم اليمان: حِسْل _بكسر الحاء وإسكان السين_ ويقال: حيل مصغراً صاحب سر النبي في المنافقين ولاه عمر المدائن، ومات بها سنة ست وثلاثين.
          وفي ((التقريب)): صح في مسلم عنه: أن رسول الله أعلمه بما كان وبما يكون إلى أن تقوم الساعة. / وقال النووي في ((التهذيب)): توفي بالمدينة سنة ست وثلاثين بعد قتل عثمان بن عفان بأربعين ليلة، وقتل عثمان يوم الجمعة لثمان عشر خلون من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، انتهى.
          وفي شرح الشيخ قطب الدين: أخرجا له اثني عشر حديثًا اتفقا عليها وانفرد البخاري بثمانية ومسلم بسبعة عشر، انتهى.
          فما في الكرماني من قوله: روي له عن رسول الله عشرون حديثاً تفرد البخاري منها بثمانية غير ظاهر وقوله: (حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلعم حَدِيثَيْنِ): مقول القول وهذا وصله المؤلف في الرقاق، ثم عطف ثلاثة تعاليق أيضاً لما فيها من ذكر الرواية والعنعنة وكل منهما شامل للأقسام السابقة، فليس فيها ذكر ما لا تعلق له بالترجمة كما قد يتوهم نعم لم يذكر ما يدل على الإنباء لكن يؤخذ ذلك من بعض روايات حديث ابن عمر فإن في رواية الإسماعيلي: (فأنبؤني) كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر، وقدمناه.
          قال المؤلف: (وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ) بالعين المهملة والتحتية بعد اللام، واسمه: رفيع _بالفاء والعين المهملة مصغراً_ ابن مهران الرِّياحي _بالتحتية الخفيفة بعد الراء المكسورة_ هو ثقة، مات سنة تسعين وما وقع في (شرح ابن الملقن) والقطب الحلبي، ومن تبعهما من أن المراد بأبي العالية هو البرَّاء _بتشديد الراء_ وإن اسمه زياد بن فيروز فهو وهم، كما نبه على ذلك في ((فتح الباري)) قال: فإن الحديث المذكور معروف برواية الرياحي دون البراء.
          واعترضه العيني: بأن كلاً منهما يروي عن ابن عباس فترجيح أحدهما يحتاج إلى نقل عن أحد يعتمد عليه.
          وأجاب في (الانتقاض) بأن المصنف وصله في التوحيد فلو راجعه العيني لما احتاج إلى طلب الدليل، انتهى.
          وأقول: يقال على العيني: أن ترجيح كون راويه البراء بخصوصه يحتاج أيضاً إلى طلب الدليل فافهم.
          (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ☺): متعلق بقال: (عَنِ النَّبِيِّ صلعم فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ) ╡ هو كالواقعين بعده من الأحاديث القدسية (وَقَالَ أَنَسٌ): أي: ابن مالك خادم رسول الله (عَنِ النَّبِيِّ صلعم: يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ ╡) وللأصيلي: <فيما يرويه عن ربه>، ولأبوي ذرٍّ والوقت: <تبارك وتعالى>.
          (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عَنِ النَّبِيِّ صلعم يَرْوِيهِ) هو كسابقه حال من النبي (عَنْ رَبِّكُمْ ╡) بكاف الخطاب مع ميم الجمع، وهذه التعاليق الثلاثة وصلها المؤلف في كتاب التوحيد، ومن فوائد ذكرها هنا ما قدمنا التنبيه على أن العنعنة عنده حكمها الوصل عند ثبوت اللُّقي، وهو مذهب جمهور المحدثين ومنهم ابن المديني والخطيب وابن عبد البر وغيرهم، وعزاه النووي للمحققين، وهو مقتضى كلام الشافعي وخالف في ذلك مسلم فلم يشترط اللقي بالفعل، بل شرط إمكانه وادعى في (مقدمة صحيحه) أن ما خالف شرطه قول مخترع لم يسبق قائله إليه وأطال في ذلك بما ردوه عليه، وأن الصحيح مذهب البخاري.
          وقال ابن رشيد: أشار المؤلف بما ذكره إلى أن رواية النبي إنما هي عن ربه سواء صرح بذلك الصحابي أم لا، ويدل له حديث ابن عباس المذكور فإنه لم يقل فيه في بعض المواضع عن ربه ولكنه اختصار فيحتاج إلى تقدير.
          قال في ((الفتح)): ويستفاد من الحكم بصحة ما كان ذلك سبيله صحة الاحتجاج بمراسيل الصحابة لأن الواسطة بين النبي وبين ربه تعالى فيما لم يكلمه به مثلاً ليلة الإسراء جبريل وهو مقبول قطعاً، والواسطة بين الصحابي والنبي صحابي آخر وهو مقبول اتفاقاً لكن محل هذا في أحاديث الأحكام دون غيرها فإن بعض الصحابة ربما حملها عن بعض التابعين مثل كعب الأحبار، انتهى. فليتأمل.