الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين

          ░13▒ (باب): بالتنوين. والمناسبة بين البابين أن الواقع في السابق من يذكر الناس في أمور دينهم؛ أي: في بعض الأوقات، وهو يستلزم المذكور في هذا الباب.
          (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ): من شرطية مبتدأ تجزم فعلين، وهما: يرد ويفقهه، والجملة الشرطية خبره على الأصح من أربعة أقوال، ولا يخفى ما في كلام العيني ومن تبعه من النظر حيث جعل الجملة المذكورة صلتها و(من) موصولة وجزمت الفعلين لتضمنها معنى الشرط، إلا أن يريد بحسب الأصل، قبل تضمنها معنى الشرط ولا داعي لهذه الإرادة.
          فائدة: نقل شيخ مشايخنا يحيى المغربي في رسالة له عن ((التسهيل)): أن الموصول العام قد يعامل معاملة الشرط فيجزم الجواب فقط، كقول الشاعر:
كذاك الذي يبغي على الناس ظالماً                     تصبه على رغم العواقب ما صنع
          وكقوله تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} [الزخرف:36] في قراءة شاذة بإثبات واو ▬يعشو↨ وإن احتمل جعل الواو للإشباع، ثم رأيت السفاقسي قال: وقرأ زيد بن علي: ▬يعشو↨ بالواو. وخرجها الزمخشري على أن (من) موصولة غير مضمنة معنى الشرط، وقال: وحق لهذا القارئ أن يرفع نقيض. ولا يتعين ما قاله لإمكان أن تكون (من) شرطية و(يعشو) مجزوم بحذف الحركة تقديراً، وتكون (من) موصولة وجزمت الجواب لشبه الموصول باسم الشرط، وإذا كان ذلك مسموعاً في الذي ولم يستعمل شرطاً فأولى فيما استعمل موصولاً وشرطاً، أنشد ابن الأعرابي:
لا تحفرن بئراً تريد أخاً فإنك                     فيها أنت من دونه تقع
كذاك الذي ينبغي على الناس ظالماً                     تصبه على زعم العواقب ما صنع
          قال: وهو مذهب الكوفيين، وله وجه من القياس لأنه كما يشبه الموصول باسم الشرط فتدخل الفاء في خبره، فكذا يشبه به فيجزم إلا أن حصول الفاء منقاس بشرطه وهذا لا يقيسه البصريون، انتهى.
          وأقول: الفرق بين تضمين الموصول للشرط وبين شبهه به: أن شبهه له يقتضي جزم الجواب فقط، بخلاف التضمين له فإنه يقتضي جزم الفعلين، فافهم.
          وسقط هنا <في الدين> لغير الكشميهني، وهذه الترجمة هي بعض الحديث المسوق سنده في الباب، وقد اختلفوا في ما إذا ذكر حديث ثم وصل به إسناده فقالت طائفة: يسمى مرسلاً والحق وعليه الأكثر: أنه يسمى مسنداً لا مرسلاً. قاله الكرماني وتبعه البرماوي لكن اعترضه العيني فقال: لا دخل للإرسال والإسناد في مثل هذا الموضع؛ لأنه ترجمة ولا يقصد بها إلا الإشارة إلى ما قصده من وضع الباب، انتهى.
          وأقول: لا مانع من قصد الحديث أيضاً بها إذا كانت بلفظ الحديث، وحينئذٍ فيكون للإسناد والإرسال دخل فيها، فتأمل.
          نعم، إطلاق المرسل على ما ذكر لا يوافق المشهور في تعريفه. /
          فافهم.