الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب متى يصح سماع الصغير

          ░18▒ (بَابٌ): بالتنوين (مَتَى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيرِ): وللكشمهني: <الصبي الصغير>وذكره مع (الصبي) للتوضيح والبيان فإن الصغير كالصبي غير البالغ، ويحتمل: أن يكون لفظ: (الصغير) يتعلق بقصة محمود، ولفظ: (الصبي) يتعلق بهما معاً، قاله في ((الفتح)).
          وجه المناسبة بين البابين: أن المذكور في الباب السابق: دعاء النبي لابن عباس، وهو غلام مميز، والمذكور في هذا: حال الغلام المميز من صحة سماعه للحديث.
          وقال الكرماني: معنى الصحة هنا: جواز قبول مسموعه.قال في ((الفتح)): هذا تفسير لثمرة الصحة لا لنفس الصحة.واعترضه العيني فقال: كأنه فهم أن الجواز هو ثمرة الصحة وليس كذلك بل الجواز هو الصحة وثمرة الصحة: عدم ترتب الشيء عليه عند العمل. انتهى.
          وأقول: الإشارة عائدة إلى جواز قبول مسموعه، وهذا ثمرة صحة سماع الصغير لا نفسه كما لا يخفى، وإنما الجواز الذي هو عين الصحة هو جواز سماع الصغير لا جواز قبول مسموعه، فتأمل، ولم يَنقل في (الانتقاض) ما يدفع الاعتراض بل قال: وأظن لفظة عدم زائدة. انتهى. /
          ومقصود المصنف من هذا الباب: أن البلوغ ليس شرطاً في جواز التحمل، وقد وقع بينهم اختلاف في سن التحمل، فذهب يحيى بن معين ومن تبعه إلى أن أقل سن التحمل خمسة عشرة سنة، لكون النبي صلعم رد ابن عمر يوم أحد والبراء يوم بدر وغيرهما؛ لأنهم لم يبلغوا خمسة عشر سنة، وقال الإمام أحمد لما بلغه ذلك: بئس القول، وإنما جوازه إذا عقل ما يسمع، وأما قصة ابن عمر وغيره، فإنما هو في القتال؛ لأنه يقصد فيه مزيد القوة، فاعتبر فيه البلوغ؛ لأنه مظنتها، والسماع يقصد فيه الفهم فكان مظنته التمييز، وهذا هو الصحيح الذي جرى عليه المحققون: منهم الأوزاعي، واحتج لذلك بحديث: (مروهم بالصلاة لسبع)، ومنهم الحافظ موسى بن هارون فقال: إذا فرق بين البقرة والأتان.
          ومنهم الحافظ الخطيب فإنه ذكر في كتابه ((الكفاية)) أشياء حفظها جمع من الصحابة ومن بعدهم في الصغر وحدثوا بها بعد ذلك فقبلت عنهم، ومنهم القاضي عياض فإنه قال: حدد أهل الصناعة ذلك بأن أقل سن محمود بن الربيع ابن خمس، كما قال البخاري، أو أربع كما في رواية أخرى.
          ومنهم ابن الصلاح فإنه قال: التحديد بخمس هو الذي استقر عليه عمل أهل الحديث من المتأخرين فيكتبون لابن خمس فصاعداً سمع، ولمن دونها حَضَرَ أَوْ أُحْضِرَ، والذي ينبغي في ذلك اعتبار التمييز، فإن فهم الخطاب ورد الجواب كان مميزاً فيصح سماعه، وإن كان أقل من ابن خمس وإن لم يكن كذلك لم يصح سماعه، وإن كان ابن خمس بل خمسين. وقال إبراهيم بن سعد الجوهري: رأيت صبياً ابن أربع سنين فَدُخِّلَ إلى المأمون قد قرأ القرآن، ونظر في الآي غير أنه إذا جاع بكى، وحفظ القرآن أبو محمد عبد الله بن محمد الأصبهاني وله خمس سنين، فامتحنه فيه أبو بكر المنقري وكتب له بالسماع، وهو ابن أربع سنين، وحديث محمود بن الربيع لا يدل على التحديد بمثل سنه، فافهم.