الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الخروج في طلب العلم

          ░19▒ (بَابُ: الخُرُوجِ فِي طَلَبِ العِلْمِ): أي: السفر في البحر لأجل طلبه فالبر من باب أولى لقلة الخطر فيه، قاله الكرماني.وقال البرماوي: فيه نظر فالخروج أعم. انتهى؛ أي: فيكون مفاد هذا الباب أعم مما تقدم في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر مع أن فيه اختلافاً في أكثر السند، وفي المتن، فاعرفه.
          لم يذكر فيه شيئاً مرفوعاً صريحاً، وقد ذكر مسلم حديث أبي هريرة رفعه: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) ولم يخرجه البخاري لاختلاف فيه (وَرَحَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ): الصحابي الأنصاري _ ☺ _ مر في باب الوحي (مَسِيرَةَ شَهْرٍ، إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ): بالتكبير في الأول، والتصغير في الثاني، فهو عبد الله بن أنيس بن سعد الجُهني _بضم الجيم_ حليف الأنصار، شهد العقبة الأولى وما بعدها من المشاهد وهو الذي سأل رسول الله صلعم عن ليلة القدر، مات بالشام زمن معاوية سنة أربع وخمسين، روي له عن رسول الله أربعة وعشرون حديثاً، روى له مسلم حديث ليلة القدر ولم يرو له البخاري مسنداً.
          (فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ): (في) للسببية كقوله صلعم: (إن امرأة دخلت النار في هرة). وهذا الحديث رواه البخاري آخر المظالم في ((صحيحه)) بلفظ: ويذكر عن جابر بن عبد الله عن عبد الله بن أنيس: سمعت النبي صلعم يقول: (يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه مَن بعُد كما يسمعه مَن قرب: أنا الملك الديان) ولم يزد البخاري في ((صحيحه)) على هذا وهو غير مجزوم به كما ترى، وذكره هنا مجزوماً به ومن ثم ادعى بعض المتأخرين أنه ينقض القاعدة المشهورة من أن تعليق البخاري بصيغة الجزم صحيح وبصيغة التمريض معلول.
          وأجاب في ((الفتح)): بأن القاعدة غير منتقضة ونظر البخاري أدق من أن يعترض عليه بمثل هذا فإنه حيث ذكر الارتحال فقط جزم به؛ لأن الإسناد حسن، وقد اعتضد، وحيث ذكر طرفاً من المتن لم يجزم به؛ لأن لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق نسبته إلى الرب ويحتاج إلى تأويل فلا يكفي فيه مجيء الحديث من طريق مختلف فيها ولو اعتضدت.
          ورواه أحمد وأبو يعلى في ((مسنديهما)) والمصنف أيضاً في ((الأدب المفرد)) من طريق عبد الله بن عقيل: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: بلغني عن رجل حديث سمعه من رسول الله صلعم فاشتريت بعيراً ثم شددت رحلي فسرت إليه شهراً حتى قدمت الشام فإذا عبد الله بن أنيس فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب فقال: ابن عبد الله؟ قلت: نعم، فخرج فاعتنقني فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلعم فخشيت أن أموت قبل أن أسمعك فقال: سمعت رسول الله صلعم يقول: (يحشر الله الناس يوم القيامة عُراةً غرلاً بُهماً فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة حتى يقتصه منه حتى اللطمة) قال: وكيف، وإنما نأتي عراة غرلاً؟ قال: (بالحسنات والسيئات) ومعنى (بُهْماً): بضم الموحدة، وسكون الهاء _كما قال الجوهري_: ليس معهم شيء ويقال: أصحاء.
          فإن قيل: ذكر أبو سعيد بن يونس بسنده عن جابر بن عبد الله قال: بلغني حديث في القصاص عن عقبة بن عامر وهو بمصر فاشتريت بعيراً فشددت / عليه رحلاً وسرت عليه شهراً حتى أتيت مصر، فذكر نحو الحديث المار، كذا خرجه الطبراني في (مسند الشاميين) وتمامه في (فوائده) وإسناده صالح، وكذا أخرجه الخطيب في (الرحلة) بسند فيه ضعف وفيه من بعض طرق الحديث زيادة وهي: (والرب على عرشه ينادي بصوت رفيع غير فظيع)، الحديث. أجيب باحتمال أن يكونا واقعتين: أحداهما: لعبد الله بن أنيس، والأخرى: لعقبة بن عامر.
          قال ابن الملقن وتبعه في ((الفتح)): ووقع لابن بطال في كتابه: أن الحديث الذي رحل فيه جابر إلى عبد الله بن أنيس هو حديث الستر على المسلم، وليس كذلك فذاك رحل فيه أبو أيوب الأنصاري إلى عقبة بن عامر، كما أخرجه الحاكم بسنده.وأنه لما أتى إلى عقبة قال: ما جاء بك؟ قال: حديث لم يبق أحد سمعه من رسول الله غيري وغيرك في ستر المؤمن، فقال عقبة: نعم سمعت رسول الله م ع م يقول: (من ستر مؤمناً في الدنيا على خَرَبَةٍ ستره الله يوم القيامة)، فقال أبو أيوب: صدقت ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته، فركبها راجعاً إلى المدينة.
          وقد رحل جماعات إلى حديث واحد من أماكن بعيدة، فقد قال عمرو بن أبي سلمة للأوزاعي: أنا ألزمك منذ أربعة أيام ولم أسمع منك إلا ثلاثين حديثاً فقال: وتستقل ثلاثين حديثاً في أربعة أيام لقد سار جابر إلى مصر، واشترى راحلة يركبها حتى سأل عقبة عن حديث واحد وانصرف.وعن مالك: أن رجلاً خرج إلى مسلمة بن مخلد بمصر في حديث سمعه. وقال العيني: وفي ((مسند عبد الله بن وهب)) صاحب مالك: أنبأنا عبد الجبار بن عمر: حدثنا مسلم بن أبي حَرة عن رجل من الأنصار عن رجل من أهل قباء: أنه قدم مصر على مسلمة بن مخلد فقال: أرسل معي إلى فلان _رجل من الصحابة_ قال: حسبت أنه قال: سرق قال: فذهب إليه في قريته فقال: هل تذكر مجلساً كنت أنا وأنت فيه مع النبي صلعم ليس أحد معنا؟ قال: نعم قال: كيف سمعته يقول؟ فقال: سمعته يقول: (من اطلع من أخيه على عورة ثم سترها جعلها الله له يوم القيامة حجاباً من النار) قال: كنت أعرف ذلك ولكن أوهمت الحديث فكرهت أن أحدث به على غير ما كان ثم ركب راحلته ورجع.
          وعن سعيد بن المسيب: لقد كنت أسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد، ورحل عبيد الله بن عدي بن الخيار إلى علي بن أبي طالب بالعراق لحديث واحد، فقد روى الخطيب عن عبيد الله بن عدي أنه قال: بلغني حديث عند علي فخفت إن مات لا أجده عند غيره فرحلت حتى قدمت عليه العراق. وكذلك رحل عثمان النهدي من العراق إلى المدينة في حديث واحد عن أبي هريرة.
          ورحل ابن الديلمي من فلسطين إلى عبد الله بن عمرو بالطائف لحديث واحد، ورحل شعبة من البصرة إلى مكة _شرفها الله_ لحديث واحد ولم يرد الحج، وقال الشعبي: لو أن رجلاً سافر من أقصى اليمن فحفظ كلمة تنفعه فيما بقي من عمره لم أر سفره يضيع.