الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب كيف يقبض العلم

          ░34▒ (بَابٌ): بالتنوين، وفي فرع اليونينية بغير تنوين لإضافته لقوله: (كَيْفَ يُقْبَضُ العِلْمُ؟): أي: كيفية قبضه، وسقط <باب> للأصيلي (وَكَتَبَ): ولابن عساكر زيادة: <قال>: يعني: قال البخاري: (كتب) (عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ): أي: الخليفة الراشد المشهور (إِلَى أَبِي بَكْرِ): أي: ابن محمد بن عمرو (ابْنِ حَزْمٍ): بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي: نسبة لجد أبيه لشهرته به ولجده عمرو صحبة، ولأبيه محمد رؤية وهو ثقة فقيه ولا يعرف اسمه سوى (أبي بكر)، وقيل: هو اسمه وكنيته: أبو عبد الملك، وقيل: كنيته: أبو محمد وهو تابعي، قاله في ((فتح الباري)).
          وفيه: أن النووي قال في ((التهذيب)): أنه من تابعي التابعين. انتهى.
          إلا أن يقال: إنه من أتباع التابعين رواية، وما في ((الفتح)) رؤية لا رواية، ثم رأيته في ((التقريب)) قال: إنه من الطبقة الخامسة وهي الطبقة الصغرى من التابعين الذين رأو الواحد والاثنين، ولم يثبت لبعضهم السماع من الصحابة كالأعمش.انتهى. فتأمله.
          وكان والياً على المدينة الإمرة والقضاء من قبل عمر بن عبد العزيز، فلذا كتب إليه. مات بها في خلافة هشام بن عبد الملك، وهو ابن أربع وثمانين سنة (انْظُر مَا كَانَ): وللكشميهني: <انظر ما كان عندك> (مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلعم): و(كان): على الروايتين الأكثر تامة و(من حديث): بيان لما، وأما على رواية الكشميهني فتحتمل التمام والنقصان وجعل القسطلاني تبعاً للبرماوي لها على الأولى: تامة وعلى الثانية: ناقصة؛ لأنه المتبادر لا لتعينه، فافهم
          (فَاكْتُبْهُ): أي: أجمع ما تجده من الأحاديث النبوية في أوراق وصحائف؛ لئلا يضيع بموت أهله أو نسيانهم له ولذا قال: (فَإِنِّي خِفْتُ): أي: خشيت (دُرُوسَ العِلْمِ): بضم الدال والراء؛ أي: اندارسه مصدر من درس كنصر يدرس دروساً: عفى وذهب (وَذَهَابَ العُلَمَاءِ): أي: موتهم من عطف السبب على المسبب، وقد تسبب عن غيره ففي كتابته هذه له حفظاً وإبقاء على ممر السنين.
          وروى أبو نعيم في ((تاريخ أصبهان)) هذه القصة بلفظ: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق: انظروا حديث رسول الله صلعم فاجمعوه.
          ومن أثر عمر كما في ((الفتح)) يستفاد ابتداء تدوين الحديث النبوي ومر الكلام عليه مستوفى في الفوائد أوائل هذا الشرح، فراجعه.
          وقوله: (وَلاَ تَقْبَلْ): بفتح الفوقية في فرع اليونينية، وفي غيرها: بضم التحتية / أوله وسكون اللام آخره، وعليهما فلا ناهية عطف على (فاكتبه) أو على (انظر)، وفي بعض النسخ: (ولا يُقبلُ): بضم التحتية واللام على أن (لا) نافية وهو معطوف على ما تقدم عطف قصة على قصة.
          وقوله: (إِلَّا حَدِيثُ النَّبِيِّ صلعم): استثناء مفرع مرفوع أو منصوب (وَلِيُفْشُوا العِلْمَ، وَلِيَجْلِسُوا): أي: له في المساجد والمدارس وهو بكسر لام الأمر وسكونها فيهما والتحتية مضمومة في الأول ومفتوحة في الثاني والواو فيهما عائد إلى (العلماء) ولابن عساكر بالفوقية المفتوحة فيهما.
          وقوله: (حَتَّى يُعَلَّمَ): بضم التحتية وتشديد اللام المفتوحة لغير الكشميهني وله: بفتح التحتية وسكون المهملة (مَنْ لاَ يَعْلَمُ): (من) الموصولة أو الموصوفة فاعل على الثاني ونائبه على الأول و(حتى): غائية أو تعليلية لسابقه.
          وقوله: (فَإِنَّ العِلْمَ): علة للأمر بإفشاء العلم والجلوس له وقوله: (لَا يَهْلِكُ): بفتح التحتية وكسر اللام وقد تفتح، وقرأ الحسن البصري وجماعة: ▬ويَهلَكَ الحرثُ والنسلُ↨: بفتح التحتية واللام ورفع الحرث (حَتَّى يَكُونَ سِرّاً): أي: خفية لتعلميه في البيوت والدور التي لا يتأتى نشر العلم فيها، وقيل: هو كناية عن كتمانه غاية للمنفي أو تعليل له، وهذا الأثر تعليق في رواية الكشميهني وابن عساكر وكريمة لعدم ذكر سند بعده في روايتهم، وأما في رواية غيرهم فليس بتعليق لذكره سنده بقوله: (حدثنا).قال الكرماني: وخالف العادة من تقديم الإسناد للفرق بين إسناد الخبر وبينَ إسناد الأثر ونظر فيه العيني بأنه غير مطرد قال: ويحتمل أن يكون ظفر بإسناده بعد ذكره فألحقه أخيراً.
          وللأصيلي: <قال أبو عبد الله> (حَدَّثَنَا العَلاَءُ): بفتح العين، والمد (ابْنُ عَبْدِ الجَبَّارِ): القَسْملي _بفتح القاف وسكون السين_ نسبة إلى القساملة سموا بذلك؛ لأنهم من ولد قسملة أبو الحسن البصري الثقة، مات سنة ثنتي عشرة ومائتين (قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ): أي: ابن مسلم الخراساني وكان من الأبدال، سكن البصرة، ومات سنة سبع وستين ومائة
          (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ): المدني مولى ابن عمر بن الخطاب وقوله: (بِذَلِكَ): (يعني حديث عمر بن عبد العزيز، لكن إلى قوله: وذهاب العلماء)، هكذا وقع في بعض النسخ زيادة: (يعني حديث عمر...إلخ) وهو تفسير من البخاري لذلك أشار به إلى أن أثر عمر موصول، لكن إلى قوله: ذهاب العلماء وعلى هذا فما بعده يحتمل أن يكون من كلام عمر، لكن لم يدخله البخاري في هذه الرواية، ويحتمل أن يكون من كلام البخاري أورده عقب أثر عمر لمناسبة له، وبذلك صرح أبو نعيم في ((مستخرجه))، واستظهره في ((الفتح)).
          وأقول: الأقرب أنه من كلام عمر، ووقع في بعضها الاقتصار على لفظ: (بذلك)، ومقتضى كلام الكرماني أنها الأكثر، وفي بعض النسخ وجعل اسم الإشارة راجع إلى جميع ما ذكر من الأثر.
          وفي أثر عمر بن عبد العزيز _كما قال ابن بطال_ الحض على اتباع السنن وضبطها إذ هي الحجة عند الاختلاف، وفيه: أنه ينبغي للعالم نشر العلم وإذاعته، والله أعلم.