الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب القسامة

          ░22▒ (باب: القَسَامَة)
          قالَ العلَّامةُ العينيُّ: أي: هذا باب في بيان القَسامة وأحكامها، والقَسَامة_بفتح القاف وتخفيف السِّين_: مصدر أَقْسَم قَسَمًا وقَسامةً، وفي بعض النُّسخ: <كتاب القَسامة> والصَّحيح أنَّها اسم للأيمان، وقال الأزهريُّ: إنَّها اسم للأولياء الَّذِين يحلفون على استحقاق دم المقتول. انتهى.
          قالَ الحافظُ: قال القاضي عِياض: حديث القَسَامة أصلٌ مِنْ أصول الشَّرع، وقاعدة مِنْ قواعد الأحكام، وركنٌ مِنْ أركان مصالح العباد، وبه أخذ كافَّة الأئمَّة والسَّلف مِنَ الصَّحابةِ والتَّابعين وعلماء الأُمُّة وفقهاء الأمصار مِنَ الحجازيِّين والشَّاميِّين والكوفيِّين، واختلفوا في صورة الأخذ به، وروي التَّوقُّف عن الأخذ به عن طائفة، فلم يَرَوا القسامة ولا أثبتوا بها في الشَّرع حُكمًا، وهذا مذهب الحكم بن عتيبة وأبي قلابة وسالم بن عبد الله وإبراهيم بن عليَّة، وإليه ينحو البخاريُّ، ورُوي عن عمر بن عبد العزيز باختلافٍ عنه. انتهى.
          قالَ العينيُّ: في الحديث مشروعيَّة القَسَامة في الدَّم، وهو أمر كان في الجاهليَّة، فأقرَّه رسول الله صلعم في الإسلام. انتهى.
          قلت: وما قال القاضي عياض مِنْ أنَّ الإمام البخاريَّ لم يقل بالقَسَامة، كذا قالَ ابنُ المنيِّر كما سيأتي في كلام الحافظ، وهكذا قالَ الكَرْمانيُّ: أي: أنَّ ميل البخاريِّ إلى عدم الأخذ بالقَسَامة، إذ قال في ذكر مذاهب الأئمَّة في المسألة: وأنكر البخاريُّ بالكلِّيَّة حكمها، وكذا طائفة أخرى كأبي قلابة ونحوه، قالوا: لا حكم لها ولا عمل بها. انتهى.
          ومال القَسْطَلَّانيُّ في أوَّل كتاب القسامة تبعًا للقاضي على الظَّاهر إلى أنَّ البخاريَّ مال إلى عدم الأخذ بالقَسَامة، لكن حكى / القَسْطَلَّانيُّ في آخر الباب ما سيأتي مِنْ كلام الحافظ الرَّدَّ على مَنْ قال: إنَّ ميل البخاريِّ إلى عدم الأخذ بحديث القَسَامة.
          قالَ الحافظُ: نبَّه ابن المنيِّر في «الحاشية على النُّكتة» في كون البخاريِّ لم يورد في هذا الباب الطَّريق الدَّالَّة على تحليف المدَّعِي، وهي ممَّا خالفت فيه القَسَامة بقيَّة الحقوق، فقال: مذهب البخاريِّ تضعيفُ القَسَامة، فلهذا صدَّر الباب بالأحاديث الدَّالَّة على أنَّ اليمين في جانب المدَّعَى عليه، وأورد طريق سعيد بن عُبيد، وهو جارٍ على القواعد، وإلزام المدَّعي البيِّنة ليس مِنْ خصوصية القسامة في شيء، ثمَّ ذكر حديث القسامة الدَّالَّ على خروجها عن القواعد بطريق العرض في كتاب [الموادعة و] الجزية، فرارًا مِنْ أن يذكرها هنا(1) فيغلط المستدلُّ بها على اعتقاد البخاريِّ، قال: وهذا الإخفاء مع صحَّة القصد ليس مِنْ قَبيل كتمان العِلم.
          قالَ الحافظُ: الَّذِي يظهر لي أنَّ البخاريَّ لا يضعِّف القَسَامة مِنْ حيثُ هي، بل يوافق الشَّافعيَّ في أنَّه لا قَوَدَ فيها، ويخالفه في أنَّ الَّذِي يحلف فيها هو المدَّعِي، بل يرى أنَّ الرِّوايات اختلفت في ذلك في قصَّة الأنصار ويهود خيبر، فيردُّ المختلف إلى المتَّفَق عليه مِنْ أنَّ اليمين على المدَّعَى عليه، فمِنْ ثَمَّ أورد رواية سعيد بن عبيد في (باب: القسامة) وطريق يحيى بن سعيد في باب آخر، وليس في شيء مِنْ ذلك تضعيفُ أصل القسامة، والله تعالى أعلم.
          وهكذا قالَ العينيُّ مِنْ أنَّ البخاريَّ ذهب إلى ترك القتل بالقسامة، لا إلى ترك القسامة رأسًا، وهذا هو الرَّأي عندي مِنْ أنَّ البخاريَّ لم ينكر القسامة برأسها كما قيل، وكذا عمر بن عبد العزيز كما تقدَّم مِنْ نقل كلام هؤلاء الجهابذة، وليت شعري كيف نسبوا إلى الإمام البخاريِّ إنكار القسامة برأسها، وصنيعه في «صحيحه» يدلُّ دلالةً واضحةً على أنَّه أنكر القَوَد بالقسامة، فإنَّه ذكر فيه حديث أبي قلابة، وهو كما ترى لا يدلُّ إلَّا على عدم القود بها. وبسط الكلام في هذا المقام في «هامش اللَّامع» أشدَّ البسط.
          ومحصِّل الكلام أنَّ هاهنا ثلاثة أمور:
          الأوَّل: ثبوت القسامة والأخذ بها، كما هو مسلك جمهور العلماء، ولم يخالفهم في ذلك الإمام البخاريُّ كما تقدَّم مبسوطًا.
          والثَّاني: أنَّ بداءة الأيمان في القسامة على المدَّعَى عليهم، كما هو مسلك الحنفيَّة، واختاره البخاريُّ كما تقدَّم في كلام الحافظ، ولذا صدَّر الباب بقوله: (شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ).
          وقالَ القَسْطَلَّانيُّ تحتَ حديثِ الباب: وفي الحديث أنَّ اليمين تُوجَّه أوَّلًا على المدَّعى عليه لا على المدَّعي، كما في قصَّة نفر الأنصاريِّين. انتهى.
          وقال صاحب «الفيض»: اعلم أَنَّ اليمينَ لا يَتوجَّهُ عندنا في القَسَامةِ إلى المُدَّعي، وكذا لا قِصَاصَ فيها على المدَّعى عليه، وأمَّا فائدة الأَيمان فتظهَرُ في حَقِّ اكتشافِ الحال، ووافقْنا المصنِّفَ على ذلك. انتهى.
          والأمر الثَّالث: أنَّ البخاريَّ مال إلى ترك القَوَد بالقسامة، قالَ العينيُّ تحت الحديث الأوَّل مِنْ حديثَي الباب: ذَكر البخاريُّ هذا الحديث مطابقًا لِما قبله في عدم القود في القسامة، وأنَّ الحكم فيها مقصور على البيِّنة واليمين. انتهى.
          وهكذا ذكر القَسْطَلَّانيُّ تبعًا للعَينيِّ، والمسألة خلافيَّة.
          قالَ الحافظُ: واختلف القائلون بالقَسَامة في العمد هل يجب بها القَوَد أو الدِّية؟ فمذهب معظم الحجازيِّين إيجاب القود إذا كملت شروطها، وهو قول الزُّهْريِّ ومالكٍ والأَوْزاعيِّ والشَّافعيِّ في أحد قولَيه وأحمد وإسحاق وداود، واختُلف عن عمر بن عبد العزيز. انتهى.
          وقالَ الكَرْمانيُّ: قالَ الشَّافعيُّ وأبو حنيفة: تجب بها الدِّية لعدم العلم بشروط القصاص، وقالَ مالكٌ وأحمد: يجب القصاص. انتهى.
          قلت: ومذهب أحمد إيجاب القصاص بالقسامة في صورة العمد / روايةً واحدة، قالَ الموفَّقُ: الأولياء إذا حلفوا استحقُّوا القَوَد، إذا(2)كانت الدعوى عمدًا، وبه قالَ مالكٌ، وللشَّافعي قولان كالمذهبَين. انتهى.
          وكذا مذهب الإمام مالكٍ إيجابُ القصاص في صورة العمد، صرَّح به مالك في «الموطَّأ» إذ قالَ مالكٌ: فإن حلف المدَّعون استحقُّوا دم صاحبهم، وقَتلوا مَنْ حلفوا عليه، ولا يُقتل في القسامة إلَّا واحدٌ. انتهى.
          والمشهورُ مِنْ قولَي الشَّافعيِّ المنصورُ عند أتباعه إيجابُ الدِّيةِ لا القصاصِ، ولذا نَقل عامَّة نَقَلَة المذاهب مذهب الشَّافعيِّ إيجاب الدِّية لا غيرُ، ولذا أوَّل النَّوويُّ والخطَّابيُّ وغيرهما مِنَ الشَّافعيَّة قوله صلعم: ((تَسْتَحِقُّوا دَمَ صَاحِبِكُم)) كذا في «الأوجز».
          ومذهب مالك_وهكذا عندنا الحنفيَّة_ تجب بالقسامة الدِّية لا القصاص، ففي «البدائع»: هذا الَّذِي ذكرنا حكمُ قتلِ نفسٍ عُلم قاتلها، فأمَّا حكمُ نفسٍ لم يُعلم قاتلُها فوجوب القسامة والدِّية عند عامَّة العلماء ⌠، وعند مالك ☼ وجوب القسامة والقصاص.
          ثمَّ يعلم(3) صورة القسامة مع ما فيه مِنْ خلاف الأئمَّة، فقالَ ابنُ قدامة: إذا وُجد قتيلٌ في موضع، فادَّعى أولياؤه قتله على واحد(4) أو جماعة، ولم تكن بينهم عداوة ولا لوث، فهي كسائر الدَّعاوي إن كانت لهم بيِّنة حُكم لهم بها، وإلَّا فالقول قولُ المنكِر، وبهذا قالَ مالكٌ والشَّافعيُّ، فإن كان بينهم عداوة ولوث فادَّعَى أولياؤه على واحد، حلف الأولياء على قاتله(5) خمسين يمينًا، واستحقُّوا دمه إذا كانت الدَّعوى عمدًا، فإن لم يحلف المدَّعون حلف المدَّعى عليه خمسين يمينًا، وبَرَأ(6) هذا ظاهر المذهب، وبه قالَ مالكٌ والشَّافعيُّ، وحكى أبو الخطَّاب روايةً أخرى عن أحمد أنَّهم يحلفون ويغرَّمون الدِّية لقضيَّة عمر، وهو قول أصحاب الرَّأي، ولنا قَول النَّبيِّ صلعم: ((فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُم)) وقد ثبت أنَّ النَّبيَّ صلعم لم يغرِّم اليهود، وأنَّه أدَّاها مِنْ عنده، فإن لم يحلف المدَّعون، ولم يرضَوا بيمين المدَّعَى عليه، فداه الإمام مِنْ بيت المال، يعني: أدَّى ديته(7) لقضيَّة عبد الله بن سهل حين قُتل بخيبر، فأبى الأنصار أن يحلفوا، وقالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفَّار؟! فأداه(8) النَّبيُّ صلعم مِنْ عنده كراهية أن يبطل(9) دمه. انتهى.
          وأمَّا عندنا الحنفيَّة فعلى الأصل المتَّفق عليه مِنْ أنَّ البيِّنَة على المدَّعِي واليمين على المدَّعَى عليه، ولا عبرة عندنا لحلف الأولياء. قال صاحب «الهداية»: وإذا وُجد القتيل في محلَّة، ولا يُعلَم مَنْ قتله، استُحْلِف خمسون رجلًا منهم يتَخَيَّرُهُم الوَلِيُّ: بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلًا، فإذا حلفوا قضى على أهل المحلَّة بالدِّية، وقالَ الشَّافعيُّ: لا تجب الدِّية لقوله ╕: ((تُبْرِئُكم اليهود بأيمانها)) ولنا أنَّ النَّبيَّ ╕ جمع بين الدِّية والقسامة في حديثِ سهلٍ، وقوله ╕: ((تُبْرِئُكم اليهود)) محمول على الإبراء عن القصاص، ومَنْ أبى منهم اليمين حُبس حَتَّى يحلف. انتهى مختصرًا.


[1] في (المطبوع): ((يذكر ههنا)).
[2] في (المطبوع): ((وإذا)).
[3] في (المطبوع): ((ليعلم)).
[4] في (المطبوع): ((رجل)).
[5] في (المطبوع): ((قتاله)).
[6] في (المطبوع): ((وبُرِّئَ)).
[7] في (المطبوع): ((دية)).
[8] في (المطبوع): (فوداه)).
[9] في (المطبوع): ((يُطَلَّ)).