الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب الدعاء بعد الصلاة

          ░18▒ (باب: الدُّعاء بَعْدَ الصَّلاة)
          قالَ الحافظُ: أي: المكتوبة، وفي هذه التَّرجمة ردٌّ على مَنْ زعم أنَّ الدُّعاء بعد الصَّلاة لا يُشرع متمسِّكًا بالحديث الَّذِي أخرجه مسلم عن عائشة: ((كان النَّبيُّ صلعم إذا سلَّم لا يثبت إلَّا قدْر ما يقول: اللَّهمَّ أَنْتَ السَّلام، وَمِنْكَ السَّلام، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ»، والجواب: أنَّ المراد بالنَّفي المذكور نفيُ استمراره جالسًا على هيئته قبل السَّلام إلَّا بقدْر أن يقول ما ذكر، فقد ثبت ((أنَّه كان إذا صلَّى أقبل على أصحابه)) فيحمل ما ورد مِنَ الدُّعاء بعد الصَّلاة على أنَّه كان يقوله بعد أن يُقْبِل بوجهه على أصحابه.
          قالَ ابن القيِّم في «الهدي النَّبويِّ»: وأمَّا الدُّعاء بعد السَّلام مِنَ الصَّلاة مستقبِلَ القبلة سواء الإمام والمنفرد والمأموم، فلم يكن ذلك مِنْ هدي / النَّبيِّ صلعم أصلًا، ولا رُوي عنه بإسناد صحيح ولا حسن، وخصَّ بعضُهم ذلك بصلاتَي الفجر والعصر، ولم يفعله النَّبيُّ صلعم ولا الخلفاء بعده، ولا أرشد إليه أمَّته، وإنَّما هو استحسان رآه مَنْ رآه عِوضًا مِنَ السُّنة بعدهما. قال: وعامَّة الأدعية المتعلِّقة للصَّلاة(1) إنَّما فعلها فيها وأمر بها فيها، قال(2): وهذا اللَّائق بحال المصلِّي، فإنَّه مقبل على ربِّه مناجيه، فإذا سلَّم منها انقطعت المناجاة، وانتهى موقفُه وقربُه، فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته والقربِ منه، ثمَّ يسأل إذا انصرف عنه؟! ثمَّ قالَ: لكنَّ الأذكار الواردة بعد المكتوبة يُسْتحبُّ لمن أتى بها أن يصلِّي على النَّبيِّ صلعم بعد أن يفرغ منها ويدعو بما شاء، ويكون دعاؤه عقب هذه العبادة الثَّانية، وهي الذِّكر... لا مِنْ حيثُ كونُه(3) دُبُرَ المكتوبة.
          ثمَّ قالَ الحافظُ: قلت: وما ادَّعاه مِنَ النَّفي مطلقًا مردودٌ، فقد ثبت عن معاذ بن جَبَل: ((أنَّ النَّبيَّ صلعم قال له: يا مُعَاذُ إِنِّي وَاللَّهِ لأُحِبُّكَ، فلا تَدَعْ دُبُر كُلِّ صَلاةٍ أن تَقُول: اللَّهمَّ أعِنِّي على ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبادَتِكَ)) أخرجه أبو داود والنَّسَائيُّ وصحَّحه ابن حِبَّان والحاكم، وقد أخرجَ التِّرْمِذيُّ مِنْ حديث [أبي] أُمامة: ((قيل: يا رسول الله، أيُّ الدُّعاء أَسْمَع؟ قال: جوفَ اللَّيل الأخير(4) ودُبُرَ الصَّلوات المكتوبات)) وقال: حسن، وغير ذلك مِنَ الأحاديث ذكرها الحافظ.
          وقال صاحب «الفيض»: لا ريبَ أنَّ الأدعيةَ دُبُر الصَّلوات قد تواترت تواترًا لا يُنْكَرُ، أمَّا رفعُ الأيدي فثبتَ بعد النَّافلة مرَّةً أو مرَّتين، فألحق بها الفقهاءُ المكتوبةَ أيضًا، وذهب ابنُ تَيْمِيَة وابنُ القيِّم إلى كونه بدعةً، بقي أنَّ المواظبةَ على أمرٍ لم يَثْبُت عن النَّبيِّ صلعم إلَّا مرَّةً أو مرَّتين كيف هي؟ فتلك هي الشَّاكلةُ في جميع المستحَبَّات، فإنَّها تَثْبُتُ طورًا فطورًا ثمَّ الأمَّةُ تواظبُ عليها، نعم نَحْكُمُ بكونها بدعةً إذا أفضى الأمرُ إلى النَّكير على مَنْ تَرَكَهَا. انتهى.
          وقال أيضًا في موضع آخر: واعلم أنَّ الأدعية بهذه الهيئة الكذائيَّة لم تَثْبُت عن النَّبيِّ صلعم ولم يَثْبُت عنه رفعُ الأيدي دُبُر الصَّلوات في الدَّعوات إلَّا أقلَّ قليلٍ، ومع ذلك وَرَدَت فيه ترغيباتٌ قوليَّةٌ، والأمر في مثله ألَّا يُحْكَم عليه بالبدعة، فهذه الأدعية في زماننا ليست بسُنَّةٍ بمعنى ثبوتها عن النَّبيِّ صلعم، وليست ببدعة بمعنى عدم أصلها في الدِّين، فقد هَدَى إلى الرَّفع في قوليَّات كثيرة وفَعَلَه بعد الصَّلاة قليلًا، فإنِ التزم أحدٌ منا الدُّعاء بعد الصَّلاة برفع اليد فقد عَمِلَ بما رغَّب فيه وإن لم يكثره بنفسه. انتهى مختصرًا.
          وفي «هامشه»: قلت: ونحوُه فعله صلعم في صلاة الضُّحى، فإنَّها وإن ثبتت في بعض الرِّوايات، لكنَّه أقلُّ قليل حَتَّى إنَّ بعضهم ذهب إلى إنكار ثبوتها فعلًا، والصَّحيح أنَّها ثابتة ولو قليلًا. انتهى مختصرًا.
          وقد تقدَّم أيضًا شيء مِنَ الكلامِ عليه قُبيل كتاب الجمعة، وسيأتي ترجمة المصنِّف بعد أربعة أبواب بــ(باب: رفعِ الأيدي في الدُّعاء).


[1] في (المطبوع): ((بالصلاة)).
[2] قوله: ((قال)) ليس في (المطبوع).
[3] في (المطبوع): ((وهي الذكر لا لكونه)).
[4] في (المطبوع): ((الآخر)).