الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب: لا عدوى

          ░54▒ (باب: لاَ عَدْوَى)
          المذكور في حديث الباب شيئان: العدوى والطِّيَرة، وتقدَّم في الأحاديث / السَّابقة مِنْ (باب: الجُذام) وغيرِه ذكرُ أربعة أشياء، منها هذان الاثنان، والثَّالثة الهامة، والرَّابعة الصَّفَرُ، وذكر الحافظ عدَّة رواياتٍ في ذلك ثمَّ قال: فالحاصل مِنْ ذلك ستَّة أشياء: العدوى والطِّيَرة والهامة والصَّفَر والغُول والنَّوء، والأربعة الأُوَل قد أفرد البخاريُّ لكلِّ واحد منها ترجمة. انتهى.
          وتقدَّم الكلام على ما عدا العدوى مِنْ تلك الأربعة في تراجمها، وأمَّا العدوى فقالَ القَسْطَلَّانيُّ في شرح الحديث: أي: لا سِراية للمرض عن صاحبه إلى غيره نفيًا لما كانت الجاهليَّة تعتقده في بعض الأدواء أنَّها تعدي بطبعها، وهو خبر أريد به النَّهي. انتهى.
          وقالَ العلَّامةُ العَينيُّ: [العدوى:]اسْم مِنَ الإعداء كالرَّعْوى والبَقْوى مِنَ الإرعاء والإبقاء يُقَال: أعداه الدَّاءُ يُعْديه إعداءً، وَهُوَ أَن يُصِيبهُ مثلُ مَا بصاحب الدَّاء، وَكَانُوا يظنُّون أَنَّ الْمَرَض بِنَفسِهِ يُعْدي. انتهى.
          [وقالَ السِّنْديُّ في «حاشية أبي داود»: هي مجاوزة العلَّة مِنْ صاحبٍ إلى غيره بالمجاورة والقرب، انتهى.
          وأمَّا الجمع بين روايتي الباب فقد بَسط الكلامَ على ذلك الحافظُ وغيره مِنَ الشُّرَّاح، وتقدَّم أيضًا الإشارة إليه مجملًا في (باب: الجذام)]
، قالَ العلَّامةُ السِّنْديُّ: ويحتمل أنَّ المراد بقوله: (لا عدوى) نفيُ ذلك وإبطالُه مِنْ أصلِه، وعلى هذا فما جاء مِنَ الأمر بالفرار مِنَ المجذوم ونحوه هو(1) مِنْ باب سدِّ الذَّرائع، لئلَّا يُظَنَّ المرض الحادث أنَّه بسبب المجاورة، ويحتمل أنَّ المراد نفيُ التَّأثير وبيان أنَّ مجاورة المريض مِنَ الأسباب العادية لا هي مؤثرة كما يعتقده أهل الطَّبيعة، وعلى هذا فالأمر بالفرار وغيره ظاهر. انتهى.
          وقالَ الحافظُ: قالَ عِياضٌ: اختلفت الآثار في المجذوم، فجاء ما تقدَّم عن جابر: (أنَّ النَّبيَّ صلعم أكل مع مجذُوم، وقال: ثقةً بالله وتوكُّلًا عليه) قال: فذهب عمرُ وجماعة مِنَ السَّلفِ إلى الأكل معه، ورأَوا أنَّ الأمر باجتنابه منسوخ، [قال]: والصَّحيح الَّذِي عليه الأكثر ويتعيَّن المصير إليه ألَّا نَسْخَ، بل يجب الجمع بين الحديثين، وحُمل الأمرُ باجتنابه والفرار منه على الاستحباب والاحتياط، والأكلُ معه على بيان الجواز. انتهى.
          هكذا اقتصر القاضي ومَنْ تبعه على حكاية هذين القولين، وحكى غيره قولًا ثالثًا وهو التَّرجيح، وقد سلكه فريقان:
          أحدهما: سلك(2) ترجيح الأخبار الدَّالَّة على نفي العدوى وتزييف الأخبار الدَّالَّة على عكس ذلك مثل حديث الباب(3) فأعلُّوهُ بالشُّذُوذ، وبأنَّ عائشة أنكرت ذلك، فأخرجَ الطَّبَريُّ عنها أنَّ امرأةً سألتها عنه فقالت: ((ما قال ذلك، ولكنَّه قال: لا عدوى)) وقال: ((فمن أعدى الأوَّل))؟ وبأنَّ أبا هريرة تردَّد في هذا(4) الحكم كما سيأتي، فيُؤخَذ الحكم مِنْ رواية غيره، وبأنَّ الأخبار الواردة في نفي العدوى كثيرة شهيرة بخلاف الأخبار المرخِّصة في ذلك.
          والفريق الثَّاني: سلكوا في التَّرجيح عكس هذه المسألة، فردُّوا حديث (لا عدوى) بأنَّ أبا هريرة رجع عنه، إمَّا لشكِّه فيه، وإمَّا لثبوت عكسِه عنده، قالوا: والأخبار الدَّالَّة على الاجتناب أكثرُ مَخارجَ وأكثرُ طُرقًا، فالمصير إليه أولى، وأمَّا حديث جابر ففيه نظرٌ، وقد أخرجَه التِّرمِذيُّ وبيَّن الاختلاف فيه ورجَّح وَقْفَه على عمر. انتهى مِنَ «الفتح».
          قلت: وميل الحافظ: إلى الجمع، فإنَّه قال في الجواب عن كلِّ فريق: إنَّ طريق التَّرجيح لا يصار إليها إلَّا مع تعذُّر الجمع، وهو ممكن، ثمَّ ذكر الأقوال في طريق الجمع بالبسط، فارجع إليه لو شئت.
          وأفادَ الشَّيخُ مولانا أشرف عليٍّ التَّهانويُّ قُدِّس سرُّه كما حكاه في رسالة «أنفاس عيسى» أنَّ في العدوى ثلاثة مذاهب: الأوَّل: أنَّ العدوى ثابت ولا يتوقَّف على مشيئة الله، وهذا كفرٌ صريح وزندقة، والثَّاني: اعتقاد ثبوت العدوى بالمشيئة، / لكنَّ المشيئة ضروريَّة توجد لا محالة، وهذا مذهب(5) باطل لكنَّه ليس بكفر، الثَّالث: أنَّه مقيَّد بالمشيئة، والمشيئة ليست بلازمة، إن شاء الله كان وإن لم يَشَأ لم يكن، ثمَّ قال: لكنَّ الأَحاديث الصَّحيحة تدلُّ على أنَّ العدوى ليس بشيء. انتهى.


[1] في (المطبوع): ((فهو)).
[2] في (المطبوع): ((مسلك)).
[3] قوله: ((مثل حديث الباب) ليس في (المطبوع).
[4] في (المطبوع): ((ذلك)).
[5] في (المطبوع): ((المذهب)).