الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب السحر، وقول الله تعالى {ولكن الشياطين كفروا}

          ░47▒ (باب: السِّحْر، وقول الله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} إلى آخره [البقرة:102])
          والسِّحر بكسر السِّين وسكون الحاء المهملتين، وأمَّا السَّحَر بمعنى الصُّبح فبفتحتين، قال تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر:34]، وفي «مختار الصِّحاح»: السَّحَر بالفتح، وجمعه سُحُور كفَلس وفُلُوس، وقد يحرَّك لمكان(1) حرف الحلق. انتهى.
          وقالَ القَسْطَلَّانيُّ: والسِّحر أمر خارق للعادة صادرٌ عن نفس شرِّيرة لا تتعذَّر معارضتُه، واختُلف هل له حقيقة أم لا؟
          والصَّحيح وهو الَّذِي عليه الجمهور أنَّ له حقيقةً، وعلى هذا فهل له تأثير فقط بحيث يغيِّر المزاج فيكون نوعًا مِنَ الأمراض أو ينتهي إلى الإحالة بحيث يصير الجماد حيوانًا مثلًا وعكسه؟ فالَّذِي عليه الجمهور هو الأوَّل، وفرَّقوا بين المعجزة والكرامة والسِّحر بأنَّ السِّحر يكون بمعاناة أحوال وأفعال حَتَّى يتمَّ للسَّاحر ما يريد، والكرامة لا تحتاج إلى ذلك، بل إنما تقع غالبًا اتِّفاقًا، وأمَّا المعجزة فتمتاز عن الكرامة بالتَّحدِّي، وقالَ القُرْطُبيُّ: الحقُّ أنَّ لبعض أصناف السِّحر تأثيرًا في القلوب كالحبِّ والبغض وإلقاء الخير والشَّرِّ، وفي الأبدان بالألم والسُّقم، وإنَّما المنكر أنَّ الجماد ينقلب حيوانًا أو عكسه بسحر السَّاحر. انتهى مِنَ القَسْطَلَّانيِّ.
          [وقالَ الحافظُ: قال الرَّاغب وغيره: السِّحر يطلق على معانٍ، ثمَّ ذكر عدَّة معان ثمَّ قال: واختُلف في السِّحر فقيل: هو تخييل فقط ولا حقيقة له، وهذا اختيار أبي جعفر الأستراباذيِّ مِنَ الشَّافعيَّة وأبي بكرٍ الرَّازيِّ مِنَ الحنفيَّة وابن حزم الظَّاهري وطائفةٍ.
          قالَ النَّوويُّ: والصَّحيح أنَّ له حقيقةً، وبه قطع الجمهورُ، وعليه عامَّة العلماء، ويدلُّ عليه الكتاب والسُّنَّة الصَّحيحة المشهورة، انتهى.
          لكنَّ محلَّ النِّزاع هل يقع بالسِّحر انقلابُ عينٍ أو لا؟ إلى آخر ما تقدَّم في كلام القَسْطَلَّانيِّ]

          قالَ الحافظُ: ونقل الخطَّابيُّ أنَّ قومًا أنكروا السِّحر مطلقًا، وكأنَّه عنى القائلين بأنَّه تخييل فقط، وإلَّا فهي مكابرة، وقال في الفرق بين السِّحر وبين غيره: ونَقل إمامُ الحرمين الإجماعَ على أنَّ السِّحر لا يظهر إلَّا مِنْ فاسقٍ وأنَّ الكرامة لا تظهر على فاسق. انتهى.
          وفي «الفيض» في الفرق بين المُعجزة والسِّحر: أنَّ السِّحر يحتاجُ إلى بقاء توجُّه نفسِ السَّاحر والتفاته إليه وتعلُّق عزيمته به، فإِذا غَفَل عنه بطل أثره، بخلاف المعجزة فإنَّها أغنى عنه، وهذا لا ينافي بقاء بعض آثاره كالمرض والصِّحَّة، وإنَّما أُريد به بطلانه، حيث تأثيره في انقلاب الماهيَّة، كجعل الدَّراهم دنانير، فتلك الدَّراهم لا تزال تُخيَّل دنانير ما دام توجيهه(2) باقيًا إليها، فإذا انقطع تعود في المنظر كما كانت، ولذا تراهم يحتاجون إلى تجديد سحرهم في الأيَّام الخاصَّة ليقوى أثرُه. انتهى.
          وبسط الكلام على حقيقة السِّحر في «الأوجز» تحت قول كعب الأحبار: لولا كلماتٌ أقولهنَّ لجعلتني اليهود حمارًا.
          وأمَّا حكم السِّحر تعليمًا وتعلُّمًا فقالَ الحافظُ: في المسألة اختلاف كثير وتفاصيلُ ليس هذا موضعَ بسطها، وقد أجاز بعض العلماء تعلُّم السِّحر لأحد أمرين: أمَّا لتمييز ما فيه كفرٌ مِنْ غيره، وأمَّا لإزالته عمَّن وقع فيه، فأمَّا الأوَّل(3) فلا محذور(4) فيه إلَّا مِنْ جهة الاعتقاد، فإذا سلم الاعتقاد فمعرفة الشَّيء بمجرَّده لا تستلزم منعًا، كمن يعرف كيفيَّة عبادة أهل الأوثان للأوثان، لأنَّ كيفيَّة ما يعمله السَّاحر إنَّما هي حكاية قول أو فعل بخلاف تعاطيه، والعمل به، وأمَّا الثَّاني فإن كان لا يتمُّ كما زعم بعضهم إلَّا بنوعٍ مِنْ أنواع الكفر أو الفسق فلا يحلُّ أصلًا، وإلَّا جاز للمعنى المذكور، وهذا فصل الخِطاب في هذه المسألة، وفي إيراد المصنِّف هذه الآية إشارة إلى اختيار الحكم بكفر السَّاحر. انتهى.
          قلت: ويؤيِّده الباب الآتي، فقد قرن فيه بين الشِّرك والسِّحر، وسيأتي: / حكم السَّاحر بعد بابين.


[1] في (المطبوع): ((يحرك في مكان)).
[2] في (المطبوع): ((توجهه)).
[3] في (المطبوع): ((فيه، فالأول)).
[4] في (المطبوع): ((محظور)).