التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الصلاة قبل المغرب

          ░35▒ بَابُ الصَّلَاةِ قَبْلَ المَغْرِبِ.
          1183- ذَكَر فيه حديث ابن بُريدةَ: عن عَبْدِ اللهِ المزَنِيِّ، عن النَّبيِّ صلعم قال: (صَلُّوا قَبْلَ صَلاَةِ المَغْرِبِ، قَالَ: فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ كَرَاهَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً).
          1184- وحديث مَرثَد بن عبد الله اليَزَنيِّ، قال: (أَتَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الجُهَنِيَّ، فَقُلْتُ: أَلاَ أُعْجِّبُكَ مِنْ أَبِي تَمِيمٍ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ المَغْرِبِ؟ فَقَالَ عُقْبَةُ: إِنَّا كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم، فقُلْتُ: فَمَا يَمْنَعُكَ الآنَ؟ قَالَ: الشُّغْلُ).
          الشرح: حديث عبد الله ذكره البخاريُّ أيضًا في آخر باب الاعتصام، في باب نهي النَّبيِّ صلعم على التحريم إلَّا ما يُعرف إباحته، بهذا اللفظ والسَّند.
          وكذا أخرجه كذلك أبو داودَ، وسلف في باب كم بين الأذان والإقامة مِن كتاب الأذان بلفظ: ((بين كلِّ أذانين صلاةٌ)). أخرجاه.
          وابن بُريدةَ اسمه: عبد الله أخو سليمانَ. وعبد الله الراوي هو ابن مُغَفَّلٍ بالغين المعجمة والفاء. والحسين الراوي عنه هو ابن ذَكوانَ المعلِّم. قال الإسماعيليُّ: قال ابن حسابٍ: محمَّد بن عبيدٍ في حديثه عن عبد الله، كنيته ونسبته لا أدري: ابن مَعْقل أو ابن مُغَفَّل، فذكره.
          قال البيهقيُّ: ورواه حيَّانُ بن عُبَيد الله عن ابن بُريدةَ عن أبيه، وأخطأ في إسناده، وأتى بزيادةٍ لم يُتابع عليها، وهي أنَّ بين كلِّ أذانين ركعتين ما خلا المغرب. قال ابن خزيمةَ: هو خطأٌ، إنَّما الخبر عن ابن بُريدةَ عن ابن مُغَفَّل، / لا عن أبيه. قلت: وحيَّانُ هذا وثَّقه ابن حِبَّانَ وغيره، وإن جُهِل.
          والحديث الثاني أخرجه النَّسائيُّ. وأبو تميمٍ عبد الله بن مالكٍ الجَيْشَانيُّ المصريُّ. مات سنة سبع وسبعين. يُقال: أسلم في حياة رسول الله صلعم.
          إذا تقرَّر ذلك: فاختلف السَّلف في التنفُّل قبل المغرب، فأجازه طائفةٌ مِن الصَّحابة والتابعين والفقهاء، وممن فعله أُبَيُّ بن كعبٍ، وعبد الرَّحمن بن عَوْفٍ، وسعد بن أبي وقَّاصٍ. وقال حُمَيدٌ عن أنسٍ: رأيتهم إذا أذَّن المؤذِّن يبتدرون السَّواري فيصلُّون. وقال عبد الرَّحمن بن أبي ليلى: أدركت أصحاب محمَّد صلعم يصلُّون عند كلِّ تأذينٍ. وكان الحسن وابن سيرينَ يركعان قبل المغرب، وهو قول أحمدَ وإسحاقَ.
          والحُجَّة لهم مِن حديث المزنيِّ: (لِمَنْ شَاءَ) وممَّن كان لا يُصَلِّيها: قال إبراهيم النَّخَعيُّ: لم يصلِّهما أبو بكر ولا عُمَرُ ولا عَثْمَانُ. وقال إبراهيم: هما بدعةٌ، قال: وكان خِيار أصحاب رسول الله صلعم بالكوفة عليٌّ وابن مسعودٍ وحذيفةُ وعمَّارٌ، فأخبرني مَن رمَقهم كلَّهم فما رأى أحدًا منهم يُصَلِّي قبل المغرب. وهو قول مالكٍ، وأبي حنيفةَ والشافعيِّ.
          قال المهلَّب: والحجَّة لهم أنَّ هذا كان في أوَّل الإسلام ليدلَّ على أنَّ وقت التحجير في وقت النَّافلة في هذا الوقت قد انقطع بمغيب الشمس وحلَّت النَّافلة والفريضة، ثمَّ التزم النَّاسُ مبادرة الفريضة لئلَّا يتباطأ الناس بالصَّلاة عن الوقت الفاضل ويختلفَ أمر الناس في المبادرة بالصَّلاة، إذ المغربُ لا يُشكِل على العامَّةِ والخاصَّةِ، وغيرُها من الصلوات يُشكِل أوائلُ أوقاتها، وفيها مُهلةٌ حتَّى يستحكم الوقت فلذلك أُبيح الركوع قبل غيرها مِن الصلوات.
          وقال ابن قُدَامة: ظاهر كلام أحمدَ أنَّهما جائزان، وليسا بسنَّةٍ. قال الأثرم: سألتُ أحمد عنهما، قال: ما فعلته قطُّ إلا مرَّةً حين سمعت الحديث. وقال: فيهما أحاديثُ جِيَادٌ _أو قال: صِحَاحٌ_ عن رسول الله صلعم وأصحابه والتابعين، إلَّا أنَّه قال: (لِمَنْ شَاءَ) فمَن شاء صلَّى. وقال: هذا ينكره الناس _وضحك كالمتعجِّب_ وكلُّ هذا عندهم عظيمٌ.
          وقال ابن العربيِّ: لم يفعلها أحد بعد الصَّحابة. واختلف أصحابنا فيها على وجهين: أشهرُهما لا يُستحبُّ. والصحيحُ عند المحقِّقين استحبابُها للأحاديث الصحيحة في ذلك، منها حديث الباب، وحديث أنسٍ قال: ((كان المؤذِّن إذا أذَّن قام النَّاسُ مِن أصحاب رسول الله صلعم يبتدرون السَّواري حتَّى يخرج النَّبيُّ صلعم وهم كذلك يصلُّون ركعتين، حتَّى إنَّ الرجل الغريب ليدخل المسجد، فيحسب أنَّ الصَّلاة قد صُلِّيت مِن كثرة مَن يُصَلِّيهما)). أخرجاه، وقد سلف في باب الأذان. ولأبي داودَ مِن حديث أنسٍ قال: ((صلَّيت الركعتين قبل المغرب على عهد رسول الله صلعم))، قال المختار: قلت لأنسٍ: أرآكم رسول الله صلعم؟ قال: ((نعم رآنا فلم يأمرنا، ولم ينهنا)). وللبيهقيِّ عن سعيد بن المسيِّب قال: كان المهاجرون لا يركعون ركعتين قبل المغرب، وكانت الأنصار يركعونهما، وكان أنسٌ يركعها. قال البيهقيُّ: كذا قال سعيد بن المسيِّب.
          وقد رُوِّينا عن عبد الرَّحمن بن عَوْفٍ أنَّه قال: كنَّا نركعها، وكان مِن المهاجرين _وكأنَّه أراد غيره أو الأكثر منهم_ ثمَّ ساق بسنده إلى زرٍّ قال: كان ابن عَوْفٍ وأُبيُّ بن كعبٍ يُصَلِّيان قبل المغرب ركعتين، وبسنده إلى مكحولٍ عن أبي أُمَامةَ قال: ((كنَّا لا ندعهما في زمان رسول الله صلعم))، وعن حبيب بن مَسلمة قال: ((رأيتُ أصحاب رسول الله صلعم يهُبُّون إليها كما يهُبُّون إلى المكتوبة)). يعني: إلى الركعتين قبل المغرب.
          وحُجَّة المانع حديث أبي داودَ، عن طاوسٍ قال: سُئل ابن عُمَرَ عن الركعتين قبل المغرب، فقال: ((ما رأيت أحدًا على عهد رسول الله صلعم يُصَلِّيهما))، ورخَّص في الركعتين بعد العصر. ولَمَّا ذكر الدَّاوديُّ حديث الباب قال: يدلُّ عليه قوله صلعم: ((لا تتحرُّوا بصلاتكم طلوع الشمس، ولا غروبها)) وقول ابن عُمَرَ: لا أنهى أحدًا أن يُصَلِّي أيَّةَ ساعةٍ شاء مِن ليلٍ أو نهارٍ. هذا عند طلوع الشَّمس وعند غروبها.
          وقوله: (بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلاَةٌ لمَنْ شَاءَ)، وفي الحديث الآخر: ((كان إذا أذَّن بالمغرب ابتدروا السَّواري، فيخرج النَّبيُّ صلعم وَهُم على ذلك)).
          فائدة: يدخل في الحديث السالف: (بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلاَةٌ) قبلَ العشاء، وبه صرَّح المحامليُّ في «لُبابه»، فقال: ويُصَلِّي بعد العشاء الآخرة ركعتين، وقبلها ركعتين. ولم أرَ مَن صرَّح به مِن متقدِّمي أصحابنا سواه. وقد رواه الشافعيُّ في «البُوَيطيِّ» عن فعل رسول الله صلعم.