التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب فضل من تعار من الليل فصلى

          ░21▒ بابُ فَضْلِ مَن تَعَارَّ مِن اللَّيْلِ فَصَلَّى.
          قال أبو عَبْدِ اللهِ: تعارَّ: استيقظَ.
          1154- 1155- 1156- 1157- 1158- ذكر فيه حديث عُبَادةَ بن الصَّامِتِ: عن النَّبيِّ صلعم: (مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيل، فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ) الحديث. وعن اللَّيث عن يُونُسَ عن ابن شهابٍ عن الهيثم بن أبي سِنانَ أنَّه سمع أبا هُرَيرةَ وهو يقصُّ في قصصه _وهو يَذْكُرُ رسولَ الله صلعم_: (إِنَّ أَخًا لَكُمْ لاَ يَقُولُ الرَّفَثَ). يعني بذلك: عبدَ اللهِ بنَ رَوَاحةَ.
وفِيْنَا رَسُولُ الله يَتْلُو كِتَابَه                     إذا انشقَّ مَعْرُوفٌ مِن الفَجْرِ سَاطِعُ
أَرَانا الهُدى بَعْدَ العَمَى فَقُلُوبُنا                     بهِ مُوِقِنَاتٌ أنَّ ما قالَ وَاقِعُ
يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَه عن فِرَاشِه                     إذا اسْتَثْقَلتْ بالمشركينَ المَضَاجِعُ
          تابعه عُقَيْلٌ. وقال الزُّبَيديُّ: أخبرني الزُّهريُّ عن سعيدٍ والأعرجِ، عن أبي هُرَيرةَ.
          وذكر حديثَ ابن عُمَرَ: قال: (رَأَيْتُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلعم كَأَنَّ بِيَدِي قِطْعَةَ إِسْتَبْرَقٍ...) الحديث.
          الشرح: حديثُ عُبَادةَ من أفراده، وأخرجه الأربعة: أبو داودَ في الأدب والتِّرمذيُّ في الدعوات وقال: حسنٌ غريبٌ صحيحٌ، والنَّسائيُّ في «اليوم واللَّيلة»، وابنُ ماجه في الدَّعوات. وفيه: الوليد بن مسلمٍ حدَّثنا الأوزاعيُّ.
          وحديث أبي هُرَيرةَ أخرجه أيضًا في هجاء المشركين مِن الأدب، وهو مِن أفراده أيضًا، ورواه الإسماعيليُّ مِن حديث أصبَغُ عن ابن وهبٍ عن يُونُسَ. والإسماعيليُّ مِن طريق ابن المبارك عن يُونُسَ.
          وقوله: (تَابَعَهُ عُقَيْلٌ) أي: تابع يونسَ عُقيلٌ في رواية ابن شهابٍ عن الهيثم. والزُّبيديُّ هو محمَّد بن الوليد الحمصيُّ. وسعيدٌ هو ابن المسيِّب. والأعرج عبدُ الرَّحمن بن هُرمُزَ. وحديثُ ابن عُمَرَ تقدم بعضُه في فضل قيام اللَّيل [خ¦1121]. وأيُّوب هو ابن أبي تَميمةَ. وأخرجه مسلمٌ. وشيخُ البخاريِّ أبو النُّعْمَان هو محمَّد بن الفضل السَّدوسيُّ عَارِمٌ. مات في صفرٍ، بعد العشرين ومائتين.
          إذا عرفت ذلك فالكلام عليه مِن أوجهٍ.
          أحدها: (تَعَارَّ مِنَ اللَّيل) استيقظ، وقيل: إنَّما يكون مع صوتٍ. وقيل: لا يقال: تَعَارَّ إلا لمن قام وذَكَر. وظاهرُ الحديث الأوَّل، لأنَّه قال: (مَن تَعَارَّ.. فَقَالَ) فعطف القولَ بالفاء على (تَعَارَّ)، فهذا مِن قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152] فجَمَع في هذا الحديث ما في هذه الآية، ومَن ذكره الله لم يعذِّبْه، ومَن قَبِلَ له حسنةً قَبِلَ له سائرَ عمله لأنَّه يعلم عواقب الأمور وما يُحبِطُ الأعمال، فلا يَقبَلُ شيئًا ثم يُحبِطُه، قاله الدَّاوديُّ.
          ثانيها: حديث عُبادةَ شريف عظيم القدْر، وفيه ما وَعَدَ الله عبادَه على التيقُّظِ مِن نومهم لَهِجَةً ألسنتُهم بشهادة التَّوحيد له والربوبية، والإذعانِ له بالملك، والاعترافِ له بالحمد على جزيلِ نِعَمِهِ التي لا تُحصَى، رَطبةٌ أفواهُهُم بالقدرة التي لا تتناهى، مطمئنةٌ قلوبُهم بحمده وتسبيحه وتنزيهه عما لا يليق بالإلهية مِن صفات النقص، والتسليمُ له بالعجز عن القُدْرة عن نيل شيءٍ إلَّا به، فإنَّه وَعَد بإجابة دعاءِ مَن بهذا دعاه، وقَبول صلاة مَن بعد ذلك صلَّى، وهو تعالى لا يخلف الميعاد.
          فينبغي لكلِّ مَن بلغه هذا الحديث أن يغتنمَ العمل به، ويخلِصَ نِيَّته لربِّه العظيم أن يرزقه حظًّا مِن قيام اللَّيل، فلا عونَ إلَّا به، ويسألَه فكاك رقبته مِن النار، وأن يوفِّقه لعمل الأبرار، ويتوفَّاهُ على الإسلام، فقد سأل ذلك الأنبياءُ الذين هُم خيرة الله وصفوته مِن خلقه، فمَن رزقه الله حظًا مِن قيام اللَّيل فليكثر شكرَه على ذلك، ويسألْه أن يديم له ما رزقه، وأن يختمَ له بفوز العاقبة وجميل الخاتمة.
          قال أبو عبد الله الفَرَبْرِيُّ: أجريتُ هذا الدُّعاء على لساني عند انتباهي مِن النوم ثمَّ نمتُ فجاءني جاءٍ فقرأ هذه / الآية: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:24].
          ثالثها: قوله: (فقال لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ) رُوي عنه صلعم أنَّه قال فيه أنَّه: ((خيرُ ما قلتُ أنا والنَّبِيُّون مِن قبلي)). وروى عنه أبو هُرَيرةَ أنَّه قال: ((مَن قال ذلك في يوم مائة مرَّةٍ كانت له عَدْلَ عَشْرِ رقاب، وكُتِبَتْ له مائة حسنةٍ ومُحِيَتْ عنه مائة سيئةٍ، وكانت له حِرزًا مِن الشيطان يومه ذلك حتَّى يمسي، ولم يأتِ أحدٌ بأفضل ممَّا جاء، إلَّا أحدٌ عَمِلَ أكثر مِن عمله ذلك)).
          وقوله: (الحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللهِ، وَاللهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) وفي نسخةٍ: <ولا إله إلا الله> خرَّج مالكٌ عن سعيد بن المسيِّب أنَّه قال: الباقياتُ الصالحات قولُ العبد ذلك، بزيادة لا إله إلا الله. كما ذكرناه عن بعض النُّسخ، فجَعَلَها خمسًا بتقديمٍ وتأخيرٍ. ورُوي عن ابن عبَّاسٍ: هي سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. جعلها أربعًا.
          رابعها: قوله: (إَنَّ أَخًا لَكم) القائل هذا هو رسولُ الله صلعم وهو دالٌّ على أنَّ حُسْنَ الشِّعر محمود كَحُسْنِ الكلام، وبيَّن أنَّ قوله صلعم: ((لأَن يمتلئ جوفُ أحدكم قيحًا حتى يَرِيَهُ، خيرٌ له مِن أن يمتلئ شِعرًا)) لا يُراد به كلُّ الشِّعر، إنَّما المراد الشِّعرُ الذي فيه الباطلُ والهُجْرُ مِن القول لأنَّه صلعم قد نفى عن ابنِ رَواحةٍ بقوله هذه الأبيات قولَ الرَّفَثِ، وإذا لم تكن مِن الرَّفث فهي في حيِّزِ الحقِّ، والحقُّ مرغوبٌ فيه، مأجورٌ عليه صاحبه، وذَكَر هذه الأبيات لأنَّ فيها أنَّه صلعم يبيت يُجافي جنبه عن فراشه، وهو صلعم لا يفعل إلَّا ما فيه الفضل، فلمَّا كان تلاوة القرآن وهجر الفراش مِن الفضائل لَمَا فعله، فهو داخلٌ في هذا الباب.
          خامسها: قوله في حديث ابن عُمَرَ: (إِحْدَى رُؤْيَايَ) كذا هنا ويجوز رُؤْيَيَّ أو رؤاييَّ، وفيه: أنَّ قيام اللَّيل ينجِّي مِن النار، وقد سلف.
          وقوله: (أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ) هكذا وقع في سائر النُّسخ وأصله مهموزٌ، تواطأَت على وزن تفاعلَت لكنَّهُ وقع على التسهيل، ومعنى (تَوَاطَأَتْ): اتَّفَقَت واجتمعت. ذكره الدَّاوديُّ، وفي أصل الدِّمياطيِّ بالهمز.