التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قيام النبي بالليل في رمضان وغيره

          ░16▒ بابُ قِيامِ النَّبيِّ صلعم باللَّيلِ في رَمَضانَ وَغَيْرِهِ.
          1147- ذكر فيه حديث عائِشَةَ: (مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلاَ فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ...) الحديث.
          1148- وحديثُها أيضًا: (مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقْرَأُ فِي شَيْءٍ مِنْ صَلاَةِ اللَّيل جَالِسًا، حَتَّى إِذَا كَبِرَ قَرَأَ جَالِسًا، فَإِذَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ السُّورَةِ ثَلاَثُونَ أَوْ أَرْبَعُونَ آيَةً، قَامَ فَقَرَأَهُنَّ، ثُمَّ رَكَعَ).
          الشرح: حديثُ عائشَةَ الأوَّل يأتي في الصوم وصفتِه صلعم، وأخرجه مسلمٌ أيضًا، وأبو داودَ والنَّسائيُّ والتِّرمذيُّ، وقال: حسنٌ صحيحٌ. أخرجاه عن مالكٍ عن سعيدٍ المقبُريِّ عن أبي سَلَمةَ عنها.
          قال أبو عمر: وهكذا هو في «الموطَّأ» عند جماعةِ الرُّواة فيما علمتُ، ورواه محمَّد بن معاذِ بن المستهلِّ عن القَعنَبِيِّ عن مالكٍ عن ابن شهابٍ عن أبي سَلَمةَ عنها. والصوابُ الأوَّلُ.
          وأخرجه البخاريُّ في الاعتصام وصفتِه صلعم مِن حديث سعيد بن مِينَاءَ عن جابرٍ. وحديثُها الثاني أخرجه مسلمٌ أيضًا، وأبو داودَ والنَّسائيُّ وابن ماجه، وقد أسلفنا اختلافَ الآثار في عدد صلاته صلعم قريبًا.
          واختلف العلماء في عدد الصَّلاة في رمضان، فذكر ابن أبي شَيْبَةَ: حدَّثنا يزيد بن هارونَ، حدَّثنا إبراهيم بن عثمانَ عن الحكم عن مِقْسَمٍ عن ابن عبَّاسٍ: ((أنَّ النَّبيَّ صلعم كان يُصَلِّي في رمضان عشرين ركعةً والوتر))، ورُوي مثلُه عن عُمَرَ بن الخطاب وعليٍّ وأُبَيِّ بن كعبٍ، وبه قال الكوفيُّون والشافعيُّ وأحمدُ، إلَّا أنَّ إبراهيم هذا هو جدُّ ابن شيبَةَ، وهو ضعيفٌ فلا حُجَّة في حديثه، والمعروفُ القيام بعشرين ركعة في رمضان عن عُمَرَ وعليِّ، قاله ابن بطَّالٍ. ونقله القاضي عِياض عن جمهور العلماء، ونقله ابن رُشْدٍ عن داودَ.
          وقال عطاءٌ: أدركتُ الناس يصلُّون ثلاثًا وعشرين ركعةً، الوتر منها ثلاثًا. وروى ابن مَهِديٍّ عن داود بن قيسٍ قال: أدركت الناس في المدينة في زمان عُمَرَ بن عبد العزيز وأَبَانَ بن عثمانَ يُصَلُّون سِتًّا وثلاثين ركعة، ويوتَر بثلاثٍ. وهو قول مالكٍ وأهلِ المدينة، وجعله الشافعيُّ خاصًّا بأهل المدينة لشرفهم وفضلِ مهاجرهم. ونقل ابن رُشْدٍ عن ابن القاسم عن مالكٍ: الوترُ بركعةٍ. وحُكي عن الأسود بن يزيدَ كان يقوم بأربعين ركعة ويوتر بسبعٍ.
          وقول عائشة: (يُصَلِّي أَرْبَعًا ثُمَّ أَرْبَعًا ثُمَّ ثَلَاثًا) قد أسلفنا في أبواب الوتر أنَّ ذلك مرتَّبٌ على قوله: ((صَلاَةُ اللَّيل مَثْنَى مَثْنَى)) لأنَّه مفسِّرٌ وقاضٍ على المجمل، وقد جاء بيان هذا في بعض طُرق هذا الحديث، روى ابن أبي ذئبٍ والأوزاعيُّ، عن ابن شهابٍ، عن عُرْوةَ، عن عائِشَةَ قالت: ((كان رسول الله صلعم يُصَلِّي باللَّيل إحدى عشرة ركعةً بالوتر يسلِّم بين كلِّ ركعتين)).
          فإن قلتَ: إذا كان يفصل بالسلام فما الحكمة في الجمع؟ قلتُ: لينبِّهَ على أنَّ صفتهما وطولهما مِن جنسٍ واحدٍ وأنَّ الأُخَر بعدها ليست مِن جنسها وإن كانت أَخذت مِن الحُسْنِ والطول حظَّها.
          وقيل في قولها: (يُصَلِّي أَرْبَعًا ثُمَّ أَرْبَعًا ثُمَّ ثَلَاثًا) أي أنَّه كان ينام بينهنَّ.
          ورُوي نحوُه عن ابن عبَّاسٍ، وفيه دلالةٌ على جواز فعل ذلك، بل هو عند أبي حنيفةَ: أفضل التَّطوُّع أن يُصَلِّي أربعًا بتسليمةٍ، واحتجَّ مَن قال ذلك بحديث الليث عن ابن أبي مُليكة عن يعلى عن أمِّ سَلَمةَ أنَّها وصفتْ صلاته صلعم باللَّيل وقراءته فقالت: ((كان يُصَلِّي ثمَّ ينام قدْر ما صلَّى، ثمَّ يُصَلِّي قدْر ما نام ثمَّ ينام قدْر ما صلَّى، ثمَّ يقوم فيوتر)).
          وقولها: (أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟) كأنَّها توهَّمتْ أنَّ الوتر إثرَ الصَّلاة على ما شاهدَتْه مِن أبيها لأنَّه كان يوتر إثرها، فلمَّا رأتْ منه خلافَ ذلك سألتْه عن ذلك فأخبرها أنَّ عينيه تنامان ولا ينام قلبه _أي: عن مراعاة الوقت_ وليس ذلك لأبيها، وهذه مِن أعلى مراتب الأنبياء، ولذلك قال ابن عبَّاسٍ: رؤيا الأنبياء وحيٌّ، لأنَّهم يفارقون سائر البشر في نوم القلب، ويساوونهم في نوم العين، وكان يغطُّ ثمَّ يُصَلِّي. قال عِكْرمةُ: كان محفوظًا، وإنَّما كان يتوضَّأُ مِن الانتباه مِن النوم وإن كان لا يتوضَّأ بعد نومٍ، لأنَّه كان يتوضَّأ لكلِّ صلاةٍ، ولا يبعُد أن يتوضَّأ إذا غامر قلبَه النومُ واستولى عليه، وذلك في النادر، كنومِه في الوادي إلى أن طلعت الشمس، ليَسُنَّ لأُمَّته أنَّ الصَّلاة لا يُسقِطُها خروج الوقت وإن كان مغلوبًا بنومٍ أو نسيان.
          وفي حديث عائِشَةَ الثاني: قيامُه صلعم باللَّيل، ومعنى قيامه عند الركوع لئلَّا يُخلِي نفسه مِن فضل القيام في آخر الركعة، وليكون انحطاطُه إلى الركوع والسجود مِن قيامٍ إذْ هو أبلغ وأشدُّ في التذلُّل والخشوع لله.
          وفيه: دليلٌ للمذهب الصحيح أنَّه يجوز أن يُقال: رمضان، بغير إضافته إلى شهرٍ، وإنَّما سألها أبو سلَمة عن صلاته في رمضانَ ليقف على حقيقة ركعاته.
          وفيه: أنَّ تطويل القراءة في القيام وتحسينَ الركوع والسجودِ أكثرُ مِن تكثير الركوع والسجود وعكست طائفة وفصَّلت أخرى فقالت: تطويلُ القيام في اللَّيل أفضلُ وتكثيرُ الركوع والسجود في النهار أفضل. ومذهب الشافعيِّ أنَّ تطويلَ القيام أفضلُ.
          وفيه: جوازُ الركعة الواحدة بعضُها قيامًا وبعضُها قعودًا، وهو مذهبنا ومالكٍ وأبي حنيفةَ وعامَّةِ العلماء، / وسواءٌ قام ثمَّ قعد أو عَكَسَ، وَمَنَعَه بعض السلف. وعن أبي يوسفَ ومحمَّد بن الحسن وأشهب: لا تجزئه.
          وقولها: (مِنْ صَلاَةِ اللَّيل جَالِسًا). اختُلِف في كيفية الجلوس في الصَّلاة، فعَن أبي حنيفةَ: يقعد في حال القراءة كما يقعُد في سائر الصَّلاة، وإن شاء تربَّع وإن شاء احتبى. وعن أبي يوسف: يحتبي. وعنه: يتربَّعُ إن شاء. وعن محمَّد: يتربَّعُ. وعن زُفَرٍ: يقعد كما في التَّشهُّد. وعن أبي حنيفةَ في صلاة اللَّيل: يتربَّعُ مِن أوَّل الصَّلاة إلى آخرها. وقال أبو يوسفَ: إذا جاء في وقت الركوع والسجود يقعد كما يقعد في تشهُّد المكتوبة. وعن أبي يوسف: يركع متربِّعًا، وإذا أراد الركوع ثنى رجلَه اليسرى وافترشها، وهو مخيَّر بين أن يركع مِن قعودٍ وبين أن يقوم عند آخر قراءته.
          قال في «المغني»: فإنَّ الأمرين جميعًا جاءا عن رسول الله صلعم على ما روته عائشة عنه، والإقعاء مكروهٌ، والافتراشُ عندنا أفضل مِن التربُّع على أظهر أقوال الشافعيِّ.
          ثالثها: ينصِب ركبته اليمنى كالقارئ بين يدي المقرئ، وعند مالكٍ: يتربَّعُ. كما ذكره القَرَافيُّ في «الذَّخيرة»، وقال في «المغني» عن أحمدَ: يقعد متربِّعًا في حال القيام ويَثني رجليه في الركوع والسجود، ثمَّ القعود في حقِّه صلعم كالقيام في حال القدرة وغيرِها تشريفًا له وتخصيصًا.