التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب فضل قيام الليل

          ░2▒ بَابُ فَضْلِ قِيَامِ اللَّيْلِ.
          1121- 1122- ذَكَرَ فيه عن سالمٍ عن أبيه قال: (كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلعم إِذَا رَأَى رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَى النَّبِيِّ صلعم، فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرَى رُؤْيَا. إلى أن قال: نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيل. فَكَانَ بَعْدُ لاَ يَنَامُ مِنَ اللَّيل إِلَّا قَلِيلًا).
          هذا الحديث تقدَّم في باب: نوم الرِّجال في المسجد مختصرًا مقتصِرًا على ذكر نومه في المسجد [خ¦440]، ويأتي في فضل مَن تَعَارَّ من اللَّيل [خ¦1157]، ومناقبِ ابن عُمَرَ [خ¦3739]، والأمنِ وذهاب الروع في المنام [خ¦7029]، وأخرجه مسلمٌ والأربعة ومحمود الذي يروي عن عبد الرزَّاق هو ابن غيلانَ. وجعل خَلَفٌ هذا الحديث في مسند ابن عُمَرَ، وجعل بعضَه في مسند حفصة. وأورده ابن عساكرَ في مسند ابن عُمَرَ، والحُمَيْديُّ في مسند حفصةَ، وذَكَر في رواية نافعٍ عن ابن عُمَرَ أنَّها مِن مسند ابن عُمَرَ. وقال إذ لا ذِكر فيها لحفصةَ، فحاصلُه أنَّهم جعلوا رواية سالمٍ مِن مسند حفصة، ورواية نافعٍ مِن مسند ابن عُمَرَ.
          إذا تقرَّر ذلك فالكلام عليه مِن أوجهٍ:
          أحدها: إنَّما كانت الرُّؤيا تُقَصُّ على رسول الله صلعم، لأنَّها مِن الوحي، وهي جزءٌ مِن سِتَّة وأربعين جزءًا مِن النُّبوَّة، كما نطق به عليه أفضل الصَّلاة والسلام، فكان أعلم بذلك مِن كلِّ أحدٍ، وتفسيرُه مِن العلم الذي يجب الرغبة فيه.
          ثانيها: فيه تمنِّي الرُّؤيا الصالحة ليعرفَ صاحبُها ما له عند الله، وتمنِّي الخير والعلم والحرصُ عليه.
          ثالثها: / جواز النوم في المسجد لقوله: (وَكُنْتُ أَنَامُ فِي المَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم) وفي رواية: ((أَعْزَبُ)) ولا كراهة فيه عند الشافعيِّ. قال التِّرمذيُّ: وقد رخَّص قومٌ مِن أهل العلم فيه. وقال ابن عبَّاسٍ: لا تتَّخِذْه مَبيتًا ومَقِيلًا. وذهب إليه قومٌ مِن أهل العلم.
          قال ابن العربيِّ: وذلك لمن كان له مأوى، فأمَّا الغريبُ فهي دارُه، والمعتكِف فهو بيته، ويجوز للمريض أن يجعله الإمامُ في المسجد إذا أراد افتقادَه، كما كانت المرأةُ صاحبة الوشاح ساكنةً في المسجد، وكما ضرب الشَّارع قُبَّةً لسَعدٍ في المسجد حتَّى سال الدَّمُ مِن جرحه. ومالكُ وابن القاسم يكرهان المبيت فيه للحاضر القويِّ، وجوَّزَه ابن القاسم للضعيف الحاضر. وقال بعض المالكيَّةِ: مَن نام فاحتلم ينبغي أن يتيمَّم لخروجه منه.
          رابعها: فيه: رؤية الملائكة في المنام وتحذيرُهم له لقوله: (فَرَأَيْتُ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِيْ فَذَهَبَا بِيْ إِلَى النَّارِ).
          وفيه: الانطلاق بالصالح إليها في المنام تخويفًا.
          ومعنى: (فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ البِئْرِ) يعني: مَبْنِيَّةُ الجوانب، فإن لم تُبْنَ فهي القَلِيب.
          والقرنان: منارتان عن جانبي البئر تجعل عليهما الخشبة التي تُعلَّق عليها البَكْرة.
          وقوله: (فإِذَا فِيهَا نَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ) إنما أخبرهم ليزدجروا، وسكوتُه عن بيانهم، إمَّا أن يكون لئلَّا يغتابهم إن كانوا مسلمين، وليس ذلك ممَّا يختم عليهم بالنَّار، وإما أن يكون ذلك تحذيرًا كما حذَّرَ ابن عُمَرَ، نبَّه عليه ابن التِّين.
          وفيه: الاستعاذة مِن النَّار، وأنَّها مخلوقةٌ الآن، لقوله: (فَجَعَلْتُ أَقُوْلُ: أَعُوْذُ بِالله مِنَ النَّارِ). ومعنى (لَمْ تُرَعْ) لم تخف. أي: لا روع عليك ولا ضرر ولا فزَع.
          خامسها: إنَّما قصَّها على حفصة أختِه أمِّ المؤمنين أنْ تَذْكُرَ لرسول الله صلعم.
          وفيه: استحياءُ ابن عُمَرَ أن يذكُر لرسول الله صلعم فضيلتَه بنفسه.
          وفيه: القصُّ على النِّساء، وتبليغُ حفصةَ، وقَبول خبر المرأة.
          وقوله: (فَقَالَ: نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ) فيه: القول بمثل هذا إذا لم يُخشَ أن يُفتتن بالمدح.
          سادسها: قوله: (لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيل) فيه: فضيلة قيام اللَّيل، وهو ما بوَّب عليه البخاريُّ، وهو مُنجٍ مِن النَّار.
          قال المهلَّب: وإنَّما فسَّر الشَّارع هذه الرؤيا في قيام اللَّيل _والله أعلم_ مِن أجْلِ قَولِ الملَك: (لَمْ تُرَعْ). أي: لم تُعرَض عليك لأنَّك مستحقُّها، إنما ذُكِّرْتَ بها. ثمَّ نظرَ الشَّارع في أحوال عبد الله فلم يرَ شيئًا يغفل عنه مِن الفرائض فيذكَّر بالنار، وعلِمَ مبيتَه في المسجد، فعبَّر بذلك لأنَّه مُنبِّهٌ على قيام اللَّيل فيه بالقرآن، أَلَا ترى أنَّه صلعم رأى الذي عَلِمَه ونام عنه باللَّيل يُشدَخُ رأسُه إلى يوم القيامة في رؤياه صلعم.
          وقال القُرْطبيُّ: إنَّما فسَّر الشَّارع مِن رؤية عبد الله بالنَّار أنَّه ممدوحٌ لأنَّه عُرِضَ على النار ثمَّ عُوفيَ منها وقيل له: لا رَوْع عليك، وهذا إنَّما هو لصلاحِه وما هو عليه مِن الخير، غيرَ أنَّه لم يكن يقوم مِن اللَّيل، إذْ لو كان ذلك لَمَا عُرِض على النَّار ولا رآها، ثمَّ إنَّه حصَل لعبد الله مِن تلك الرؤيا يقينُ مشاهدة النَّار والاحترازُ منها، والتنبيهُ على أنَّ قيام اللَّيل مما يُتقَّى به النَّار، ولذلك لم يترك قيامَ اللَّيل بعد ذلك. وروى سُنَيدٌ عن يوسف بن محمَّد بن المنكدرِ عن أبيه عن جابرٍ مرفوعًا: ((قالت أمُّ سليمانَ لسليمانَ: يا بُنيَّ لا تُكثر النوم باللَّيل فإنَّ كثرة النوم باللَّيل تدعُ الرجل فقيرًا يوم القيامة)).
          وفي الحديث مِن طريق أبي هُرَيرةَ: ((الرُّؤيا ثلاثٌ: فرؤيا حقٍّ، ورؤيا يحدِّث بها الرجل نفسَه، ورؤيا تَحزينٍ مِن الشيطان فمَن رأى ما يكره فلْيقم فلْيصلِّ)).
          سادسها: فيه: فضلُ عِبادة الشابِّ.