التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قيام النبي بالليل ونومه وما نسخ من قيام الليل

          ░11▒ بابُ قِيَامِ النَّبيِّ صلعم باللَّيلِ مِن نَومِهِ، وما نُسِخَ مِن قِيَامِ اللَّيل، وقَوْلِه تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيل إِلَّا قَلِيلًا} إلى قوله: {سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل:1-7] وقوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} إلى قوله: {وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل:20]. قال ابن عبَّاسٍ: (نَشَأَ: قَامَ بِالحَبَشِيَّةِ، {وِطَاءً}: مُوَاطَأَةَ للقُرْآنِ، أَشَدُّ مُوَافَقَةً لِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَقَلْبِهِ، {لِيُوَاطِئُوا}: لِيُوَافِقُوا).
          1141- ثمَّ ذكر فيه عن حُمَيدٍ عن أنسٍ: (كَانَ رَسُوْلُ الله صلعم يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لاَ يَصُومَ مِنْهُ، وَيَصُومُ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لاَ يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ لاَ تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيل مُصَلِّيًا إِلَّا رَأَيْتَهُ، وَلاَ نَائِمًا إِلَّا رَأَيْتَهُ) تابعه سليمان وأبو خالدٍ الأَحْمَرُ عن حُمَيدٍ.
          الشرح: ما ذكره البخاريُّ عن ابن عبَّاسٍ في تفسير {نَاشِئَةَ} ذكره عَبْدُ بنُ حُمَيدٍ في «تفسيره» مِن حديث سعيد بن جُبيرٍ عنه به سواء، وذكر ابن فارسٍ نحوَه قال: {نَاشِئَةَ اللَّيل} [المزمل:6] يريد: القيام والانتصاب للصلاة.
          فمعنى نَشَأ بالحبشيَّةِ: قام. ولعلَّها وافقت اللغةُ العربية في هذا الحبشيَّةَ.
          وقال ابن عبَّاسٍ أيضًا: {نَاشِئَةَ اللَّيل} أوَّله، ونحوه ما بين المغرب والعشاء. وقال الحسن والحكم: هي مِن العشاء الآخرة إلى الصبح. وعن ابن عبَّاسٍ وابن الزُّبير: اللَّيل كلُّه ناشئةٌ. وقول أكثر الناس كما حكاه ابن التِّين عنهم وصحَّحه والمعنى: إنَّ الساعات الناشئة مِن اللَّيل _إِنَّ المبتدِئة القَبلي_ بعضُها في إثر بعضٍ. وقال الأزهريُّ: / {نَاشِئَةَ اللَّيل} [المزمل:6] قيامُه، مصدرٌ جاء على فَاعِلَة كَعَافِيَة. وقيل: ساعاتُه. وقيل: كلُّ ما حدث باللَّيل وبدأ فهو ناشئةٌ.
          وقال نِفْطَويه: كلُّ ساعةٍ قامها قائمٌ مِن اللَّيل فهي ناشئةٌ.
          وقوله: (وِطاءً): مُوَاطَأَةً. قال الأخفش: {أَشَدُّ وَطْئًا} أي قِيامًا، وأصل الوطء في اللغة: الثِّقَل. ومنه الحديث: ((اللهم اشدُدْ وَطْأَتَكَ على مُضَر)) وقيل: أشد وِطاءً أشدُّ ثباتًا مِن النهار، نحوُ ما في البخاريِّ، مِن قولك: وطئتُ الشيءَ: ثَبَتُّ عليه. وذكر الإسماعيليُّ في قوله: {وَطْئًا} أنَّه على التفسير المذكور القراءة وِطَاءً ممدود، والمعنى في وَطأ مهموز. أي أثبتُ للقِيام، وكأنَّه يريد أنَّ القيام بعد قومه أعونُ على القيام ويُقِيمُ القراءة. وحديث أنسٍ يأتي إن شاء الله في الصوم في باب ما يذكر مِن صومه وإفطاره بالسَّنَد واللفظ. وراويه عن حُمَيدٍ هو محمَّد بن جعفر بن أبي كثيرٍ. و(سُلَيْمَان) هو ابن بلالٍ كما صرَّح به خلفٌ، و(أبُو خَالِد) هو سليمان بن حيَّانَ، وذكره المزِّيُّ بلفظ: وقال سليمان، بدل: تابعه، نعم ذكره بلفظ: ((وَقَالَ)) في الصوم كما سيأتي، وذكر أنَّ في البخاريِّ حديث أبي خالدٍ في الصَّلاة والصوم عن محمَّدٍ _وهو ابن سلامٍ_ عن أبي خالدٍ، وذاك في الصوم فقط لا هنا فاعلمه.
          وذكر الإسماعيليُّ أنَّ القاضي أبا يوسفَ حدَّث عن محمَّد بن أبي بكرٍ، حدَّثنا يحيى بن سعيدٍ وحُمَيدٌ: ((سُئل أنسٌ عن صوم رسول الله صلعم)) ثمَّ قال: وافقه المعتمر.
          إذا تقرَّر ذلك: فالحديث دالٌّ على أنَّ أعمال التَّطوُّع ليست مَنوطةً بأوقاتٍ معلومةٍ، وإنَّما هي على قدر الإرادة والنَّشاط فيها، فكان صلعم ليس له في شهرٍ مِن الشهور صيامٌ معروفٌ ولا فِطرٌ معروفٌ، وكذا صلاتُه كانت تختلف: تارةً يُصَلِّي وتارةً ينام، وذلك _والله أعلم_ بحسب التيسير.
          وأمَّا الآية الأولى وهي قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلَا. نِصْفَهُ} [المزمل:2-3] ففيها أقوالٌ: منها أنَّ قوله {قُمِ اللَّيلَ} ليس معناه الفرضُ بدليل أنَّ بعده {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل:3-4] وليس كذا يكون الفرض، وإنَّما هو ندبٌ وحضٌّ. وقيل: هو حتمٌ.
          ثالثها: أنَّه حتمٌ وفرضٌ عليه وحدَه. رُوي ذلك عن ابن عبَّاسٍ، وحُجَّة هذا القول الحديث السالف خشية الافتراض علينا فدلَّ على أنَّه لم يكن فرضًا علينا، ويجوز أن يكون فُرِض ثمَّ نُسِخ بقوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل:20] وعلى هذا جماعةٌ مِن العلماء.
          روى النَّسائيُّ مِن حديث عائشة: افتُرِضَ القيام في أوَّل هذه السورة على رسول الله صلعم وعلى أصحابه حَولًا حتَّى انتفختْ أقدامُهم، وأمسكَ اللهُ خاتمتها اثني عشر شهرًا، ثمَّ نزل التَّخفيفُ في آخرها، فصار قيام اللَّيل تطوُّعًا بعد أن كان فريضةً. وهو قول ابن عبَّاسٍ ومجاهدٍ وزيد بن أسلمَ وجماعةٍ، فيما حكاه عنهم النَّحَّاسُ.
          وقال الحسن وابن سيرينَ: صلاةُ اللَّيل فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ ولو قدْر حَلبِ شاةٍ، وهذا أسلفناه فيما مضى. قال إسماعيل بن إسحاقَ: أحسبُهما قالا ذلك لقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20]. قال الشافعيُّ: سمعت بعض العلماء يقول: إنَّ الله تعالى أنزل فرضًا في الصَّلاة قبل فرض الصلوات الخمس فقال: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيل إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ} الآية، ثمَّ نسخ هذا بقوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} ثمَّ احتمل قولُه: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} أن يكون فرضًا ثابتًا لقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79] فوجب طلبُ الدليل مِن السُّنَّة على أحد المعنيين، فوجدنا سنَّةَ رسول الله صلعم أنْ لا واجب مِن الصلوات إلَّا الخمس.
          قال أبو عمر: قول بعض التابعين: قيامُ اللَّيل فرضًا، ولو كقدر حَلْب شاةٍ، قولٌ شاذٌ متروك لإجماع العلماء أنَّ قيام اللَّيل نُسِخ بقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ}الآية[المزمل:20]. وقد أسلفنا أنَّ الأصحَّ عندنا نَسخُه في حقِّه صلعم.
          ومعنى الآية السالفة: التقديرُ _والله أعلم_ أنَّه منصوبٌ بإضمار فعلٍ كأنَّه قال تعالى: {قُمِ اللَّيل إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:2] فعلِم تعالى أنَّ هذا القليل يختلف النَّاس في تقديره على قدر أفهامهم وطاقَتهم على القيام، فقال: أو انقص مِن نصف اللَّيل بعد إسقاط ذلك القليل قليلًا أو زِدْ عليه، وكان هذا تخييرًا مِن الله تعالى إرادةَ الرفق بخلقِه والتوسِعَة عليهم.
          {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}: اقرأه على ترتيلٍ، قاله مجاهدٌ.
          {قَوْلًا ثَقِيلًا} حرامُه وحلاله، قاله مجاهدٌ، وقال الحسن: العمل به.
          {نَاشِئَةَ اللَّيل} بعد النَّوم. أي: ابتداءُ عمله شيئًا بعد شيءٍ، وهو مِن نشأ إذا ابتدأ، وقد سلف، وفيه ما فيه مِن الخلاف.
          {أَشَدُّ وِطاءً}: أمكَنُ موقعًا، وقد سلف ما فيه. قال قَتَادة: أثبتُ في الخير وأشدُّ في الحفظ للتفرُّغ باللَّيل. ومَن قرأ: {وَطْأً}. فالمعنى: أشدُّ مِهادًا للتصرُّف في التفكُّر والتدبُّر، قاله مجاهدٌ، يواطئ السمع والبصر والقلب.
          {وَأَقْوَمُ قِيلًا} أي: أثبت للقراءة، قاله مجاهدٌ. قال بعضهم: ولهذا المعنى فَرَضَ اللهُ صلاة اللَّيل بالساعات، جزءًا مِن اللَّيل لا جزءًا مِن القرآن، إرادةَ التنبيه على تفهُّمِه وتدبُّرِه، والعملِ بالقلب وأنَّه ليس بهذِّ الحروف وجَريِه على اللِّسان، وأنَّ الثَّواب بمقدار تمام الساعات التي يُقرأ فيها.
          {سَبْحًا طَوِيلًا} فراغًا وحقيقته لغةً: التصرُّف والحركة.
          وأمَّا الآية الثانية وهي قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} أي: لن تطيقوه. وصحَّح ابن التِّين أنَّه منسوخٌ بقوله سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلاة} [المزمل:20].