التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب صلاة الضحى في السفر

          ░31▒ بَابُ صَلاَةِ الضُّحَى فِي السَّفَرِ.
          1175- ذكر فيه حديث مورِّقٍ: (قُلْتُ لِابنِ عُمَرَ: تُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَ: لاَ، قُلْتُ: فَعُمَرُ؟ قَالَ: لاَ، قُلْتُ: فَأَبُو بَكْرٍ؟ قَالَ: لاَ، قُلْتُ: فَالنَّبِيُّ صلعم؟ قَالَ: لاَ إِخَالُهُ).
          1176- وحديث عبد الرَّحمن بن أبي ليلى قال: (مَا حدَّثنا أَحَدٌ، أنَّه رَأَى النَّبِيَّ صلعم يُصَلِّي الضُّحَى غَيْرَ أُمِّ هَانِئٍ فَإِنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ النَّبِيَّ صلعم دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَاغْتَسَلَ وَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، فَلَمْ أَرَ صَلاَةً قَطُّ أَخَفَّ مِنْهَا، غَيْرَ أنَّه يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ).
          الشرح: حديث ابن عُمَرَ مِن أفراده دون الخمسة. ويحيى فيه هو ابن سعيدٍ القطَّان. وسيأتي في فضل مسجد قُباءٍ [خ¦1191] عن ابن عُمَرَ: ((كان لا يُصَلِّي مِن الضُّحَى إلَّا في يومين: يوم يقدَم مكَّةَ، فإنَّه كان يقدمها ضُحى فيطوف، ثمَّ يُصَلِّي خلف المقام، وفي مسجد قُباءٍ)).
          وحديثُ أمِّ هانئٍ تقدَّم في باب مَن تطوَّعَ في السَّفر [خ¦1103]، وهو ظاهرٌ لِمَا ترجم له، فإنَّه صلعم كان بمكَّةَ مسافرًا غير مقيمٍ.
          وأمَّا حديث ابن عُمَرَ، ونفيُه المطلق فوجهُ إيراده هنا أنَّ البخاريَّ حمله على السَّفر خاصَّةً لأنَّه قد ثبت صلاتُها في الحضر مِن حديث أبي هُرَيرةَ، وغيرِه: ((أوصاني خليلي بها)). فإذا حُمل حديث ابن عُمَرَ على السَّفر كان جمعًا بين الأحاديث. وإذا حُمل على الإطلاق وقع التَّعارض والاختلاف، فالجمع أولى. ويؤيِّده أنَّ ابن عُمَرَ كان لا يتنفَّلُ في السَّفر. قال: ولو كنتُ متنفِّلًا لأتممتُ. وهذا أولى ممَّا فعله ابن بطَّالٍ حيث قال: إنَّه ليس مِن هذا الباب، وإنَّما يصلح في الباب الذي بعدَه فيمن لم يصلِّ الضُّحَى. قال: وأظنَّه مِن غلط الناسخ. وهذا لا يُقال في غور هذا المصنَّف العميق الكامل النَّظر في أصول الشريعة العريق. وما ذكرناه هو جواب ابن المنيِّر، وهو جوابٌ دقيقٌ.
          وقول ابن أبي ليلى: (مَا حدَّثنا أَحَدٌ أنَّه رَأَى ذلك) فلا حُجَّة فيه تَرُدُّ ما رُوي عن رسول الله صلعم أنَّه صلاَّها، وأمر بصلاتها مِن طرقٍ جمَّةٍ. وقد يجوز أن يذهب عِلْمُ مثلِ هذا عن كثيرٍ، ويوجد عند الأقلِّ.
          وقد روى ابن وهبٍ، عن عُمَرَو بن الحارث، عن بُكَير بن عبد الله حدَّثني الضَّحَّاكُ بن عبد الله القرشيُّ، عن أنسٍ: ((رأيتُ رسول الله صلعم في السَّفر صلَّى سُبحة الضُّحَى ثماني ركعاتٍ)). وإذا جازت في السَّفر، فالحضر أولى بذلك. وقد سلف حديث أمِّ هانئ، وحديث أنسٍ هذا.
          وذكر الطَّبريُّ أنَّ سعد بن أبي وقَّاصٍ وأمَّ سَلَمةَ كانا يُصَلِّيان الضُّحَى ثمانيًا. وعن ابن مسعودٍ مرفوعًا: ((مَن صلَّى الضُّحَى عشرَ ركعاتٍ بُني له بيتٌ في الجنَّةِ)). وعن أنسٍ أنَّه صلعم قال: ((مَن صلَّى الضُّحَى ثِنتَي عشرة ركعة بنى الله له بها قصرًا مِن ذهبٍ في الجنَّةِ)). وعنه أيضًا أنَّه صلعم ((كأن يُصَلِّي الضُّحَى ستَّ ركعاتٍ)). وعن جابرٍ مثلُه. وعن عائِشَةَ: أنَّها كانت تصلِّي الضُّحَى ستًّا. وعن عليٍّ أنَّه صلعم ((كان يُصَلِّي أربعًا)). وعن عائِشَةَ مثلُه، وبه كان يأخذ علقمةُ والنَّخَعيُّ وسعيدُ بن المسيِّب. وعن عِتْبَان بن مالكٍ أنَّه صلعم ((صلَّى في بيته سُبحة الضُّحَى ركعتين)). وعن جابرٍ أنَّه صلعم ((أمره أن يُصَلِّيَ سُبحة الضُّحَى ركعتين)). وعن أبي هُرَيرةَ أنَّه صلعم ((أوصاه بركعتي الضُّحَى))، وقال: ((مَن حافظ عليها غُفر له ذنوبه وإن كانت مثلَ زَبَدِ البحر)). وعن عبد الله بن عمر أنَّه كان يُصَلِّي الضُّحَى ركعتين، وعن الضَّحَّاك مثلُه.
          وليس منها حديثٌ يدفع صاحبَه. وذلك أنَّه مَن صلى الضُّحَى أربعًا جائزٌ أنْ يكون رآه في حالِ فِعْلِه ذلك، ورآه غيرُه في / حالةٍ أُخرى صلَّى ركعتين، ورآه آخر في حالٍ آخر صلَّاها ثمانيًا، وسمعَهُ آخر يحثُّ على أنَّ تُصلَّى ستًا، وآخرُ يحثُّ على ركعتين، وآخرُ على عشر، وآخرُ على اثنتي عشرة، فأخبر كلُّ واحدٍ منهم عمَّا رأى أو سمع.
          ومِن الدليل على صِحَّة ما قلناه في ذلك ما رُوي عن زيد بن أسلمَ قال سمعتُ عبد الله بن عمرٍو يقول لأبي ذرٍّ: أوصني يا عمُّ. قال: سألتُ رسول الله صلعم عمَّا سألتَني عنه فقال: ((مَن صلَّى الضُّحَى ركعتين لم يُكْتَب مِن الغافلين، ومَن صلَّى أربعًا كُتِب مِن العابدين، ومَن صلَّى ستًا لم يلحقه ذلك اليوم ذنبٌ، ومَن صلَّى ثمانيًا كُتب من القانتين، ومَن صلَّى ثنتي عشرة ركعةً بنى الله له بيتًا في الجنَّةِ)). وقال مجاهدٌ: ((صلَّى النَّبيُّ صلعم يومًا الضُّحَى ركعتين، ثمَّ يومًا أربعًا، ثمَّ يومًا ستًّا، ثمَّ يومًا ثمانيًا، ثمَّ تَركَ)). فأبان بهذا الخبر عن صِحَّة ما قلناه مِن احتمال خبر كلِّ مخبرٍ ممَّن تقدَّم قوله أن يكون إخباره بما أخبر به الشَّارع في صلاة الضُّحَى كان على قدر ما شاهدَه وعاينَه.
          فالصواب أن تُصلَّى على غير عدد، كما قاله الطَّبريُّ. وقد رُوي عن قومٍ من السلف. قال إبراهيم: سأل رجلٌ الأسود قال: كم أصلِّي الضُّحَى؟ قال: كم شئت.
          وقد أسلفنا عددها عندنا، وحاصل ما ذكرناه أنَّ الصَّحابة الذين رووا عن سيِّدنا رسول الله صلعم إثبات الضُّحَى قولًا وفعلًا في الباب وما سلف اثنا عشر صحابيًّا: أمُّ هانئٍ وأنسٌ وأبو ذرٍّ وأبو هُرَيرةَ وأبو الدَّرداء وابن مسعودٍ وجابرٌ وعائشةُ وعليٌّ ونُعَيمُ بن همَّارٍ وعُمَرُ ومعاذ بن أنسٍ، وبقي عليك ممَّا أفاده التِّرمذيُّ: أبو أُمامةَ، وعُتْبةُ بن عبدٍ السُّلميُّ وابن أبي أوفى وأبو سعيدٍ، وزيد بن أرقمَ وابن عبَّاسٍ.
          وممَّا زدناه عليه: عُقْبة بن عامرٍ، روى الحاكم من حديث أبي الخير عنه قال: ((أمرنا رسول الله صلعم أن نصلِّي ركعتَي الضُّحَى بسورتيها: بالشَّمس وضحاها، والضُّحَى)). ورواه مِن حديث نُعَيم بن همَّارٍ عن عُقْبةَ ثمَّ قال: لا أعلم أحدًا ذكر عُقْبة في هذا الإسناد غير قَتَادةَ.
          فأمَّا الشَّاميُّون فإنَّهم يعدُّون نُعَيم بن همَّارٍ في الصَّحابة، وبُرَيدة أخرجه الحاكم، وابن عُمَرَ أخرجه الحاكم أيضًا. وروى حديث أبي أُمَامة السالف أنَّه صلعم ذكر هذه الآية {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37] قال: هل تدرون ما وفَّى؟ وفَّى عمل يومه بأربع ركعات الضُّحَى.
          قال الحاكم: صحبت جماعةً مِن أئمَّة الحديث الحفَّاظ الأئمَّة الأثبات فوجدتهم يختارون هذا العدد، ويُصلُّون هذه الصَّلاة أربعًا لتواتر الأخبار الصحيحة فيه وإليه أذهبُ. وحديث الستِّ ركعاتٍ أخرجه الحاكم مِن حديث جابر وقد سلف، ومِن حديث أبي الدَّرداء: ((ومَن صَلَّى ستًا كُفي ذلك اليوم)).
          وحديث الثمانية روته أمُّ هانئٍ، وهو مُجْمَعٌ على صِحَّتهِ. قال أحمد _وقد سُئل عن صلاة الضُّحَى_ فقال: الثبت عن أمِّ هانئٍ ثمان ركعاتٍ. وروى بُكَير بن الأشجِّ عن الضَّحَّاك بن عبد الله، عن أنسٍ أنَّه قال: ((رأيت رسول الله صلعم في سفرٍ صلَّى سُبحة الضُّحَى ثماني ركعاتٍ)). وقد سلف في الباب الماضي عن فعل عائِشَةَ أيضًا. وسلف مِن حديث أبي الدَّرداء. وحديث العشر أخرجه البيهقيُّ مِن حديث أبي ذرٍّ: ((وإن صلَّيتها عشرًا لم يُكْتَب لك ذلك اليوم ذنبٌ)) وسلف مِن حديث ابن مسعودٍ.
          وحديثُ اثني عشر أخرجه التِّرمذيُّ مِن حديث أنسٍ واستغربه، وابنُ ماجه، وأخرجه الحاكم مِن حديث أمِّ سَلَمةَ وعائِشَةَ، ولفظُه في حديث أبي هُرَيرةَ: ((إنَّ للجنَّة بابًا يُقال له: الضُّحَى، فإذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين الذين كانوا يديمون على صلاة الضُّحَى، هذا بابُكم فادخلوه برحمة الله)). وفي رواية أخرى له: ((لا يحافظ على صلاة الضُّحَى إلَّا أَوَّابٌ)) ثمَّ قال: هذا إسنادٌ احتجَّ بمثله مسلمٌ.
          وممَّا زدناه جُبَير بن مطعمٍ ((أنَّه رأى النَّبيَّ صلعم يُصَلِّي الضُّحَى)). أخرجه الحاكم. ووقع في كلام الحاكم أنَّ حديث زيد بن أرقمَ اتفقا على إخراجه، وليس كما ذُكِرَ، وإنَّما هو مِن أفراد مسلمٍ. قال الحاكم: وقد صحَّت الروايات عن أمير المؤمنين، والسِّبطين الحسنِ والحسين، وجماعةٍ مِن أهل البيت أنَّهم كانوا يواظبون عليها. وممَّا زدناه الحسن أخرجه الحاكم. وفي «لُباب المحامليِّ»: ومَن دخل مكَّةَ، وأراد أن يُصَلِّي الضُّحَى أوَّل يومٍ اغتسل وصلَّاها، فعلَه رسول الله صلعم يوم فتح مكَّةَ.