التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب التطوع بعد المكتوبة

          ░29▒ بَابُ التَّطَوُّعِ بَعْدَ المَكْتُوبَةِ.
          1172- 1173- ذكر فيه حديث عُبَيد الله عن نافعٍ، عن ابن عُمَرَ قال: (صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلعم سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ). الحديث.
          وقد سلف قريبًا في باب: ما جاء في التَّطوُّع مَثنى مَثنى، تابعه كَثيرُ بن فَرْقَدٍ، وأيُّوبُ عن نافعٍ. وقال ابن أبي الزِّناد: عن موسى بن عُقْبةَ عن نافعٍ: بعد العشاء في أهله. كذا هو ثابتٌ في عِدَّة نُسخٍ، وكذا ذكره أبو نُعَيمٍ في «مستخرجه»، ويقع في بعضها بعد قوله: (فَأَمَّا المَغْرِبُ وَالعِشَاءُ فَفِي بَيْتِهِ). قال ابن أبي الزِّناد: إلى آخره، تابعه كثير بن فَرْقَدٍ وأيُّوبُ عن نافعٍ. وحديث أيُّوبَ أخرجه التِّرمذيُّ.
          والمراد بـ(سَجْدَتَينِ) ركعتان. عبَّر عن الركوع بالسُّجود، وهو يبيِّن حديث الكسوف: ((ركعتين في سجدةٍ)) أي: في ركعةٍ. على ما روته عائشة.
          وقوله: (فَفِي بَيْتِهِ) أي: في بيت حفصَةَ، كذا ذكر الدَّاوديُّ، ولا تعارض بين حديثه هذا وحديثه السالف في باب: الصَّلاة بعد الجمعة: ((وبعد المغرب ركعتين في بيته، وبعد العشاء ركعتين، وكان لا يُصَلِّي بعد الجمعة حتَّى ينصرف فيُصَلِّي ركعتين))، فإنَّ ظاهره أنَّه مخالفٌ له للعشاء والجمعة، وقد أسلفنا ما يوضحه هناك.
          وقوله: (كَانَتْ سَاعَةً لاَ أَدْخُلُ عَلَى النَّبِيِّ صلعم فِيهَا) هو مِن قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ} [النور:58] وقيل: إنَّ هذه الآية للنِّساء خاصَّةً. أي: إنَّ سبيل الرِّجال أن يستأذنوا في كلِّ وقتٍ، والنِّساء يستأذنَّ في هذه الأوقات خاصَّةً، حكاه النَّحَّاس.
          ثمَّ تَطوُّعه صلعم بهذه النَّوافل قبل الفرائض وبعدها لأنَّ أفضل الأوقات أوقات صلوات الفريضة، وفيها تُفتح أبواب السَّماء للدُّعاء، ويُقبل العمل الصالح، فلذلك تحيَّنها ◙ بالنَّوافل، وليس في حديث ابن عُمَرَ التنفُّل قبل العصر. وقد رُوي عن عليٍّ أنَّه صلعم: ((كان يُصَلِّي قبلها أربع ركعاتٍ يفصلُ بينها بسلامٍ)). وفي التِّرمذيِّ: ((رحم الله امرأً صلَّى قبل العصر أربعًا)). استغربه، وصحَّحه ابن حِبَّان.
          وقد اختلف السَّلف في ذلك، فكان بعضهم يُصَلِّي أربعًا، وبعضهم ركعتين، وبعضهم لا يرى الصَّلاة قبلها، فممن كان يُصَلِّي أربعًا عليٌّ، وقد رواه كما سلف. وقال إبراهيمُ: كانوا يحبُّون أربعًا قبل العصر. وممَّن كان يُصَلِّي ركعتين، روى سُفْيان وجريرٌ عن منصورٍ عن إبراهيمَ قال: كانوا يركعون الركعتين قبل العصر ولا يرون أنَّها مِن السُّنَّة، وممَّن كان لا يُصَلِّي فيها شيئًا روى قَتَادة، عن سعيد بن المسيِّب أنَّه: كان لا يُصَلِّي قبل العصر شيئًا. وقَتَادة عن الحسن مثل ذلك. وروى فُضَيلٌ عن منصورٍ عن إبراهيمَ أنَّه رأى إنسانًا يُصَلِّي قبل العصر، فقال: إنَّما العصر أربعٌ. والصَّواب عندنا _كما قال الطَّبريُّ_: أنَّ الفضل في التنفُّل قبل العصر بأربع ركعاتٍ لصِحَّة الخبر بذلك عن عليٍّ عن رسول الله صلعم ثمَّ ساقه مِن حديث عاصم بن ضَمرةَ عن عليٍّ قال: ((رأيتُ النَّبيَّ صلعم صلَّى أربع ركعاتٍ قبل العصر)).
          فأمَّا قول ابن عُمَرَ: (فَأَمَّا المَغْرِبُ وَالعِشَاءُ فَفِي بَيْتِهِ) فقد اختُلف في ذلك، فروى قومٌ مِن السلف منهم زيد بن ثابتٍ وعبدُ الرَّحمن بن عَوْفٍ أنَّهما كانا يركعان الركعتين بعد المغرب في بيوتهم.
          وقال العبَّاس بن سهل بن سعدٍ: لقد أدركت زمن عثمان وإنَّه ليسلِّم مِن المغرب فما أرى رجلًا واحدًا يُصَلِّيهما في المسجد، كانوا يبتدرون أبواب المسجد يصلُّونها في بيوتهم. وقال ميمونُ بن مِهْرانَ: كانوا يحبُّون الركعتين بعد المغرب، وكانوا يؤخِّرونها حتَّى تشتبك النُّجُوم.
          ورُوي عن طائفةٍ أنَّهم كانوا يتنفَّلُون النوافل كلَّها في بيوتهم دون المسجد. ورُوي عن عبيدَةَ أنَّه كان لا يُصَلِّي بعد الفريضة شيئًا حتَّى يأتي أهله. وقال الأعمش: مَا رأيته متطوِّعًا حياتَه في مسجدٍ إلَّا مرَّةً صلَّى بعد الظهر ركعتين.
          وكانت طائفةٌ لا تتنفَّل إلَّا في المسجد، روى عُبَيدُ الله عن نافعٍ عن ابن عُمَرَ أنَّه: كان يُصَلِّي سُبحته مكانه. وكان أبو مِجْلَزٍ يُصَلِّي بين الظهر والعصر في المسجد الأعظم. وروى ابن القاسم عن مالكٍ قال: التنفُّل في المسجد هو شأن الناس في النَّهار، وباللَّيل في بيوتهم. وهو قول الثَّوريِّ، وحُجَّة ذلك حديث حذيفةَ: ((صلَّيتُ مع رسول الله صلعم العشاءَ الآخرة، ثمَّ صلَّى حتَّى لم يبقَ في المسجد أحدٌ)). وعن سُفْيان بن جُبَيرٍ قال: ((كان النَّبيُّ صلعم يُصَلِّي بعد المغرب ركعتين، ويُصَلِّيهما حتَّى ينصدع أهل المسجد)).
          وإنَّما كره الصَّلاة في المسجد لئلَّا يرى جاهلٌ عالمًا يُصَلِّيها فيه فيراها فريضةً، أو كراهةَ أن يخلي منزَله مِن الصَّلاة فيه، أو حَذَرًا مِن الرياء، أو عارضٌ مِن خَطَرات الشيطان، فإذا سلِم مِن ذلك فإنَّ الصَّلاة فيه حسنةٌ، وقد بيَّن بعضهم علَّة كراهة مَن كرهه، مِن ذلك ما قاله مسروقٌ، قال: كنَّا نقرأ في المسجد فنقوم فنصلِّي في الصَّفِّ. قال عبيد الله: صلُّوا في بيوتكم لا يرونكم الناس فيرون أنَّها سنَّةٌ. قال الطَّبريُّ: والذي نقول: إنَّ حديثَ حُذيفةَ وسُفْيان بن جُبَيرٍ وقولَه: (صَلَاتُكُمْ فِيْ بُيُوْتِكُمْ / إِلَّا المَكْتُوبَةَ) هي صِحَاحٌ كلُّها، لا يَدْفَعُ شيءٌ منها شيئًا. وذلك نظير ما ثبت أنَّه صلعم كان يعمل العمل ليُتأسَّى به فيه، ثمَّ يعمل بخلافه في حالٍ آخر ليُعلَم بذلك مِن فعله أنَّ أمره بذلك على وجه الندب، وأنَّه غير واجبٍ العملُ به.