التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب تحريض النبي على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب

          ░5▒ بَابُ تَحْرِيضِ النَّبِيِّ صلعم عَلَى صَلاَةِ اللَّيْلِ وَالنَّوَافِلِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ، وطَرَقَ النَّبيُّ صلعم فاطمةَ وعليًّا ♂ ليلةً للصَّلاة.
          1126- 1127- 1128- 1129- ذَكَر فيه حديثَ أمِّ سَلَمَة: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم اسْتَيْقَظَ ليلةً فقَالَ: سُبْحَانَ اللهِ، مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيلةَ مِنَ الفِتَنِ؟...) الحديث.
          وحديث الزُّهريِّ: (أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ، أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ، أَخْبَرَهُ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ: أنَّه ◙ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ لَيْلَةً...) الحديث.
          وحديث عائشة: (أنَّه ◙ صَلَّى ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي المَسْجِدِ...) الحديث، وعنها (إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم لَيَدَعُ العَمَلَ...) إلى آخره.
          الشرح: أمَّا قوله: (وَطَرَقَ فَاطِمَةَ وَعَلِيًّا) قد أسنده في الباب.
          ومعنى (طَرَقَهُمَا): أتاهما ليلًا، هذا هو المشهور، وقيل: طرقه: أتاه.
          وقوله في الحديث: (لَيْلَةٍ) للتأكيد. وحكى ابن فارسٍ أنَّ طَرَق: أتى كما تقدَّم، فَعَلَى هذا يكون ليلًا، على البيان لوقت مجيئه أنَّه كان باللَّيل. وحديثُ أمِّ سَلَمة سلف في باب العلم، والعظة باللَّيل مِن كتاب العلم. وحديثُ عليٍّ يأتي في تفسير سورة الكهف في قوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54].
          وقوله فيه: (أَلاَ تُصَلِّيَانِ؟) أي: النَّافلة.
          وفيه: كراهة احتجاج عليٍّ، وأراد منه أن ينسِبَ نفسَه إلى التقصير.
          وفيه: أنَّ السكوتُ يكون جوابًا.
          وفيه: ضرب الفخِذ عند الوجَع والأسف.
          وفيه: تروعه بالقرآن، وسرعة الانصراف عمَّن كره مقالته، وحِفظُ عليٍّ لِمَا رأى منه، وبثُّه إيَّاه ليَتَأَسَّى به غيره، وقَبول خبر الواحد. وروايةُ الرجل عن أبيه عن جدِّه. وكان عليُّ بن الحسين يوم قُتل الحسين ابنَ سبعَ عشرة سنةً. ولمَّا أُمِر بقتل مَن أَنْبَتَ منهم قام إليه عمرو بن حُرَيثٍ فنظر إليه فوجده قد أنبت، فقال: لم يُنْبِت، فتُرِك. قال الزُّهريُّ: وما رأيت قرشيًا أفضل منه.
          وقوله: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) احتجَّ به مَن قال: الإنسانُ هاهنا عامٌّ في سائر الناس المؤمن والكافر، وقيل: هو الكافر خاصَّةً مثل: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2] فهذه أكثر مِن عشر فوائد معجَّلةٍ.
          وحديثُ عائشة: (إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم لَيَدَعُ العَمَلَ). أخرجه مسلمٌ. وفي بعض الروايات تقديم قولها: / (مَا سَبَّحَ رَسُولُ اللهِ صلعم...) إلى آخره على قولها: (إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم لَيَدَعُ العَمَلَ)، وحديثُها الآخَر سلَفَ في باب إذا كان بين الإمام والقوم حائطٌ وغيرُه.
          إذا تقرَّر ذلك، فالكلام على أحاديث الباب من أوجهٍ:
          أحدُها: قوله: (فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ) يحتمل وجهين _كما قال ابن الجوزيِّ_:أحدُهما: فيفرضه الله تعالى. والثاني: فيعملوا به اعتقادًا أنَّه مفروضٌ. وقال ابن بطَّالٍ: ظاهرُ حديث عائشةَ أنَّ مِن الفرائض ما يفرضه الله تعالى على العِباد مِن أجل رغبتهم فيها وحرصِهم، والأصولُ تردُّ هذا التوهُّم، وذلك أنَّ الله تعالى فَرَض على عباده الفرائض وهو عالمٌ بثقلها وشدَّتها عليهم، أراد محنتهم بذلك لتتمَّ الحُجَّة عليهم فقال: {وإنَّها لَكَبيرَةٌ إِلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ} [البقرة:45]، وحديثُ موسى ليلة الإسراء حين ردَّه مِن خمسين صلاةٍ إلى خمسٍ.
          قال: ويَحتمِل حديثُ عائشة _والله أعلم_ معنيين:
          أحدهما: أنَّه يمكن أن يكون هذا القول منه في وقتِ فرضِ قيام اللَّيل عليه دونَ أُمَّتِهِ، لقوله في الحديث الآخر: ((لم يمنعني مِن الخروج إليكم إلَّا أنِّي خشيت أن تُفرض عليكم))، فدلَّ على أنَّه كان فرضًا عليه وحدَه.
          وروى ابن عبَّاسٍ أنَّ قيامَ اللَّيل كان فرضًا عليه، فيكون معنى قول عائشة: (إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم لَيَدَعُ العَمَلَ). يعني: إنْ كان يدَعُ عمله لأمَّته، ودعاؤهم إلى فعله معه لا أنَّها أرادت أنَّه كان يدعُ العمل أصلًا وقد فرضه الله عليه، أو نَدَبَه إليه لأنَّه كان أتقى أُمَّتِه، وأشدَّهم اجتهادًا. أَلَا ترى أنَّه لَمَّا اجتمع الناسُ مِن اللَّيلة الثالثة أو الرابعة لم يخرج إليهم، ولا شكَّ أنَّه صلَّى حِزبَه تلك اللَّيلة في بيته، فخشي أن يخرُج إليهم، والتزموا معه صلاةَ اللَّيل أن يسوِّيَ الله ╡ بينه وبينهم في حكمِها، فيفرضَها عليهم مِن أَجْلِ أنَّها فرضٌ عليه، إذ المعهودُ في الشريعة مساواةُ حالِ الإمامِ والمأمومِ في الصَّلاة، فما كان منها فريضةً فالإمام والمأموم فيه سواءٌ، وكذلك ما كان منها سنَّةً أو نافلةً.
          الثاني: أن يكون خشي مِن مواظبتهم على صلاة اللَّيل معه أن يضعُفوا عنها فيكون مَن ترَكَهَا عاصيًا لله تعالى في مخالفته لنبيِّه وترْكِ اتِّباعه، متوعَّدًا بالعقاب على ذلك لأنَّ الله تعالى فرض اتِّباعَه فقال: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158] وقال في ترك اتِّباعه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63] فخَشِيَ على تاركها أن يكون كتارك ما فرض الله عليه لأنَّ طاعة الرسول كطاعته تعالى، وكان صلعم رفيقًا بالمؤمنين رحيمًا بهم. ويأتي في باب: ما يُكره مِن السؤال، في كتاب الاعتصام زيادةٌ إن شاء الله.
          وقال ابن التِّين _بعد أن ذكر السؤال في أنَّه كيف يجوز أن تُكتَب عليهم صلاةُ اللَّيل وقد أكمل الله عدد الفرائض وردَّ عدد الخمسين إلى الخمس؟_: قيل صلاةُ اللَّيل كانت مكتوبةً عليه، وأفعالُه التي تتَّصلُ بالشريعة واجبٌ على الأمَّة الاقتداءُ به فيها، وكان أصحابُه إذا رأوه يواظِب على فعلٍ في وقتٍ معلومٍ يقتدون به ويرونه واجبًا، فتَرَكَ الخروج إليهم في اللَّيلة الرابعة لئلَّا يدخلَ ذلك في حدِّ ما وجب، فالزيادةُ إنَّما يتصل وجوبُها عليهم مِن جهة وجوبِ الاقتداءِ بأفعالِه لا مِن جهة ابتداءِ فرضٍ زائدٍ على الخَمْس، وهذا كما يوجِب المرءُ على نفسه صلاةَ نذرٍ فتجبُ عليه، ولا يدلُّ ذلك على زيادةِ فرضٍ في جُملةِ الشرع المفروض في الأصل.
          وجوابٌ ثانٍ: وهو أنَّ الله فَرَض الصَّلاة خمسين ثمَّ حطَّ معظَمهما بشفاعة نبيِّه وجعلَ عزائمها خمسًا، فإذا عادت الأمَّةُ فيما استوهَبت والتزمَت متبرِّعةً ما كانت استعْفَتْ منه لم يُستنكَر ثبوتُه فرْضًا عليهم. وقد ذكر الله تعالى فريقًا مِن النَّصارى ابتدعوا رهبانيةً {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}، ثم لامَهُم لَمَّا قصَّروا فيها في قوله: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27]، فخشي الشَّارع أن يكونوا مثلَهم فقَطع العمل شفقةً على أُمَّتِهِ. وأجاب عن أمرِه أبا هُرَيرةَ بالضُّحَى والوصايةِ بها مِن وجهين:
          أحدهما: أنَّه أفرده به وَعَلِم أنَّه لا يُثابِر عليه الصَّحابة كمداومة أبي هُرَيرةَ عليه، فأمِن الافتراض به. قلتُ: لم يُفردْه به، بل شاركه فيه أبو ذرٍّ وأبو الدَّرداء كما سلف.
          والثاني: أنْ يكون أوصاه بالمداومة عليها بعد موته صلعم، وهو وقت يُؤمَن فيه الافتراض. قال الدَّاوديُّ: وفي تخلُّفِه لئلَّا يُفرَض عليهم: الفرارُ مِن قدر الله.
          وفيه: صلاة النَّافلة جماعةً، والجمعُ في المسجد ليلًا.
          وقولها: (وَمَا سَبَّحَ رَسُولُ اللهِ صلعم سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا). كذا ثبت مِن حديث عُرْوةَ عنها، والسُّبحة _بضمِّ السين_ النَّافلة. وقيل: الصَّلاة. قال تعالى: {فَلَوْلَا أنَّه كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات:143]. قال المفسِّرون: مِن المصلِّين. وفي مسلمٍ عنها مِن طريق عبد الله بن شَقِيقٍ لَمَّا سُئِلت: ((أكان رسول الله صلعم يُصَلِّي الضُّحَى؟ فقالت: لا، إلَّا أن يجيءَ مِن مغيبِه)). وفيه عن مُعاذة عنها مِن حديث قَتَادة وغيره: ((كان رسولُ الله صلعم يُصَلِّي الضُّحَى أربعًا ويزيد ما شاءَ)). وفي روايةٍ: ((ما شاءَ اللهُ)).
          والمراد بالنفي في الأوَّل: في علمِها، وإثباتها لسببٍ _وهو المجيء مِن السَّفر_، فلا تَعارُضَ. وقولُ النَّسائيِّ: خالفها عُروة وعبد الله بن سُفْيان. وليس الأمر على ما ذهب إليه، لأنَّ عُروة إنَّما روى عنها نفي صلاة الضُّحَى لغير سببٍ. ورواية معاذةَ عنها أنَّه صلَّاها لسببٍ، وذلك إذا قَدِم مِن سفرٍ أو غيره كما سلف في الرواية الأخرى، نبَّه على ذلك ابن التِّين.
          وقال ابن الجوزيِّ: رواية إثباتها مقدَّمة على نفيها. وقال ابن عبد البَرِّ: وأمَّا قولها: (مَا سَبَّحَ سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ) فهو: أنَّ مَن علِم مِن السُّنن عِلْمًا خاصًّا يُؤخذ به عند بعض أهل العلم دون بعضٍ، فليس لأحدٍ مِن الصَّحابة إلَّا وقد فاتَه مِن الحديث ما أحصاه غيره، والإحاطةُ ممتنعة، وإنَّما حصل المتأخِّرون على / علم ذلك منذ صار العلم في الكتب، وقد رُوي عن النَّبيِّ صلعم آثارٌ كثيرة حِسَانٌ في صلاة الضُّحَى. وذَكَر حديث أمِّ هانئٍ، ثمَّ ذكر طريقًا منه مِن حديث أبي الزُّبير عن عكرمةَ بن خالدٍ عن أمِّ هانئٍ أنَّها قالت: قدِم رسول الله صلعم مكَّة، فصلَّى ثماني ركعاتٍ، فقلت: يا رسول الله، ما هذه الصَّلاة؟ قال: ((صلاةُ الضُّحَى))، ثمَّ قال: أَلَا ترى أنَّ أمَّ هانئٍ قد علِمت مِن صلاة الضُّحَى ما جهلت عائشة؟ وأين أمُّ هانئٍ في الفقه والعلم مِن عائشة!
          ثم أَوْرَدَ أيضًا حديث أبي ذرٍّ: ((يصبح على كلِّ سُلامَى مِن ابن آدمَ صدقة)) وفيه: ((ويجزئ مِن كلٍّ ركعتان يركعهما مِن الضُّحَى)) أخرجه مسلمٌ وأبو داودَ، وأوصى أبا ذرٍّ وأبا الدَّرداء وأبا هُرَيرةَ بركعتي الضُّحَى، ثمَّ روى حديث معاذ بن أنسٍ في ذلك، وإسناده ليِّنٌ ضعيفٌ، مِن حديث نعيم بن همَّارٍ فيه، فهؤلاء كلُّهم قد عرفوا مِن صلاة الضُّحَى ما جهِلَه غيرُهم.
          وذَكَر أيضًا حديث عِتْبَانَ بن مالكٍ: أنَّه صلعم ((صلى في بيته سُبْحَة الضُّحَى، وقاموا ورءاه فصلُّوا)). ثمَّ قال: وقد كان الزُّهريُّ يفتي بحديث عائشة ويقول: إنَّ رسول الله صلعم لم يُصَلِّ الضُّحَى قطُّ، وإنَّما كان أصحاب رسول الله صلعم يصلُّونها بالهواجر، ولم يكن عبد الرَّحمن بن عَوْفٍ وابن مسعودٍ وابن عُمَرَ يصلُّونها ولا يعرفونها. قال ابن عُمَرَ: وإنَّما صلاةُ القوم باللَّيل. وقال طاوسٌ: أوَّلُ مَن صلَّاها الأعراب. وقال ابن عُمَرَ: ما صلَّيتُها منذ أسلمت. أخرجه عبد الرزَّاق. وروى مَعْمَر عن الزُّهريِّ عن سالمٍ عن أبيه قال: لقد قُتل عثمانُ وما أحدٌ يُسبِّحُها، وما أحدثَ النَّاسُ شيئًا أحبَّ إليَّ منها، وهذا نحوُ قول عائِشَةَ.
          ثمَّ ذكر حديث معاذةَ عنها في صلاتها وقال: إنَّه منكرٌ غير صحيحٍ عندي. وهو مردودٌ، وقد علمتَ أنَّ مسلمًا أخرجه.
          وجمع النَّوويُّ بين حديث إثباتها ونفيِها أنَّه: كان يُصَلِّيها وقتًا ويتركُها وقتًا خشية الافتراض كما ذكرت عائشة ويُتأوَّلُ قولها: ((ما كان يُصَلِّيها إلَّا أن يجيء مِن مغيبه)): على أنَّ معناه: ما رأيتُه، كما قالت في الرواية الثانية: ((ما رأيته يُصَلِّي سُبحة الضُّحَى)).
          وسببُه أنَّه صلعم ما كان يكون عند عائشة في وقت الضُّحَى إلَّا في نادرٍ مِن الأوقات، فإمَّا مسافرٌ أو حاضرٌ في المسجد أو غيره أو عند بعض نسائه، ومتى يأتي يومها بعد تسعةٍ، فيصحُّ قولها: ((مَا رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهَا)). وتكون قد علِمَتْ بخبره أو بخبرِ غيره أنَّه صلَّاها. أو المراد بما يُصَلِّيها: ما يداومُ عليها. فيكون نفيًا للمداومة لا لأصلها، قال: وأما ما صحَّ عن ابن عُمَرَ قال في الضُّحَى: هي بدعةٌ. فمحمولٌ على أنَّ صلاتها في المسجد والتظاهرَ بها كما كانوا يفعلونه بدعةٌ، لأنَّ أصلَها في البيوت ونحوِها. أو يُقال: قوله: بدعةٌ. أي: المواظبة عليها لأنَّ الشَّارع لم يواظب عليها خشيةَ أن تُفرض، وهذا في حقِّه.
          وقد ثبت استحبابُ المحافظة عليها في حقِّنا بحديث أبي الدَّرداء وأبي ذرٍّ وأبي هُرَيرةَ. ويُقال: إن ابن عُمَرَ لم يبلغه فعلُ رسول الله صلعم لها وأمرُه بها، وكيفما كان فالجمهور على استحبابها، ولربَّما نُقِلَ التوقُّفُ عن ابن عُمَرَ وابن مسعودٍ.
          وذكر المنذريُّ وجهًا آخر فقال: ويُجمع بينهما بأنَّها أنكرت صلاة الضُّحَى المعهودة حينئذٍ عند النَّاس على الذي اختاره مِن السَّلف مِن صلاتِها ثماني ركعاتٍ، وأنَّه صلعم كان يُصَلِّيها أربعًا ويزيدُ ما شاء، فيُصَلِّيها مرَّةً ستًّا ومرَّةً ثمانيًا، وأقلُّ ما تكون ركعتين، وقد رأى جماعةٌ صلاتَها في بعض الأيَّام دون بعضٍ ليخالف بينَها وبين الفرائض. وقال عياض: إنَّه الأشبه عندي في الجمع.
          وقال القُرْطبيُّ: يحتمل أن يُقال: إنَّما أنكرت الاجتماعَ لها في المسجد _أي: وإنما سُنَّتُها البيتُ_ وهو الذي قال فيه عُمر: بدعةٌ. قال: وقد رُوي عن أبي بكرٍ وعُمَرَ وابن مسعودٍ أنَّهم كانوا لا يصلُّونها. قال: وهذا إن صحَّ فمحمولٌ على أنَّهم خافوا أن تُتَّخذ سنَّة، أو يَظُنَّ بعض الجُهَّال وجوبَها، ويحتمل أنَّها بدعةٌ أي: حسنة. كما قال في قيام رمضان. وقد رُوي عنه: ما ابتدع المسلمون بدعةً أفضل مِن صلاة الضُّحَى. وهذا منه نصٌّ على ما تأوَّلْناه.
          قال: وقولُ عائشة: (وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا) بالسين المهملة والباء الموحَّدة، وهي الرواية المشهورة، أي: لأفعلها. قلتُ: وفي «الموطَّأ»: كما عزاه ابن الأثير: أنَّها كانت تصلِّيها ثماني ركعاتٍ: ورُوِيَ عنها: لو نُشِر إلَيَّ أبواي مِن قَبرهما ما تركتها. قال وقد وقع في «الموطَّأ»: لأستحِبُّها. مِن الاستحباب، والأوَّلُ أولى.
          ولعلَّها سمعتْ مِن النَّبيِّ صلعم الحضَّ عليها، وأنَّه إنَّما تركها _يعني: المداومةَ عليها_ لأجل ما ذكرتُه قبلُ، وهذا يُشكِل على ما صحَّحه أصحابنا مِن أنَّ الضُّحَى كانت واجبةً عليه وعلى أُمَّته، ومِن شأنَّه أنَّه إذا عمِلَ عملًا أَثبَتَه.
          فرع: وأوَّل وقتِها ارتفاعُ الشَّمس، وآخرُه ما لم تزُل الشَّمس، وأفضلُ وقتها ربع النَّهار، كما قاله الغزاليُّ في «الإحياء» والماورديُّ، وهو حين تَرمَض الفِصَال، وعند الأكثرين: أكثرُها ثمانيةٌ.
          وقال الرُّوْيَانِيُّ والرَّافعيُّ وغيرهما: أكثرُها اثنتا عشرة ركعة، وفيه حديثٌ ضعيفٌ.
          قال المهلَّب: في حديث عائشةَ أنَّ قيام رمضان بإمامٍ ومأمومين سنَّةٌ لأنَّه صلعم صلَّى بصلاته نَاسٌ ائتمُّوا به، وهذا خلافُ مَن أَزْرَى فقال: سخَّره عمر. ولم يتقِ الله في مقالتِه ولا صدَق، لأنَّ الناس كانوا يُصلُّون لأنفسهم أفذاذًا، وإنما فَعَل عمر التخفيفَ عنهم فجَمَعَهم على قارئٍ واحدٍ يكفيهم القراءة ويُفرِّغهم للتدبُّرِ.
          واحتجَّ قومٌ مِن الفقهاء بقعوده صلعم عن الخروج إلى أصحابه اللَّيلةَ الثالثة أو الرابعة وقالوا: إنَّ صلاة رمضان في البيت أفضلُ للمنفرد مِن فعلِها في المسجد. منهم مالكٌ / وأبو يوسفَ والشافعيُّ، وقال مالكٌ: كان ربيعةُ وغيرُ واحدٍ مِن علمائنا ينصرفون ولا يقومون مع الناس، وأنا أفعل ذلك، وما قام صلعم إلَّا في بيته. وذكرَ ابن أبي شَيْبَةَ عن ابن عُمَرَ وسالمٍ وعلقمَةَ والأسودِ أنَّهم كانوا لا يقومون مع الناس في رمضان. وقال الحسن البصريُّ: لأَنْ تَفَوَّهُ بالقرآن أحبُّ إليك مِن أن يُفَاهَ عليك.
          ومِن الحُجَّة لهم أيضًا: حديثُ زيد بن ثابتٍ أنَّه صلعم حين لم يخرُج إليهم قال لهم: ((إنِّي خشيت أن تُفرَض عليكم، فصلُّوا أيُّها النَّاس في بيوتكم، فإنَّ أفضلَ صلاة المرء في بيته إلَّا المكتوبةَ)) أخرجه مسلمٌ، فأخبر أنَّ التَّطوُّعَ في البيت أفضلُ منه في المسجد لا سيما مع رسول الله صلعم في مسجده.
          وخالفهم آخرون فقالوا: صلاتُها في الجماعة أفضل. قال الليث: لو أنَّ الناس في رمضان قاموا لأنفسهم وأهليهم حتَّى تُتْرَك المساجد حتَّى لا يُقام فيها، لَكَان ينبغي أن يخرُجُوا إلى المسجد حتَّى يقوموا فيه. لأنَّ قيام اللَّيل في رمضان الأمرُ الذي لا ينبغي تركه، وهو ممَّا سَنَّ الفاروقُ للمسلمين وجَمَعَهم عليه. وذكر ابن أبي شَيْبَةَ عن عبد الله بن السَّائب قال: كنتُ أصلِّي بالنَّاس في رمضان، فبينَا أنا أصلِّي سمعت تكبيرَ عمرَ على باب المسجد _قَدِمَ معتمرًا_ فدخل فصلَّى خلفي. وكان ابنُ سيرينَ يُصَلِّي مع الجماعة، وكان طاوسٌ يُصَلِّي لنفسه ويركع ويسجُد معهم.
          وقال أحمد: كان جابرٌ يُصَلِّيها في جماعةٍ. ورُوي عن عليٍّ وابن مسعودٍ مثلُ ذلك، وهو قول محمَّد بن عبد الحكم، وممَّن قال: إنَّ الجماعةَ أفضلُ: عيسى بن أَبَان والمزنيُّ وبكَّار بن قتيبةَ وأحمدُ بن أبي عِمْرانَ.
          واحتجَّ أحمد في ذلك بحديث أبي ذرٍّ: ((أنَّه صلعم خرج لَمَّا بقي مِن الشهر سبعٌ فصلَّى بهم حتَّى مضى ثلث اللَّيل، ثمَّ لم يصلِّ بنا السَّادسة، ثمَّ خرج اللَّيلة الخامسة فصلَّى بنا حتَّى مضى شطر اللَّيل، فقلنا: يا رسول الله، لو نفَّلتنا. فقال:إن القوم إذا صلَّوا مع الإمام حتى ينصرف كُتِب لهم قيامُ تلك اللَّيلة ثمَّ خرج اللَّيلة السَّابعة وخرجْنا، وخرج بأهله حتَّى خشينا أن يفوتَنا الفلاح، وهو السُّحور)). أخرجه ابن أبي شَيْبَةَ. وكلُّ مَن اختار الانفراد فينبغي أن يكون ذلك على ألَّا ينقطع معه القيام في المسجد، كما نبَّه عليه الطَّحاويُّ، فأمَّا الذي ينقطع منه ذلك فلا.
          قال: وقد أجمعوا على أنَّه لا يجوز تعطيلُ المساجد عن قيام رمضان، فصار هذا القيامُ واجبًا على الكفاية، فمَن فَعَلَه كان أفضلَ ممَّن انفرد، كالفروض التي على الكفاية، أمَّا الذين لا يقِرُّون ولا يَقْوون على القيام فالأفضل لهم حضورُها ليسمعوا القرآن وتحصُل لهم الصَّلاة، ويقيموا السنَّةَ التي قد صارت عَلَمًا. ذكره ابن القصَّار، وهو مقالةٌ عندنا.
          وفي حديث أمِّ سَلَمةَ وعليٍّ _السالفين أوَّلَ الباب_ دَلالةٌ على فضل صلاة اللَّيل، وإنباهِ النائمين مِن الأهل والقرابة لأنَّه صلعم أيقظ لها عليًّا وابنتَه مِن نومهما حَثًّا لهما على ذلك في وقتٍ جعله الله تعالى لخلقه سَكَنًا لَمَّا عَلِم عظيمَ ثواب الله تعالى عليها، وشرُفت عنده منازل أصحابها اختار لهم إحرازَ فضلِها على السُّكون والدَّعة، وأيقظهنَّ ليُخبرهنَّ بما أُنزل ليزدادوا خشوعًا ولِيُصلُّوا ليلًا. قالت عائشة: ((وإذا أراد أن يُوتر أيقظني)).
          وفيه: السَّمر بالعلم. وفي حديث عليٍّ رجوع المرء عمَّا نُدب إليه إذا لم يوجَب ذلك، وأنَّه ليس للعالم والإمام أن يُشدِّد في النوافل.
          وقوله: (أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللهِ) كلامٌ صحيحٌ قنع به ◙ مِن العذر في النَّافلة ولا يُعذَر بمثل هذا في الفرض، وقوله: (أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللهِ) هو كقول بلالٍ: أخَذَ بنفسي الذي أخَذَ بنفسك. وهو معنى قوله تعالى: {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ}الآية[الزمر:42]. أي إنَّ نفس النائم ممسَكةٌ بيد الله، وأنَّ التي في اليقظة مرسَلَةٌ إلى جسدها غيرُ خارجةٍ مِن قدرة الله، فقنع صلعم بذلك وانصرف.
          وأمَّا ضرْبُه فخذَه وقوله: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54]، فإنَّه ظنَّ أنَّه أحرَجَهم وندم على إنباهِهِم، وكذلك لا يُحرَج النَّاسُ إذا حُضُّوا على النوافل ولا يُضَيَّقُ عليهم، وإنما يُذكَّروا في ذلك ويُشار عليهم.
          وقوله: (مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيلةَ مِنَ الفِتَنِ، وَمِنَ الخَزَائِنِ) قاله لَمَّا أَعلَمه ربُّه تعالى بوحيه بأنَّه يَفتَح على أمَّته مِن الغِنى والخزائن، وعرَّفه أنَّ الفتن مقرونةٌ بها بعدَه مخوفةٌ على مَن فُتحت عليه، ولذلك آثر كثير مِن السلف القلَّةَ على الغنى خوفَ التعرُّض لفتنة المال، وقد استعاذ الشَّارع صلعم مِن فتنته كما استعاذ مِن فتنة الفقر.
          و(صَوَاحِبَ الحُجُرَاتِ) أزواجُه. يعني: مَن يوقظهنَّ لصلاة اللَّيل؟ وهو دالٌّ على أنَّ الصَّلاة تُنجي مِن شرِّ الفتن ويُعتصم بها مِن المحن.
          وقوله: (كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ) يريد: كاسيةٍ بالثياب الواصفة لأجسامهنَّ لغير أزواجهنَّ، ومَن يَحرُم عليه النظر إلى ذلك منهنَّ، وهنَّ عارياتٌ في الحقيقة، فربَّما عُوقبت في الآخرة بالتعرِّي الذي كانت إليه مائلةً في الدُّنيا مباهيةً بحسنِها، فعرَف صلعم أنَّ الصَّلاة تعصِم مِن شرِّ ذلك، وقد فسَّر مالكٌ: أنَّهنَّ لابساتٌ رقيق الثِّياب، وقد يحتمل _كما قال ابن بطَّالٍ:_ أن يريد صلعم بذلك النَّهيَ عن لُبس رقيق الثياب واصفًا كان أو غير واصفٍ خشيةَ الفتنة. وقال ابن التِّين: يحتمل وجهين: أن تكون ناعمةً في الدنيا عُجِّلت لها جنَّتُها وتكونَ عاريةً يوم القيامة في الموقف والنار، أو في الموقفِ ثمَّ تصيرُ إلى رحمة الله، وأن تكون كاسيةً عند نفسها عاريةً عند الناس للباسها ما يَصِفُ، كالغلائل ونحوِها، وما يشِفُّ كالثوب الرقيق الصفر يلصَق بالبدن فلا يخفى عن الناظر شيءٌ، وهي عاريةٌ لظهور محاسنها، وقيل: كاسياتٍ مِن النعم عارياتٍ مِن الشكر. وقيل: إنَّهنَّ يكشفن بعضَ أجسادهنَّ، ويشدُدْن الخُمُر مِن ورائهنَّ فتنكشفُ صدورُهن فكُنَّ كالعاريات، ولا تَستُرُ جميعَ أجسادهنَّ، وقد بسطنا الكلامَ على هذا في كتاب العلم، وأعدناه لطول العهد به، وسيأتي لنا عودة إلى هذا في باب: لا يأتي زمان إلَّا والذي بعده شرٌّ منه، مِن كتاب الفتن.
          وقوله / في أوَّله: (سُبْحَانَ اللهِ) هو تعظيمٌ لِمَا رأى، وتنبيهٌ أنَّ مَن سمِعه إذا صيح به التفتَ، ومعنى: (سُبْحَانَ اللهِ): تنزيهُه وبراءتُه مِن السوء، وقد سلف.