التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من نام عند السحر

          ░7▒ بابُ مَنْ نَامَ عِنْدَ السَّحَرِ.
          1131- 1132- 1133- ذَكَرَ فيه حديثَ عبدِ الله بنِ عَمْرو: (أنَّ رَسُولَ الله صلعم قَالَ لَه: أَحَبُّ الصَّلاة إِلَى اللهِ صَلاَةُ دَاوُدَ ◙، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيل وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا).
          وحديث مسروقٍ: (سَأَلتُ عَائِشَةَ: أَيُّ العَمَلِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صلعم؟ قَالَتْ: الدَّائِمُ، قُلْتُ: مَتَى كَانَ يَقُومُ؟ قَالَتْ: يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ).
          وحدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الأَحْوَصِ _واسمُه سَلَّامُ بنُ سُلَيْم الحَنَفِيُّ، مَاتَ هُوَ وَمَالكٌ وحَمَّادُ بنُ زَيْدٍ وَخَالِد الطَّحَّانُ سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائة_ عَنِ الأَشْعَثِ، قَالَ: (إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ قَامَ فَصَلَّى). قلتُ: والصارخُ: الدِّيك.
          وحديث عائشَةَ قالت: (مَا أَلْفَاهُ السَّحَرُ عِنْدِي إِلَّا نَائِمًا. تَعْنِي النَّبِيَّ صلعم).
          الشرح: أمَّا حديث عبد الله بن عَمرو فأخرجه مسلمٌ، والأربعة أيضًا مختصرًا ومطوَّلًا. وكرَّره البخاريُّ قريبًا في باب حقِّ الضَّيف حدَّثنا إسحاق وهو ابن رَاهُوَيه كما صرَّح به أبو نُعَيمٍ، وقال الجيَّانيُّ: لم ينسِبْه أبو نصرٍ ولا غيُره مِن شيوخنا. وفي الصُّوم في مواضعَ ستَّةٍ، وفي أحاديث الأنبياء في موضعين والنِّكاح والأدب وفضائل القرآن والاستئذان.
          وذكر عبد الحقِّ في «أحكامه» أنَّ عطاءً رواه عن عبد الله بن عمرٍو، وهو خطأٌ بينهُما السائب بن فَرُّوخ كما أخرجه مسلمٌ. وعطاءٌ هذا هو ابن أبي رَباحٍ، صرَّح به المزِّيُّ، وذكر الطَّرْقيُّ أنَّه ابن السائب.
          ورَروى البزَّار منه: ((وكان لا يَفِرُّ إذا لاقَى)) مِن حديث الحَجَّاج بن أرطأةَ عن عطاءٍ عن عبد الله بن عَمرو، كذا أخرجه الطَّبرانيُّ مِن طريق حجَّاجٍ عن عطاءٍ، ومِن طريق الأوزاعيِّ عن عطاءٍ عنه.
          قال القُرْطبيُّ: ظنَّ مَن لا بصيرة عنده أنَّه حديثٌ مضطربٌ، وليس كذلك فإنَّه إذا تُتُبِّع اختلافُه، وضُمَّ بعضُه إلى بعض انتظمت صورتُه، وتناسب مساقُه إذْ ليس فيه اختلافٌ وتناقضٌ، بل يرجع اختلافُه إلى أنْ ذَكَر بعضُهم ما سكت عنه غيره، وفصَّل بعضَ ما أجملَه غيره. وحديث عائِشَةَ الأوَّل أخرجه أيضًا في الرِّقاق. وأخرجه مسلمٌ وأبو داودَ أيضًا. و(أَشْعَث) في إسناده هو ابن أبي الشَّعثاء سُلَيم بن أسودَ. وشيخ البخاريِّ فيه (محمَّد) قد أسلفنا أنَّه ابن سَلَام، وكذا نسَبَه ابن السَّكَن. قال الجيَّانيُّ: وفي نسخة أبي ذرٍّ، عن أبي أحمد الحمويِّ: <حدَّثنا محمَّد بن سالمٍ>.
          وقال أبو الوليد الباجيُّ: محمَّد بن سالمٍ ذكر البخاريَّ، وساقَ الحديث: حدَّثنا محمَّد بن سالمٍ _وعلى سالم علامةُ الحمويِّ_ قال: وسألتُ عنه أبا ذرٍّ فقال: أراه ابنَ سَلَام، وسها فيه أبو محمَّد الحمويُّ ولا أعلم في طبقة شيوخ البخاريٍّ محمَّد بن سالمٍ.
          ورواه الإسماعيليُّ عن محمَّد بن يحيى المروزيِّ، حدَّثنا خلفُ بن هشامٍ، حدَّثنا أبو الأحوص، عن أشعثَ عن أبيه عن مسروقٍ، أو الأسود قال: سألتُ عائشة.. الحديث. ثم قال: لم يذكر البخاريُّ بعد أشعث في هذا الوجه. وفي رواية أبي داودَ: ((كان إِذَا سَمِعَ الصَّرَّاخَ قَامَ فَصَلَّى)).
          وذكر أبو نُعَيمٍ أنَّ البخاريَّ رواه عن عبدان عن ابن المبارك عن شُعْبَةَ. والذي في البخاريِّ: عَبدان، عن أبيه عن شُعْبَةَ فاعلمه. وحديثُها الآخر أخرجه مسلمُ وأبو داودَ وابن ماجه.
          إذا عرفت ذلك فالكلام عليها مِن أوجهٍ:
          أحدها: / قوله: (أَحَبُّ الصَّلاة إِلَى اللهِ صَلاَةُ دَاوُدَ) يريد لمن عَدَا النبيِّ صلعم لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيل إِلَّا قَلِيلًا} الآيات [المزمل:1-2]. وقد سلَفَ أنَّ هذا الأفضل لمن قسَّمَ اللَّيل أسداسًا. وفي «لُباب المحامليِّ»: وإن صلَّى بعض اللَّيل، فأيُّ وقتٍ أفضل؟
          فيه قولان: أحدهما: أن يُصَلِّي جوفَ اللَّيل. والثاني: وقتُ السَّحَر ليُصَلِّي به صلاة الفجر، وهو غريبٌ.
          وقوله: (وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى الله صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا) ظاهرُه أنَّه أفضلُ مِن صوم الدَّهر عند عدم التَّضرُّر، وقد صرَّح به بعض أصحابنا، ولا شكَّ أنَّ المكلَّف لم يُتَعبَّد بالصيام خاصَّةً، بل به وبالحجِّ والجهاد وغير ذلك. فإذا استفرغ جَهْدَه في الصوم خاصَّةً انقطعت قُرَبُه، وبطلت سائر العبادات، فأُمِر أن يستبقي قُوَّتَه لها. وبيَّن ذلك في الحديث الآخر في قِصَّة داود: ((وَكَانَ لاَ يَفِرُّ إِذَا لاَقَى)). وبيَّن ذلك لعبد الله بن عمرٍو فقال: ((إِنَّكَ إِذَا قُمْتَ اللَّيل _يريد كلَّه_ هَجَمَتْ لَهُ العَيْنُ، وَنَفِهَتْ لَهُ النَّفْسُ، لاَ صَامَ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ))، وقيل: النهيُ لمن صام الأيامَ المنهيَّ عنها، وقيل في قوله: ((لاَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ)) بالنسبة إلى المخاطَب لِمَا عَلِمَ مِن حالِه ومنتهى قُوَّته، وأنَّ ما هو أكثر مِن ذلك يُضعِفُه عن فرائضه، ويَقعُد به عن حقوق نفسه.
          الثاني: وَجْهُ ترجمة البخاريِّ مِن هذا الحديث: نومُ داود السُّدُسَ الأخير وقامَ ثلثه وهو الوقت الذي يُنادَى فيه: هل مِن سائلٍ؟ هل من مستغفرٍ؟ هل من تائبٍ؟ ونومه السدس الأخير ليستريح مِن نَصَب القيام السابق. ووجه كونها أحبُّ لأنَّها أرفَق على النفس وأبعَدُ مِن الملل المؤدِّي إلى الترك، والله يحبُّ أن يديم فضْلَه ويوالي نِعَمه أبدًا، وقد قال صلعم: ((إن الله لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا)) يعني: أنَّه لا يقطع المجازاة على العبادة حتَّى تقطعوا العمل، فأخرج لفظ المجازاة بلفظ الفِعْل، لأن الملل غيرُ جائزٍ على الربِّ جلَّ جلاله، ولا هو مِن صفاته، ووجه كون أحبِّ العمل إليه الدائمُ لأنَّ مع الدوام على العمل القليلِ يكونُ العملُ كثيرًا، وإذا تكلَّف المشقَّةَ في العمل انقطع عنه وتركَهُ فكان أقلَّ.
          الثالث: قولها: (كَانَ يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ) هو نحوٌّ مِن قول ابن عبَّاسٍ: نصفَ اللَّيل أو قبلَه بقليل أو بعدَه بقليلٍ، كذا قاله ابن التِّين. وقال ابن بطَّالٍ: هذا في حدود الثلُث الآخر ليتحرَّى وقت نزولِ الربِّ تعالى: أي أمْرَهُ.
          وقولها: (مَا أَلْفَاهُ السَّحَرُ عِنْدِي إِلَّا نَائِمًا) أي: مضطجعًا على جنبه، لأنَّها قالت في حديثٍ آخر: ((فإن كنتُ يقظانةً حدَّثَني، وإلَّا اضطجع حتَّى يأتيه المنادي للصَّلاة))، فتحصُلُ بالضِّجْعة الراحةُ مِن نَصَب القيام، ولِمَا يستقبلُه مِن طول صلاة الصبح ولذلك كان ينام عند السَّحَر. وهذا كان يفعله صلعم في الليالي الطِّوال وفي غير شهرِ رمضان لأنَّه قد ثبت عنه تأخير السُّحور على ما يأتي في الباب بعده.