التوضيح لشرح الجامع البخاري

حديث: كانَ النبي يقرؤهن اثنين اثنين في كل ركعة

          4996- الحديث الرَّابع: حديث أَبِي حَمْزَةَ، واسمُه مُحمَّد بن ميمون السُّكَّريِّ المَرْوَزيُّ: (عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ عَبْدُ اللهِ: لقَدْ عَلِمْتُ النَّظَائِرَ الَّتي كَانَ النَّبِيُّ صلعم يَقْرَؤُهُنَّ اثْنَيْنِ اثْنِيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، فَقَامَ عَبْدُ اللهِ وَدَخَلَ مَعَهُ عَلْقَمَةُ، وَخَرَجَ عَلْقَمَةُ فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ: عِشْرُونَ سُورَةً مِنْ أَوَّلِ المُفَصَّل عَلَى تَأْلِيفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، آخِرُهُنَّ مِنَ الحَوَامِيمُ {حم} [الدخان:2] الدُّخَانُ و{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1]).
          سلف أيضًا [خ¦775]، قَالَ الدَّاوُديُّ في قوله: (لقَدْ عَلِمْتُ النَّظَائِرَ...) إلى آخره، يريد في صلاة الصُّبح، قَالَ: وكان يقرأ الجاثية في الأولى، و{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} في الثَّانية، والأحقاف في الأولى مِنَ اليوم الثَّاني، والمرسلات في الثَّانية، ثُمَّ كذلك إلى عشرين صلاةً، ثُمَّ يرجع إلى ذلك في أكثر أحواله، والَّذي تأوَّل البُخاريُّ وغيرُه أنَّه كان يقرأ سورتين في كلِّ ركعةٍ، وقد بوَّب عليه كذلك في الصَّلاة، وأجازه مالكٌ في «مختصر ابن عبد الحكم».
          وقوله: (عِشْرُونَ سُورَةً مِنْ أَوَّلِ المُفَصَّلِ...) إلى آخره، ظاهرُهُ أنَّ الدُّخان مِنَ المفصَّل، والمذكور عن ابن مسعودٍ أنَّ أوَّل المفصَّل الجاثية، ذكرَه الدَّاوُديُّ، وعنه في البُخاريِّ أنَّ أوَّله القتال، وعند العامَّة أنَّه السُّبع الآخر، وعن ابن مسعودٍ أنَّه السُّدس الآخر، وهو دالٌّ على أنَّ أوَّله الأحقاف، وقيل: أوَّله {ق}، وقيل غير ذلك.
          وقوله: (عَلَى تَأْلِيفِ ابْنِ مَسْعُودٍ) صحيحٌ لأنَّها على تأليف القرآن خمسٌ وثلاثون سورةً مِنَ الدُّخان إلى {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ}، فتأليف ابن مسعودٍ شيءٌ آخر.
          فصلٌ: قد اختُلف في ترتيب سور القرآن، فمنهم مَنْ كتب في مصحفه السُّور على تاريخ نزولها، وقدَّم المكِّيَّ على المدنيِّ، ومنهم مَنْ جعل في أوَّل مصحفِه {الْحَمْدُ}، ومنهم مَنْ جعل في أوَّله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1]، وهذا أوَّل مصحف عليٍّ، وأمَّا مصحفُ ابن مسعودٍ فإنَّ أوَّله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] ثُمَّ البقرة، ثُمَّ النِّساء على ترتيبٍ مختلفٍ رواه طلحة بن مُصَرِّفٍ عن يحيى بن وثَّابٍ عن علقمة عنه، ومصحفُ أُبيٍّ كان أوَّله {الْحَمْدُ} ثُمَّ البقرة، ثُمَّ النِّساء ثُمَّ آل عمران ثُمَّ الأنعام ثُمَّ الأعراف ثُمَّ المائدة كذلك على اختلافٍ شديدٍ، وأجاب القاضي أبو بكر بن الطَّيِّب بأنَّه يحتمل أن يكون ترتيب السُّور على ما هي عليه اليوم في المصحف كان على وجه الاجتهاد مِنَ الصَّحابة، وقد قَالَ قومٌ مِنْ أهل العلم: إنَّ تأليف السُّور على ما هو عليه في مصحفنا كان عن توقيفٍ مِنْ رسول اللهِ صلعم لهم على ذلك وأمرٍ به.
          وأمَّا ما رُوي مِنِ اختلاف مصحف أُبيٍّ وعليٍّ وعبد اللهِ إنَّما كان قبل العرض الأخير، وأنَّه ◙ رتَّب لهم تأليف السُّور بعد أن لم يكن فعل ذلك، روى يونس عن ابن وَهْبٍ قَالَ: سمعت مالكًا يقول: إنَّما أُلِّف القرآنُ على ما كانوا يسمعونَه مِنْ قراءة رسول الله صلعم، ومَنْ قَالَ هذا القول لا يقول: إنَّ تلاوة القرآن في الصَّلاة والدَّرس يجب أن يكون مرتَّبًا على حسب التَّرتيب الموقف عليه للمصحفِ، بل إنَّما يجب تأليف سوره في الرَّسم والكتابة خاصَّةً، لا نعلم أنَّ أحدًا منهم قَالَ: إنَّ ترتيب ذلك واجبٌ في الصَّلاة، وفي القراءة والدَّرس، وأنَّه لا يحلُّ لأحدٍ أن يحفظ الكهف قبل الرُّوم ولا الحجَّ بعد الكهف، ألا ترى قولَ عائشة ♦ للَّذي سألَها أنْ تريَه مصحفَها ليكتب مصحفًا على تأليفه: لَا يَضُرُّكَ أَيَّه قرَأْتَ قبلُ.
          وأمَّا ما رُوي عن ابن مسعودٍ وابن عمر ♥ أنَّهما كرها أن يُقرأ القرآن منكوسًا، وقالا: ذلك منكوس القلب، وإنَّما عنيا بذلك مَنْ يقرأ السُّورة ويبتدئ مِنْ آخرها إلى أوَّلها لأنَّ ذلك حرامٌ محظورٌ، وفي النَّاس مَنْ يتعاطى هذا في القرآن والشِّعر ليذلِّل لسانه بذلك، ويقتدر على الحفظ، وهذا ممَّا حظره اللهُ في قراءة القرآن لأنَّه إفسادٌ لصورته ومخالفةٌ لِما قُصد بها.
          وممَّا يدلُّ أنَّه لا يجب إثبات القرآن في المصاحف على تاريخ نزوله لأنَّهم لو فعلوا ذلك لوجب أن يجعلوا بعض آية سورةٍ في سورةٍ أخرى، وأن ينقضوا ما وقفوا عليه مِنْ سياقة ترتيب السُّور ونظامها لأنَّه قد صحَّ وثبت أنَّ الآيات كانت تنزل بالمدينة فيُؤمر بإثباتها في السُّورة المكِّيَّة، ويُقال لهم: ضعوا هذه الآية في السُّورة الَّتي يُذكر فيها كذا، ألا ترى قول عائشة ♦: (وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ) تعني بالمدينة، وقد قُدِّمتا في المصحف على ما نزل قبلَهما مِنَ القرآن بمكَّة، ولو ألَّفوا على تاريخ النُّزول لوجب أن ينتقض ترتيبُ آيات السُّورة، وقد كان النَّبِيُّ صلعم يقرأُ بالنَّاس في الصَّلاة السُّورة في الرَّكعة، ثُمَّ يقرأ في الرَّكعة الأخرى بغير السُّورة الَّتي تليها.