التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: خيركم من تعلم القرآن وعلمه

          ░21▒ (بَابُ: خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ).
          5027- (حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ قال: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَن السُّلَمِيِّ عَنْ عُثْمَانَ بن عفَّانَ ☺ عَنِ النَّبِيِّ صلعم: خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ. قَالَ: وَأَقْرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَن فِي إِمْرَةِ عُثْمَانَ حتَّى كَانَ الحَجَّاجُ، قَالَ: وَذَاكَ الَّذِي أَقْعَدَنِي مُقْعَدِي هَذَا).
          5028- (حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَلْقَمَةَ...) فذكره بلفظ: (إِنَّ أَفْضَلَكُمْ...) إلى آخره.
          الشَّرح: تابع شُعبةَ جماعةٌ منهم قيس بن الرَّبيع، ذكر الحافظ أبو العلاء الحسن بن أحمد الهَمَذَانيُّ العطَّار في «الهادي في القراءات» أنَّه تابع جماعةً فعدَّدهم فوق الثَّلاثين، منهم عبد بن حُميدٍ وقيسٌ الَّذي ذكرناه، قَالَ: وتابع سفيانَ مِسْعرٌ ثُمَّ عدَّدهم عشرينَ نفسًا، وفي تصحيح البُخاريِّ وبعده التِّرْمِذيُّ ما رواه شُعبة وسُفيان إشعارٌ أنَّهم حملوا ذلك مِنْ هذين الجبلين، على أنَّ علقمة سمعَه أوَّلًا مِنْ سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرَّحْمَن ثُمَّ سمعَه بعدُ مِنْ أبي عبد الرَّحْمَن نفسه، فرواه أوَّلًا كذلك ثُمَّ ثانيًا كما بيَّنَّاه.
          وأمَّا أبو الحسين القُشَيريُّ فإنَّه عدل فيما أرى عن إخراجه في كتابه، وعلَّله بثلاث عللٍ: الاختلاف الَّذي ذكرناه، ووقف مَنْ وقفه، وإرسال مَنْ أرسله، وبما رُوي عن شُعبة أنَّه قَالَ: لم يسمع أبو عبد الرَّحْمَن مِنْ عثمانَ، وقيل لأبي حاتمٍ: أسمع مِنْ عثمان؟ قَالَ: روى عنه لا يذكر سماعًا.
          والجواب أنَّ الخلاف بين سفيان وشعبة لا يوجب القدح لأنَّهما إذا اختلفا فالحديث حديث سفيان كما نصَّ عليه شعبة ونحوه أبو داود والتِّرْمِذيُّ، وَقَالَ يحيى بن سعيدٍ: ما أحدٌ عندي يعدل شُعبة، وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان.
          وأمَّا الإعلال بالوقف والإرسال لأنَّ الحافظ إذا زاد قُبلت زيادته إجماعًا، اللَّهمَّ إلَّا إذا كان هو الَّذي رواه زائدًا وناقصًا فقد يُتوقَّف فيه لأجل ضبطه، اللَّهمَّ إلَّا إذا كان إمامًا صاحب فتوى أو ممَّن مذهبه تقطيع الحديث.
          وأمَّا الثَّالث فقال بعضهم: إن الأكابر مِنَ الصَّدر الأوَّل قالوا: إنَّ أبا عبد الرَّحْمَن قرأ القرآن على عثمان وعليٍّ وابن مسعودٍ، ثُمَّ إنَّ المعاصرة كافيةٌ عند قومٍ كما ذهب إليه مسلمٌ وغيره وقد تعاصرا جزمًا، وصرَّح بعضهم بسماعه منه، والبُخاريُّ شرطه ذا، وأخرج له في «صحيحه»، وَقَالَ: علَّم القرآن في أيَّام عثمان حتَّى بلغ أيَّام الحجَّاج، ورواية التِّرْمِذيِّ عن ابن بشَّارٍ عن يحيى بن سعيدٍ عن سفيان وشُعبة كلاهما عن عَلقمة عن سعد بن عُبيدة عن أبي عبد الرَّحْمَن، وحَكم عليُّ بن المدينيِّ على يحيى بن سعيدٍ بالوَهمِ فيه كونه ذكره مِنْ طريق الثَّوْريِّ وشُعبة عن عَلقمة عن سعدٍ، فيحتمل أن يكون يحيى لمَّا جمع بينهما ساق الحديث على لفظ شُعبة وروايته، وحمل حديث الثَّوْريِّ على حديث شُعبة.
          قلت: أخرجه النَّسَائيُّ في فضائل القرآن مفصَّلًا، فقال: حَدَّثنا عُبَيد اللهِ بن سعيدٍ، حَدَّثنا يحيى عن شُعبة وسفيان حدَّثَهما عَلقمة عن سعدٍ عن أبي عبد الرَّحْمَن عن عثمانَ مرفوعًا، قَالَ شُعبة: ((خيرُكم مَنْ تعلَّم القرآن وعلَّمه)) قَالَ سفيان: ((أفضلُكم))، ورواه خَلَّاد بن يحيى المكِّيُّ عن الثَّوْريِّ عن عَلقمة عن سعدٍ أيضًا فتابع يحيى، ورواه سعيد بن سالمٍ القدَّاح عن الثَّوْريِّ، ومُحمَّد بن أبان بن صالحٍ الكوفيِّ عن علقمة عن سعدٍ، وروى أبو الحسن سعيد بن سلَّامٍ العطَّار البصريُّ / هذا الحديث عن مُحمَّد بن أبان عن عَلقمة عن أبي عبد الرَّحْمَن السُّلَميِّ عن أبان بن عثمانَ بن عفَّانَ عن أبيه عثمانَ. قَالَ الدَّارَقُطْنيُّ: ووهم في ذكر أبان في إسناده، فإن ثبتت روايته فالحديث غريبٌ، على أنَّه يحتمل أن يكون السُّلَميُّ سمعه مِنْ أبان، ثُمَّ مِنْ عثمانَ، وروى عاصم بن عليٍّ في إحدى الرِّوايتين عنه عن شعبة عن مِسْعرٍ عن عَلقمة عن سعد بن عُبيدة عن السُّلَمي عن عليٍّ، فإن ثبت ذلك فهو غريبٌ جدًّا، ورواه مُحمَّد بن بُكَيرٍ الحَضْرَميُّ عن شَرِيكٍ عن عاصم بن بَهْدَلة عن السُّلمَيِّ عن ابن مسعودٍ.
          قَالَ الدَّارَقُطْنيُّ: وأصحُّها عَلقمة عن سعدٍ عن أبي عبد الرَّحْمَن عن عثمان مرفوعًا، وفي «سنن أبي داود» عن سعد بن أبي وقَّاصٍ مرفوعًا: ((خيرُكم مَنْ تعلَّم القرآنَ وعلَّم القرآن))، وفي «أخلاق حملة القرآن» للآَجُرِّيِّ مِنْ حديث عبد الرَّحْمَن بن إسحاق عن النُّعمان بن سعدٍ عن عليٍّ مرفوعًا: ((خيركم مَنْ تعلَّم القرآن وعلَّمه))، وقد أدرج بعضُ الرُّواة فيه ما يُوهم رفعَه، روى أبو يحيى إسحاق بن سليمان الرَّازيُّ عن الجرَّاح بن الضَّحَّاك عن علقمة عن السُّلَميِّ عن عثمان رفعَه: ((خيركم مَنْ تعلَّم القرآن وعلَّمه، وفضلُ القرآنِ على سائرِ الكلام كفضلِ الخالقِ على المخلوق))، وهذا الأخير مِنْ قول أبي عبد الرَّحْمَن كما نبَّه عليه الحفَّاظ إسحاق بن رَاهَويه وغيره، على أنَّ هذِه الزِّيادة وحدها جاءت متَّصلةً مِنْ هذِه الطَّريق إلى عثمان مرفوعًا.
          ورواها أيضًا وحدَها أبو سعيدٍ الخُدْريُّ مرفوعًا، أخرجه التِّرْمِذيُّ ورُوي نحوه أيضًا عن أبي هريرة وأنسٍ، وللحاكم _وقَالَ: صحيح الإسناد_ عن أبي ذرِّ مرفوعًا: ((إنَّكم لا ترجعونَ إلى اللهِ بشيءٍ أفضلَ ممَّا خرج منه)) يعني القرآن.
          فصلٌ: الحديث دالٌّ على أنَّ قراءةَ القرآن أفضلُ أعمال البرِّ كلِّها، لأنَّه لمَّا كان مَنْ تعلَّم القرآن أو علَّمه أفضل النَّاس وخيرهم دلَّ على ما قلناه، لأنَّه إنَّما أوجب له الخيريَّة والفضل مِنْ أجل القرآن، وكان له فضل التَّعليم جاريًا ما دام كلُّ مَنْ علَّمه باقيًا.
          فصلٌ: إن قلتَ: أيُّما أفضل، تعلُّم القرآن أو تعلُّم الفقه؟ قلتُ: الثَّاني أفضل، وَقَالَ ابن الجَوْزيِّ: تعلُّم اللَّازم منها فرضٌ على الأعيان، وتعلُّم جميعِهما فرضٌ على الكفاية إذا قام به قومٌ سقط الحرج عن الباقين، وقد استويا في الحالين، فإن فرضنا الكلام في التزيد فيها على قدر الواجب في حقِّ الأعيان فالتَّشاغل بالفقه أفضل، وذلك راجعٌ إلى حاجة الإنسان لا أنَّ الفقه أفضل مِنَ القراءة، وإنَّما كان الأقرأ في زمنه صلعم هو الأفقه فلذلك قدَّم القارئ في الصَّلاة، وَقَالَ ◙: (خَيْرُكُمْ...) الحديث.
          5029- فصلٌ: ثُمَّ ذكر البُخاريُّ حديثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: (أَتَتِ النَّبِيَّ صلعم امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا للهِ وَلِرَسُولِهِ، فَقَالَ: مَا لِي فِي النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: زَوِّجْنِيهَا...) الحديث، وقد سلف في الوكالة [خ¦2310].
          ووجه إدخاله هنا لأنَّه زوَّجه المرأةَ لحرمة القرآن، واعترضه ابن المُنَيِّر فقال: ظنَّ ابن بَطَّالٍ ذلك وليس كذلك، بل معنى قوله: (زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ) أي بأن تعلِّمها إيَّاه، فهي مِنْ سبيل التَّزويج على المنافع الَّتي يجوز عقد الإجارة عليها، وعلى هذا حمله الأئمَّة، وهو الَّذي فهمه البُخاريُّ، فأدخله في باب تعليم القرآن.
          قَالَ: وقد ظهر بهذا الحديث فضلُ القرآن على صاحبه في الدِّين والدُّنيا ينفعه في دينه بما فيه مِنَ المواعظ والآيات، وفي دنياه بكونه قام له مَقام المال الَّذي يُتوصَّل به إلى النِّكاح وغيره مِنَ المقاصد.
          وفي الحديث: استحبابُ تعجيل المهر للمرأة، ويجوز أن يكون مؤخَّرًا على ما دلَّ عليه قوله: (اذْهَبْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ)، وفي أبي داود: ((مَا مَعَكَ؟)) قَالَ: البقرةُ والَّتي تليها، قَالَ: ((قمْ فعلِّمها عشرين آيةً وهي امرأتك))، قَالَ مكحولٌ: ليس ذلك لأحدٍ بعد رسول الله صلعم، فقد انعقد النِّكاح وتأخَّر المهر الَّذي هو التَّعليم.
          فصلٌ: اعتذر بعضُ المالكيَّة عن قوله: (التَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) بأوجهٍ: أحدُها أنَّ ذلك على جهة الإعياء والمبالغة كما قَالَ: ((تصدَّقوا ولو بظِلْفٍ محرَّقٍ))، وفي لفظٍ: ((ولو فِرْسِنَ شاةٍ))، وليسا ممَّا يُنتفع بهما ولا يُتصدَّق بهما، لكن ذكر غير واحدٍ أنَّهما كانوا يحرقونه ويستفُّونه ويشربون عليه الماء أيامَ المجاعة.
          ثانيها: لعلَّ الخاتمَ كان يساوي ربع دينارٍ فصاعدًا لأنَّ الصُّوَّاغ عندهم قليلٌ.
          ثالثها: التماسه له لم يكن ليكون كلَّ الصَّداق بل شيءٌ يعجِّلُه لها قبل الدُّخول، وهما بعيدان.
          فصلٌ: الحديث دالٌّ على أنَّ تعليم القرآن يجوز أن يكون صداقًا وهو مذهبنا، وإحدى الرِّوايتين عن أحمد، والثَّانية: لا يجوز وإنَّما كان لذلك الرَّجل خاصَّةً، وقد أسلفنا قولَ مكحولٍ، والحديث مع الشَّافعيِّ، وخالف في ذلك أيضًا أبو حنيفة ومالكٌ، ونقل التِّرْمِذيُّ عن أهل الكوفة وأحمد وإسحاق أنَّ النِّكاح جائزٌ ويُجعل لها صداقُ مثلها.
          فصلٌ: ذَكرَه في الباب بعدَه أيضًا، وفيه: فصعَّد النَّظر إليها وصوَّبه. وهما مشدَّدان كما نبَّه عليه ابن العربيِّ، أي رفع وخفض إليها، ويجوز أن يكون ذلك كان قبل الحجاب، ويجوز أن يكون بعده، وهي متلفِّفةٌ، وأيُّ ذلك كان فإنَّه يدخل في باب نظر الرَّجل إلى المرأة المخطوبة، وسيأتي في موضعه.