التوضيح لشرح الجامع البخاري

فضل: {قل هو الله أحد}

          ░13▒ (بَابُ: فَضْلِ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]
          فِيهِ عَمْرَةُ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلعم).
          5013- ثُمَّ ساق حديثَ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ ☺ مرفوعًا: (إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ) قاله حين سمع رجلًا يقرؤها ويردِّدها.
          5014- (وزَادَ أَبُو مَعْمَرٍ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مَالِكٍ...) فذكرَ نَحْوَهُ.
          5015- وفي روايةٍ: (أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ القُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: اللهُ الوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ القُرْآنِ).
          الشَّرح: قوله (وَزَادَ أَبُو مَعْمَرٍ) هو شيخُه عبد الله بن عمرٍو المُقْعَد، كذا قاله الدِّمْياطيُّ، ووقع لشيخنا أنَّه إسماعيل بن إبراهيم بن مَعمر بن الحسن الهَرَويُّ البغداديُّ، فليحرَّر هذا، وأسنده الإسماعيليُّ عن أبي يَعلى والحسن بن سفيان وغيرهما عنه به، قَالَ الدَّارَقُطْنيُّ: ورواه كذلك أيضًا أبو صفوان وعَبَّاد بن صُهَيبٍ وإبراهيم بن المختار وعمر بن هارون عن مالكٍ عند الإسماعيليِّ، وفي «مسند ابن وَهْبٍ» عن ابن لَهِيعة عن الحارث بن يزيد عن أبي الهيثم عن أبي سعيدٍ أنَّه قَالَ: بات قتادة بن النُّعمان يقرأ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] حتَّى أصبح، فذكرها لرسول الله صلعم، فقال: ((والَّذي نفسي بيده إنَّها لتعدل ثلث القرآن أو نصفَه)).
          قَالَ أبو عمرَ: هذا شكٌّ مِنَ الرَّاوي لا مِنَ الشَّارع على أنَّها لفظةٌ غير محفوظةٍ في هذا الحديث، ولا في غيره، والصَّحيح الثَّابت في هذا الحديث وغيره: (إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ) دون شكِّ.
          وأخرجه الحاكم في «مستدركه» مِنْ حديث أبي هريرة مرفوعًا، وقال: صحيح الإسناد: ((لا ينامنَّ أحدكم حتَّى يقرأ ثلثَ القرآن))، قالوا: وكيف يستطيع أحدُنا أنْ يقرأ ثلث القرآن؟ قَالَ: ((أفلا تستطيعونَ أن تقرؤوا بـــ{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1]، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1]))، وعند مسلمٍ: ((أَلَا وإنَّها _يعني الإخلاص_ تعدلُ ثلثَ القرآن)).
          فصلٌ: وهذا المتن وهو: (إِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ) رواه مع أبي سعيدٍ جماعةٌ مِنَ الصَّحابة: أُبيُّ بن كعبٍ وعمر، ذكرهُما ابنُ عبد البرِّ، وأمُّ كلثوم بنت عقبة وابن مسعودٍ وأبو الدَّرداء وابن عمر وأبو أيُّوب وأبو مسعودٍ الأنصاريَّان، وسِماكٌ عن النَّعمان بن بشيرٍ وأبان عن أنسٍ.
          فصلٌ: في كونها ثلث القرآن معانٍ:
          أحدها: أنَّه مشتملٌ على ثلاثة أنحاءٍ: قصصٍ وأحكامٍ وصفات الله تعالى، وهذه السُّورة متمحِّضةٌ للصِّفات، فهي ثلثٌ وجزءٌ مِنْ ثلاثة أجزاءٍ، ذكره المازَريُّ وغيره.
          ثانيها: معناه أنَّ ثواب قراءتها يُضاعف بقدر ثلث القرآن بغير تضعيفٍ.
          ثالثها: أنَّ القرآن لا يتجاوز ثلاثة أقسامٍ: إرشادٌ إلى معرفة الرَّبِّ ومعرفة أسمائه وصفاته، أو معرفة أفعاله وسننه في عباده، فلمَّا اشتملت هذه السُّورة على أحد هذه الأقسام الثَّلاثة وهي التَّقديس وازنها الشَّارع بثلث القرآن، وعبارة بعضهم: أنَّه ثلاثة أجزاءٍ، قصصٌ وعبرٌ وأمثالٌ، والثَّاني: الأمر والنَّهي والثَّواب والعقاب، والثَّالث: التَّوحيد والإخلاص.
          رابعها: أنَّ مَنْ عمل بما تضمَّنته مِنَ الإقرار بالتَّوحيد والإذعان للخالق كمن قرأ ثلث القرآن.
          خامسها: أنَّه قَالَ لشخصٍ معيَّنٍ قصده لأنَّه ردَّدها فحصل له مِنْ تردادها وتكرارها قدر تلاوة الثُّلث، قاله أبو عمرَ، قَالَ أيضًا: ونقول بما ثبت عن رسول اللهِ صلعم ولا نعدُّه ونكل ما جهلناه مِنْ معناه، فنردُّه إليه ولا ندري لم تعدل الثُّلث؟
          وَقَالَ القابسيُّ: لعلَّ الرَّجل الَّذي بات يردِّدها كانت منتهى حفظه، فجاء يقلِّل عمله، فقال له الشَّارع: (إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ) ترغيبًا له في عمل الخير وإن قلَّ، وللهِ أن يجازي عبدَه على اليسير بأفضل ممَّا يجازي على الكثير.
          سادسها: قاله ابن رَاهَويه: ليس معناها أنَّه لو قرأ القرآن كلَّه كانت قراءة: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] تعدل ذلك إذا قرأها ثلاث مرَّاتٍ، لا ولو قرأها أكثر مِنْ مئة مرَّةٍ، وإنَّما معناه أنَّ الله جعل لكلامه فضلًا على سائر الكلام، ثُمَّ فضَّل بعض كلامه على بعضٍ بأنْ جعل لبعضه ثوابًا أضعاف ما جعل لبعضٍ، تحريضًا منه على تعلُّمه وكثرة قراءته.
          قَالَ أبو عمرَ: مَنْ لم يُجب في هذا أخلص عمَّن أجاب فيه، وَقَالَ القُرْطُبيُّ: هذه السُّورة اشتملت على اسمين مِنْ أسمائه يتضمَّنان جميع أوصاف كماله لم توجد في غيرها مِنْ جميع السُّوَر، وهما الأحد والصَّمد، فإنَّهما يدلَّان على أحديَّة الذَّات المقدَّسة الموصوفة بجميع أوصاف الكمال، فإنَّ الأحد في أسمائه مشعرٌ بوجوده الخاصِّ الَّذي لا يشاركه فيه غيره، وأمَّا الصَّمد فهو المتضمِّن لجميع أوصاف الكمال لأنَّه الَّذي انتهى سؤدده، ولا يصحُّ ذلك تحقيقًا إلَّا لِمَنْ حازَ جميعَ خصال الكمال حقيقةً، وذلك لا يكمل إلَّا للهِ، فقد ظهر لهذين الاسمين وشمول الدِّلالة على اللهِ وصفاته ما ليس لغيرهما مِنَ الأسماء، وظهرت خصوصيَّة هذه السُّورة بأنَّها ثلث القرآن العظيم.
          وَقَالَ الأَصيليُّ: تعدل لقارئها، أي ثوابها يعدل ثلث القرآن ليس فيه: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فأمَّا أن نفضِّل كلام ربِّنا بعضه على بعضٍ فلا، لأنَّه كلَّه صفةٌ له ولا تفاضل لأنَّ المفضول ناقصٌ، وهذا ماشٍ على أحد المذهبين أنَّه لا تفضيل فيه، ونقله المُهَلَّب عن الأشعريِّ وأبي بكر بن الطيِّب والدَّاوُديِّ وجماعة علماء السُّنَّة.
          فائدةٌ: روى مسلم بن إبراهيم عن الحسن بن أبي جعفرٍ حَدَّثنا ثابتٌ عن أنسٍ ☺ عن النَّبِيِّ صلعم قَالَ: ((مَنْ قرأ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} / مئتي مرَّةٍ غُفر له ذنبُ مئتي سنةٍ)) وهو غريبٌ مِنْ حديث ثابتٍ، تفرَّد به الحسن عنه.
          قوله (أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ...) إلى آخره، استنبط منه الدَّاوُديُّ التَّكليف بما لا يشقُّ وتأخير البيان إلى وقت الحاجة، وفيه أيضًا أنَّ عدم التَّرتيب في السُّوَر جائزٌ لأنَّه إذا قرأ {قُلْ هُوَ أَحَدٌ} فالتَّرتيب أن يقرأ ما بعدها فإذا أعادها فكأنَّه قرأ ما فوقها، وفي حديث أبي الدَّرداء: ((أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ كُلَّ لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؟)) قالوا: نحن أعجزُ، قَالَ: ((إنَّ اللهَ جزَّأ القرآنَ فجعل {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} جزءًا مِنْ أجزاء القرآن))، وهو شاهدٌ لما أسلفناه.
          فصلٌ: رواية إسماعيل بن جعفر عن مالكٍ السَّالفة داخلةٌ في رواية الأقران والمُدَبَّج.
          فصلٌ: الرَّجل الَّذي كان يتقالُّها هو قتادة بن النُّعمان الظُّفَريُّ كما أسلفناه عن «مسند ابن وهبٍ» وهو أخو أبي سعيدٍ الخُدْريِّ لأمِّه، فإنَّه قَتادة بن النُّعمان بن زيد بن عامر بن سَوَاد بن ظَفَرٍ، وهو كعب بن الخزرج بن عمرو ابن النَّبِيْت بن مالك بن الأوس أخي الخزرج ابنَي حارثة، أبو عمرٍو أو أبو عبد اللهِ، وأُمُّ أبي سعيدٍ سعدٍ والفُرَيعةِ ابنَي مالك بن الشَّهيد _واسمه سنان بن ثعلبة بن عُبَيد بن أَبْجَر وهو خُدْرَة بن عوف بن الحارث بن الخزرج أخي الأوس_ أُنَيْسةُ بنت عمرو بن قيس بن مالك بن عَديِّ بن عامر بن غنم بن عَديِّ بن النَّجَّار.
          شهد العقبة وبدرًا وأُحدًا وسائر المشاهد، وقدم المدينة بـــ{كهيعص} [مريم:1] بعد قدوم رافع بن مالك بسورة يوسف، فكان يكثر أن يقرأها في الدَّار وكانوا يستهزئون به، وكان أهل المجلس إذا رأَوه طالعًا قالوا: هذا زكريَّا قد جاءكم؛ لكثرة ما فيها مِنْ {زَكَرِيَّا}، وأُصيبت عينُه يوم أُحدٍ، وكان حديث عهدٍ بعرسٍ، فأخذها رسول الله صلعم بيدِه فردَّها في موضعها ثُمَّ غمزَها براحته، ثُمَّ قَالَ: ((اللَّهمَّ اكسُه جَمالًا))، وكانت سالت على خدِّه وأرادوا قطعها، فكانت أحسن عينيه وأحدَّهما نظرًا.
          وعمُّه رِفاعة بن زيد بن عامر بن سَوَادٍ، وهو الَّذي سرق بنو أُبَيْرِق درعَهُ وطعامَهُ ونزل فيهم: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} الآيات [النساء:107].
          مات قَتادة سنة ثلاثٍ وعشرين وصلَّى عليه عمرَ، ونزل في قبره أخوه أبو سعيدٍ ومُحمَّد بن مَسْلَمة والحارث بن خُزَيْمة، وشهد قتادة العشاءَ مع رسول الله صلعم في ليلةٍ ذات ظلمةٍ وبرقٍ ومطرٍ، فقال له صلعم: ((إذا انصرفتَ فأْتني))، فلمَّا انصرف أعطاه عُرْجُونًا، فقال: ((خذْ هذا فسيضيءُ أمامك عشرًا وخلفك عشرًا)) وكان مع قتادة رايةُ بني ظَفَرٍ يوم الفتح، وهو راوي حديث الباب، وهو الَّذي يقرؤها ويتقالُّها كما سلف، مِنْ ولده: عاصم بن عمر بن قتادة المحدِّث النَّسَّابة.
          فصلٌ: وراوي الحديث الأوَّل والثَّاني عن أبي سعيدٍ هو عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي صَعْصَعة عنه، وعبد الرَّحْمَن هو ابن الحارث بن أبي صَعْصَعة عمرو بن زيد بن عوف بن مَبْذُول بن عمرو بن غَنْم بن مازن بن النَّجَّار، قُتل أبو صعصعة في الجاهليَّة، وكان سيِّد بني مازنٍ وإليه يُنسب ابن أبي صَعْصعة، شهد العقبة وبدرًا، وكان على السَّاقة يومئذٍ، وابناه أبو كلابٍ وجابرٌ ابنا أبي صعصعة شهدَا أُحدًا، وقُتلا يوم مؤتة، والحارث بن سهل بن أبي صعصعة استشهد يوم الطَّائف، والحارث بن أبي صعصعة قُتل يوم اليمامة.
          وانفرد البُخاريُّ بعبد الرَّحْمَن ومُحمَّد ابنَي عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن الحارث بن أبي صَعْصَعة.
          وثانيهما: عبد اللهِ، وراوي حديثه الثَّالث عنه إبراهيم، و(الضَّحَّاكُ المِشْرَقيُّ) هو الضَّحَّاك بن شَرَاحِيْل المِشْرَقيُّ _بكسر الميم وفتح الرَّاء_ مِشْرَق بن زيد بن جُشَم بن حاشد بن خَيْوَان بن نوف بن هَمْدَان اتَّفقا عليه، كذا ساقه الرَّشَاطيُّ، وزعم ابن أبي حاتمٍ: مِشْرَقٌ موضعٌ باليمن، وما قيَّدتُه من كونه بكسر الميم وفتح الرَّاء كذا قيَّده عِياضٌ وغيره، وعَكَسَه ابنُ ماكولا، وَقَالَ العسكريُّ: إنَّ مَنْ فتح الميم صحَّف، وأمَّا ابن السَّمْعَانيِّ فذكر الضَّحَّاك في ترجمتين كسر الميم، وفي الآخر فتح الميم وكسر الرَّاء وفي الآخِر قافٌ، وردَّه عليه ابن الأثير فقال: لو ركَّب مِنَ التَّرجمتين ترجمةً واحدةً كسر أوَّلها وجعل في آخرها قافًا لأصاب.
          فصلٌ: قوله في آخر حديث المِشرَقيِّ هذا: (قَالَ أبو عبد اللهِ: عَنْ إِبْرَاهِيْمَ مُرْسَلٌ، وعن الضَّحَّاك مُسْنَدٌ) قَالَ الفَرَبْريُّ: سمعت أبا جعفر مُحمَّد بن أبي حاتمٍ ورَّاق أبي عبد الله: (قَالَ: أبو عبد الله...) فذكره، وَقَالَ الحُمَيديُّ: كذا وقع في البُخاريِّ، وإبراهيم عن أبي سعيدٍ مرسلٌ لم يلقَه، والضَّحَّاك عنه مسندٌ.
          قَالَ: وهذا المعنى مذكورٌ عن البُخاريِّ في بعض النُّسخ، وَقَالَ خلفٌ في «أطرافه»: أخرج البُخاريُّ في فضائل القرآن عن عمرَ بن حفصٍ، حَدَّثنا أبي، حَدَّثنا الأعمش، حَدَّثنا إبراهيم والضَّحَّاك المِشْرَقيُّ عن أبي سعيدٍ، وحَدَّثنا عبد الرَّحْمَن بن إبراهيم، حَدَّثنا الوليد، حَدَّثنا الأوزاعيُّ عن الزُّهْريِّ عن أبي سَلَمَة والضَّحَّاك عنه.