التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب فضل القرآن على سائر الكلام

          ░17▒ (بَابُ: فَضْلِ القُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الكَلاَمِ).
          5020- ساق فيه حديثَ أَبِي مُوسَى ☺: عَنِ النَّبِيِّ صلعم: (مَثَلُ الَّذي يَقْرَأُ القُرْآنَ كَالأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرَيحُهَا طَيِّبٌ، وَالَّذي لاَ يَقْرَأُ القُرْآنَ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلاَ رِيحَ لَهَا، وَمَثَلُ الفَاجِرِ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وطَعْمُها مُرٌّ، وَمَثَلُ الفَاجِرِ الَّذي لاَ يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَلاَ رِيحَ لَهَا).
          5021- وحديثَ ابن عمر السَّالف، ووجهُ ذكرِه لهما هنا لمَّا كان ما جمع طيب الرَّائحة والطَّعم أفضل المأكولات، وشبَّه الشَّارع المؤمنَ الَّذي يقرأ القرآن بالأُتْرُجَّة الَّتي جمعت طيب الرِّيح وطيب الطَّعم، دلَّ ذلك أنَّ القرآنَ أفضلُ الكلام، ودلَّ هذا الحديث على مثل القرآن وحامله والعامل به والتَّارك له، وكذا حديث ابن عمر لمَّا كان المسلمون أكثر أجرًا مِنَ الفريقين دلَّ ذلك على فضله على التَّوراة والإنجيل لأنَّ المسلمين إنَّما استحقُّوا هذه الفضيلة بالقرآن الَّذي فضَّلهم الله به، وجعل فيه الحسنة عشر أمثالها والسَّيِّئة واحدةً، وتفضَّل عليهم بأنْ أعطاهم على تلاوته بكلِّ حرفٍ عشر حسناتٍ كما قال ابن مسعودٍ، وأسندَه مرفوعًا أيضًا، وقد وردت آثارٌ كثيرةٌ في فضائل القرآن والتَّرغيب في قراءته:
          روى سفيان عن عاصمٍ عن زِرٍّ عن عبد الله بن عمرٍو مرفوعًا: ((يُقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتقِ ورتِّل كما كنت ترتِّل في الدُّنيا، فإنَّ منزلتك عند آخر آيةٍ تقرؤها))، وقالت عائشة ♦: جُعلت درجُ الجنَّة على عدد آي القرآن، فمَنْ قرأ ثلثَه كان على الثُّلث منها، ومَنْ قرأ نصفه كان على النِّصف منها، ومَنْ قرأ كلَّه كان في عليَّةٍ لم يكن فوقه إلَّا نبيٌّ أو صدِّيقٌّ أو شهيدٌ.
          وروى أبو قَبِيلٍ عن عبد الله بن عمرٍو مرفوعًا: ((إنَّ القرآنَ والصِّيام يشفعان يوم القيامة لصاحبهما، فيقول الصِّيام: يا ربِّ إنِّي منعتُه الطَّعامَ والشَّراب فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: يا ربِّ إنِّي منعته النَّوم باللَّيل فشفِّعني فيه، فيشفَّعان فيه))، وروى أبو نُعَيْمٍ عن بشير بن المهاجر عن عبد الله بن بُرَيدة عن أبيه / قَالَ: كنت جالسًا عند رسول الله صلعم فسمعته يقول: ((إنَّ القرآنَ يلقى صاحبَه يوم القيامة حين ينشقُّ عنه قبره كالرَّجل الشَّابِّ، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول: أنا صاحبك القرآن الَّذي أظمأتك في الهَواجِرِ وأسهرتُ ليلك، وإن كلَّ تاجر وراءَ تجارته، وإنَّك مِنْ وراء كلِّ تجارةٍ، فيُعطى المُلك بيمينِه، والخُلدَ بشماله، ويُوضع على رأسه تاجُ الوقار، ويُكسى والداه حلَّتين لا تقوم لهما الدُّنيا، فيقولان: بما كُسينا هذا؟ فيُقال لهما: بأخذِ ولدكما القرآن، ثُمَّ يُقال: اقرأ واصعد في درج الجنَّة وغرفها، فهو في صعودٍ ما دام يقرأ هذا كان أو ترتيلًا)).
          وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ قرأ القرآن لم يُردَّ إلى أرذل العمر.
          فصلٌ: ذكر هنا في الفاجر الَّذي لا يقرأ: (كَمَثَلِ الحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ، وَلاَ رِيحَ لَهَا) وفي البُخاريِّ قريبًا في باب: مَنْ راءى به [خ¦5059]: (وَرِيحُهَا مُرٌّ)، وكأنَّ ما هنا أجود لأنَّ الرِّيح لا طعمَ له إذ المرارة عَرَضٌ والرِّيح عَرَضٌ، والعَرَضُ لا يقوم بالعرض، وقد يُقال: إنَّ ريحها لمَّا كان كريهًا استعار للكراهية لفظ المرارة لِما بينهما مِنَ الكراهة المشتركة.
          وروى ابن الضُّرَيس مِنْ حديث الجُرَيْريِّ عن قَسَامة بن زهيرٍ عن أبي موسى: ((مثلً الَّذي يقرأُ القرآنَ ويعمل به مثل الأُتْرُجَّة، طيِّبٌ ريحُها طيِّبٌ خارجها، ومثل الَّذي يعمل به ولا يقرؤه كمثل النَّخلة طيِّبٌ خارجُها ولا ريح لها...)) الحديث، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثنا مسدَّدٌ، حَدَّثنا أبو عَوَانة، حَدَّثنا قتادة عن أنس بن مالكٍ قَالَ: قَالَ رسول الله صلعم: ((المؤمن الَّذي يقرأ القرآن كمثل الأُتْرُجَّة)).
          فصلٌ: تمثيل رسول الله صلعم الإيمانَ بالطَّعم، والقرآنَ بالرِّيح في قوله: (طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ) لأنَّ الإيمان ألزمُ للمؤمن مِنَ القرآن، إذ طرئانُ الكفر عليه قليلٌ نادرٌ، كما أنَّ الطَّعم ألزمُ للجوهر مِنَ الرِّيح وأخصُّ به، إذ كثيرٌ مِنَ الجواهر يذهب ريحها وطعمها باقٍ.
          فصلٌ: هذا الحديث يقتضي قسمةً رباعيَّةً؛ لأنَّ الإنسان إمَّا مؤمنٌ أو منافقٌ، وكلٌّ منهما إمَّا قارئٌ أو غيره، وكذا الجوهر إمَّا أن يجتمع فيه الطَّعم أو الرِّيح أو ينتفيا، أو يوجد أحدهما دون الآخر.
          فصلٌ: قَالَ بعضُهم فيما حكاه المُنْذرِيُّ: قراءةُ الفاجر والمنافق لا تُرفع إلى اللهِ، ولا تُذكر عندَه، وإنَّما يُرفع إليه ويُذكر عنده مِنَ الأعمال ما أُريد به وجهه وكان عن نيَّةٍ وقربةٍ، ألا ترى أنَّه شبَّه الفاجر والمنافق لا يرفع إلى الله ولا يذكر عنده وإنَّما يرفع إليه ويذكر عنده مِنَ الأعمال ما أريد به وجهه وكان عن نيَّةٍ وقربةٍ، ألا ترى أنَّه شبَّه الفاجر القارئ بالرَّيحانة مِنْ حيث إنَّه لم ينتفع ببركة القرآن، ولم يفز بحلاوة أجره، ولم يجاوز الطِّيبُ حلوقَهم موضع الصَّوت، ولا بلغ إلى قلوبهم ذلك الطِّيب لأنَّ طعم قلوبهم مرٌّ بالنِّفاق المستتر فيها كما استتر طعم الرَّيحانة في عودها مع ظهور رائحتها.
          فائدةٌ: (الْأُتْرُجَّةُ) بضمِّ الهمزة وتشديد الجيم، ويُقال: أُترُنْجةٌ، وفي روايةٍ: الأُتْرُنْجة، وحكى أبو زيدٍ: تُرُنْجَةٌ وتُرُنْجٌ وترجٌّ، وذكر العلَّامة عبد الوهَّاب بن سُحْنون التَّنُوخيُّ في كتاب «الأدوية القلبيَّة» أنَّ بعض الحكماء غضب عليه بعضُ الأكاسرة وسجنَه، وقالَ: خيِّروه إدامًا واحدًا لا يُزاد عليه، فقيل له فاختارَ الأُتْرُجَّ، فسُئل عن ذلك فقال: في العاجل ريحانٌ يسرُّ نفسي، والتَّبقُّل بقشره يفرح قلبي، ولحمه وقشره خاصَّةً إدامان يغتذي بهما بدني، وأستخرج مِنْ حبِّه دهنًا أقضي به وطري، قَالَ ابن سُحْنون: جمع الله فيه ما لم يجمع في غيره مِنَ الثِّمار مِنَ الفوائد والمنافع.
          فصلٌ: قد أسلفنا أنَّ الحديثَ الأوَّل وُصف فيه حاملُ القرآن والعامل به بالكمال، وهو اجتماع المنظر والمخبر، ولم يثبت هذا الكمال لحامل غيره مِنَ الكلام، ووصف في الثَّاني فضل الأمَّة وخصوصيَّتها دون سائر الأمم، وما اختصَّت إلَّا بالقرآن، فدلَّ على أنَّه السَّبب في فضلها، ويُؤخذ مِنْ ذلك فضل القرآن على غيره مِنَ الكتب كما سلف، فكيف بالكلام؟!.
          فصلٌ: قد أسلفنا في الصَّلاة أنَّ أبا حنيفة احتجَّ بالحديث الثَّاني في أنَّ وقت العصر عند مصير الظِّلِّ مثليه، آخر وقتها المختار عندنا، لأنَّ كثرة العمل تقتضي طول النَّهار مِنَ الزَّوال إلى العصر أكثر ممَّا بين العصر إلى المغرب، وعندنا أنَّها سواءٌ، وقد أجبنا أنَّ الحديثَ إنَّما قُصد به الأعمال لا بيان الأوقات.
          وقولهم: (نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا) يعني أنَّ عمل الفريقين جميعًا أكثر، لا يُقال: إنَّ هذا خطأٌ لأنَّ الفريقين لهما قيراطان، لأنَّهم قالوا: نحن أقلُّ عطاءً، فعُلم أنَّه يعني كلَّ طائفةٍ، لأنَّا نقول: إنَّ الظَّاهر أنَّ الإخبار بكثرة العمل وشكَوا قلَّة الأجر في مقابلة عملهما بالإضافة إلى أجر المسلمين في مقابلة عملهم، وهذا صحيحٌ عند التَّقسيط لأنَّ مَنْ خاطَ ثوبًا بقيراطٍ، وآخر خاط اثنين بقيراط فأجر الثَّاني أقلُّ في مقابلة عمله.
          وقوله: (هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ؟ قَالُوا: لَا) وذلك صحيحٌ، لأنَّهم استؤجروا برضاهم على عملٍ معيَّنٍ بأجرةٍ معلومةٍ.