التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب البكاء عند قراءة القرآن

          ░35▒ (بَابُ: البُكَاءِ عِنْدَ قِرَاءَةِ القُرْآنِ).
          5055- ذكر فيه حديثَ عبد الله ☺: (اقْرَأْ عَلَيَّ) السَّالف، ورواه هنا مِنْ حديث سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن عَبيدة عن عبد الله، قَالَ الأعمش: (وَبَعْضُ الْحَدِيثِ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَعَنْ أَبِيْهِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ عَبْدِ اللهِ).
          (سُفْيَان) هذا هو ابن سعيد بن مسروقٍ الثَّوْريُّ، وقوله: (وَعَنْ أَبِيهِ) أي والد سفيان، وهو سعيدٌ، وأَبُو الضُّحَى سلف غيرَ مرَّةٍ أنَّه مسلم بن صُبَيحٍ، ولم يدرك أبو الضُّحى ابنَ مسعودٍ، وقد روى عن مسروقٍ عن ابن مسعودٍ.
          5056- ثُمَّ ساقه عن قيس بن حفصٍ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيْدَةَ السَّلْمَانيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ...) فذكره.
          وقيسٌ هذا هو ابنُ حفص بن القعقاع أبو مُحمَّدٍ البصريُّ الدَّارِميُّ مولاهم، مِنْ أفراده عن الخمسة، وليس في شيوخ السِّتَّة مَنِ اسمه قيسٌ غيره، فهو مِنَ الأفراد، قال البُخاريُّ: مات سنة تسعٍ وعشرين ومئتين أو نحوها، وَقَالَ غيره: سنة سبعٍ.
          ولا شكَّ في حسن البكاء عند قراءة القرآن، وقد فعله الشَّارع وكبار الصَّحابة، وإنَّما بكى الشَّارع _والله أعلم_ عند هذِه الآية لأنَّه مثَّل لنفسه أهوال يوم القيامة وشدَّة الحال الدَّاعية إلى شهادته لأمَّته بتصديقه والإيمان به، وسؤاله الشَّفاعة لهم ليريحهم مِنْ طول الموقف وأهواله، وهذا أمرٌ يحقُّ له طول البكاء والحزن كما سلف، ذكره أبو عُبيدٍ عن مُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير عن أبيه، قَالَ: انتهيتُ إلى رسول الله صلعم وهو يصلِّي، ولجوفه أزيزٌ كأزيز المرجَلِ مِنَ البكاء، وعن الأعمش عن أبي صالحٍ قَالَ: لمَّا قدم أهل اليمن في زمن أبي بكرٍ ☺ سمعوا القرآن فجعلوا يبكون، فقال أبو بكرٍ ☺: هكذا كنَّا ثُمَّ قست القلوب.
          وَقَالَ الحسن: قرأ عمرُ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور:7-8] فربا ربوةً عِيدَ منها عشرين يومًا، وَقَالَ عُبيدُ بن عُمَيرٍ: صلَّى بنا عمرُ صلاةَ الفجر فقرأ سورة يوسف، حتَّى إذا بلغ: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84] بكى حتَّى انقطع فركع، وفي حديثٍ آخر: لمَّا قرأ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} [يوسف:86] بكى حتَّى سُمع نشيجه مِنْ وراء الصُّفوف.
          وعن ابن المبارك عن مِسْعرٍ عن عبد الأعلى التَّيميِّ قَالَ: مَنْ أُوتي مِنَ العلم ما لا يُبكيه فليس بخليقٍ أن يكون علمًا ينفعه لأنَّ اللهَ نعت العلماء فقال: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ} [الإسراء:107]، وقرأ عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى سورةَ مريم، فلمَّا انتهى إلى قوله: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58] فسجد بها، فلمَّا رفع رأسه قَالَ: هذه السَّجدة فأين البكاء؟.
          فصلٌ: وكره السَّلف الصَّعْق والغَشْيَ عند قراءة القرآن، ذكر أبو عُبيدٍ بإسناده عن أبي حازمٍ قَالَ: مرَّ ابنُ عمرَ برجلٍ مِنْ أهل العراق ساقطٍ والنَّاس حوله، فقال: ما هذا؟ فقالوا: إذا قُرئ عليه القرآن أو سمع تذكَّر وخرَّ مِنْ خشية الله، فقال ابن عمر: والله إنَّا لنخشى اللهَ وما نسقط. وعن عِكرمة قَالَ: سُئلَت أسماء: هل كان أحدٌ مِنَ السَّلف يُغشى عليه مِنَ القراءة؟ فقالت: لا، ولكنَّهم كانوا يبكون. وَقَالَ هشام بن حسَّان: سُئلت عائشة ♦ عمَّن صُعق عند قراءة القرآن، فقالت: القرآن أكرمُ مِنْ أن تنزف عنه عقول الرِّجال، ولكنَّه كما قَالَ اللهُ تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ} الآية [الزمر:23]، وسُئل ابن سِيرين عن ذلك فقال: ميعادٌ بيننا وبينه أن يجلس بحائطٍ ثُمَّ يُقرأ عليه القرآن كلُّه، فإن وقع فهو كما قَالَ.