التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب نسيان القرآن وهل يقول: نسيت آية كذا وكذا؟

          ░26▒ (بَابُ: نِسْيَانِ القُرْآنِ، وَهَلْ يَقُولُ: نَسِيتُ آيَةَ كَذَا وَكَذَا؟
          وَقَوْلِ اللهِ: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى. إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ} [الأعلى:6-7]).
          5037- ذكر فيه حديثَ عَائِشَةَ ♦ قَالَتْ: (سَمِعَ النَّبِيُّ صلعم رَجُلًا يَقْرَأُ فِي المَسْجِدِ فَقَالَ: يَرْحَمُهُ اللهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً مِنْ سُورَةِ كَذَا)، وفي روايةٍ أخرى: وَقَالَ: (مِنْ سُورَةِ كَذَا. تَابَعَهُ عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ وعَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ).
          5038- وفي روايةٍ: (سَمِعَ النَّبِيُّ صلعم رَجُلًا يَقْرَأُ فِي سُورَةٍ بِاللَّيْلِ فَقَالَ: يَرْحَمُهُ اللهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً كُنْتُ أُنْسِيتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا).
          5039- ثُمَّ ساق حديث سُفْيَانَ: عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ الله ☺ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم: (مَا لأَحَدِهِمْ يَقُولُ: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، بَلْ هُوَ نُسِّيَ).
          الشَّرح: حديث عائشة سلف في الشَّهادات [خ¦2655].
          وقوله: (تَابَعَهُ عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ وَعَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ) يريد: تابعَا عيسى بن يونس، ويريد بمتابعة عليٍّ ما رواه في «صحيحه» مِنْ حديث بشر بن آدم عن عليِّ بن مُسْهرٍ عن هشامٍ، ومتابعة عَبدَة أخرجها مسلمٌ عن ابن نُمَيْرٍ عن عَبْدَة وأبي معاوية، كلاهما عن هشام بن عُروة عن أبيه عنها، وقد سلف الكلام على ذلك قريبًا، وقد نطق القرآنُ بإضافة النِّسيان إلى العبد أيضًا في قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى}، وشهد ذلك بصدق حديث عائشة السَّالف أنَّه ◙ قَالَ: (يَرْحَمُهُ اللهُ، كُنْتُ أُنْسِيتُهَا...) إلى آخره، فأضاف الإسقاط إلى نفسه، والإسقاط هو النِّسيان بعينه، وحديث عبد الله بخلاف هذا، فاستحبَّ ◙ أن يضيف النِّسيان إلى خالقِه، وقد جاء في القرآن عن فتى موسى ◙ أنَّه أضاف النِّسيان مرَّةً إلى نفسه، وأخرى إلى الشَّيطان كما سلف.
          وفي الحديث ((إنِّي لأنسى أو أُنَسَّى لأسنُّ)) يعني إنِّي لأنسى أنا أو ينسِّيني ربِّي، فنسب النِّسيان مرَّةً إلى نفسه ومرَّةً إلى الله، هذا على قول مَنْ لم يجعل قوله: ((أو أُنسَّى)) شكًّا مِنَ المحدِّث في أيِّ الكلمتين قَالَ، وهو قول عيسى بن دينارٍ، وليس في شيءٍ مِنْ ذلك اختلافٌ، وهذا تضادٌّ في المعنى لأنَّ لكلِّ إضافةٍ منها معنًى صحيحًا في كلام العرب، ومَنْ أضاف النِّسيان إلى الله فلأنَّه خالقُه وخالق الأفعال كلِّها، ومَنْ نسب إلى نفسه فلأنَّه فعلُه، كما سلف.
          وإنَّما أراد _واللهُ أعلم_ بقوله ◙: (مَا لِأَحَدِهِمْ...) إلى آخره أنْ يُجرِيَ ألسنَ العباد ونسبةَ الأفعال إلى بارئها / وخالقها وهو الله تعالى، ففي ذلك إقرارٌ له بالعبوديَّة واستسلامٌ لقدرته تعالى، وهو أولى مِنْ نسبة الأفعال إلى مكتسبها، فذلك بالكتاب والسُّنَّة.
          وفي «مسند أحمد» مِنْ حديث عبد الرَّحْمَن بن أَبْزى: أنَّ النَّبِيَّ صلعم صلَّى في الفجر فتركَ آيةً، فلمَّا صلَّى قَالَ: ((أفي القومِ أُبيُّ بن كعبٍ؟))، قَالَ أبي: يا رسول الله، نُسخت آية كذا وكذا أو نسِيتَها؟ قَالَ: ((نُسِّيتها)).
          قَالَ ابن التِّينِ: وفيه أنَّه ◙ كان ينسى القرآن ثُمَّ يتذكَّره، قَالَ الدَّاوُديُّ: وفيه حجَّةٌ لقول مَنْ يرى أنَّ مَنْ قَالَ: لم يسلفني فلانٌ أو لم يودعني، فقامت عليه بيِّنةٌ، ثُمَّ قَالَ: كنت نسيت وادَّعى ببيِّنةٍ يريد بالقضاء أو الرَّدِّ أو طلب يمين الطَّالب أنَّ ذلك يكون له، وهذا غير بيِّنٍ.
          فصلٌ: قوله: (كَذَا وَكَذَا) يحتمل مِنْ إحدى وعشرين آيةً إلى ما بعدها على قول ابن عبد الحكم فيمَنْ قَالَ له: عندي كذا وكذا درهمًا أنَّه يقضى عليه بأحدٍ وعشرين درهمًا لأنَّ ذلك بيقين، لأنَّه أقلُّ ما في بابه، وما زاد على ذلك فهو مشكوكٌ فيه، وكذلك إذا قَالَ له: عندي كذا وكذا درهمًا يقضى عليه بأحد عشرَ درهمًا، وإذا قَالَ: كذا درهمًا يقضي عليه بعشرين. وَقَالَ سُحْنون: تُسأل العرب عن ذلك فإن كان الأمر على ما قالوه كان كذلك، وَقَالَ الدَّاوُديُّ: يغرَّم إذا قَالَ: كذا وكذا درهمين لأنَّ هذا أقلُّ ما يقع عليه مِنْ مقصد العامَّة، قال: وهذِه مقالة الشَّافعيِّ أنَّه يغرَّم في قوله: كذا وكذا درهمًا درهمين، ولو رفع أو جرَّ فدرهمٌ، وفي قوله: كذا درهمًا درهمٌ واحدٌ.