التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب القراء من أصحاب النبي

          ░8▒ (بَاب: القُرَّاءِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلعم). /
          ذكر فيه أحاديث:
          4999- أحدها: حديث مَسْرُوقٍ: ذَكَرَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو عَبْدَ الله بْنَ مسعودٍ فَقَالَ: لاَ أَزَالُ أُحِبُّهُ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم يَقُولُ: (خُذُوا القُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ وَسَالِمٍ وَمَعُاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ).
          سلف في ترجمته [خ¦3760].
          5000- ثانيها: حديثُ شَقيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: (خَطَبَنَا عَبْدُ اللهُ فَقَالَ: واللهِ لَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِي رَسُولِ اللهِ بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً، واللهِ لَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلعم أَنِّي مِنْ أَعْلَمِهِمْ بِكِتَابِ اللهِ، وَمَا أَنَا بِخَيْرِهِمْ، قَالَ شَقِيقٌ: فَجَلَسْتُ فِي الحِلَقِ أَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ، فَمَا سَمِعْتُ رَادًّا يَقُولُ غَيْرَ ذِلِكَ).
          5001- ثالثها: حديث عَلْقَمَةَ: (كُنَّا بِحِمْصَ فَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ سُورَةَ يُوسُفَ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ، فَقَالَ: قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ فَقَالَ: أَحْسَنْتَ، وَوَجَدَ مِنْهُ رِيحَ الخَمْرِ فَقَالَ: أَتَجْمَعُ أَنْ تُكَذِّبَ بِكِتَابِ اللهِ وَتَشْرَبَ الخَمْرَ؟! فَضَرَبَهُ الحَدَّ).
          وأخرجه مسلمٌ والنَّسَائيُّ أيضًا، وإسناده اجتمع فيه ثلاثةٌ تابعيُّون بعضهم عن بعضٍ: الأعمش وإبراهيم وعلقمة.
          5002- رابعها: حديث مَسْرُوقٍ قَالَ: (قَالَ عَبْدُ اللهِ: وَاللهِ الَّذي لاَ إله غَيْرُهُ مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ إلَّا أَنَا أَعْلَمُ أَيْنَ أُنْزِلَتْ، وَلاَ أُنْزِلَتْ آَيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ إلَّا أَنَا أَعْلَمُ فِيمَ أُنْزِلَتْ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا أَعْلَمُ مِنِّي بِكِتَابِ اللهِ تُبَلِّغُهُ الإِبِلُ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ).
          وأخرجه مسلمٌ أيضًا.
          5003- خامسها: حديث قَتَادَة: (سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: مَنْ جَمَعَ القُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم؟ قَالَ: أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ).
          وأخرجه مسلمٌ أيضًا.
          5004- وَعَنْ ثَابِتٍ وَثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: (مَاتَ النَّبِيُّ صلعم وَلَمْ يَجْمَعِ القُرْآنَ غَيْرُ أَرْبَعَةٍ: أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ، قَالَ: وَنَحْنُ وَرِثْنَاهُ).
          (تَابَعَهُ الفَضْلُ) هو ابنُ مُوسَى السِّيْنَانِيُّ (عَنْ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ).
          5005- سادسها: حديث ابن عبَّاسٍ ☻ قَالَ: (قَالَ عُمَرُ: عليٌّ أَقْضَانَا، وَأُبَيٌّ أَقْرَؤُنَا، وَإِنَّا لَنَدعُ مِنْ لَحْنِ أُبيٍّ، وأُبيٌّ يَقُولُ: أَخَذْتُهُ مِنْ فِي رَسُولِ اللهِ فَلاَ أَتْرُكُهُ لِشَيْءٍ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ...}) الآية [البقرة:106].
          أخرجه هنا عن صَدَقة عن يحيى، وهو القَطَّان: (عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ)، وساقه في التَّفسير [خ¦4481] عن عمرِو بن عليٍّ عن يحيى، قَالَ المِزِّيُّ في «أطرافه»: وليس في حديث صَدَقة ذكرُ عليٍّ، قلتُ: هو في أصل الدِّمْياطيِّ مخرَّجًا مصحَّحًا.
          الشَّرح: الأمر بالأخذ عن هؤلاء الأربعة للتَّأكيد، لا أنَّ غيرَهم لا يؤخذ عنهم، وزيادة أبي الدَّرداء قَالَ الدَّاوُديُّ: لا أُراه محفوظًا، وَقَالَ الإسماعيليُّ بعد أن ذكرَه: هذان الحديثان مختلفان، ولا يجوز أن يجمع في «الصَّحيح» على تباينهما _أعني ذِكر أُبَيٍّ وذكر أبي الدَّرداء_ وإنَّما الصَّحيح أحدهما، وابن مسعودٍ لم يحفظ جميعه في حياته ◙ لكنَّه كان يجيد ما يحفظه، وذلك أنَّه قَالَ: (أَخَذْتُ مِنْ فِيْ رَسُولِ اللهِ صلعم بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً).
          وفهم بعضُهم أنَّ هؤلاء الأربعة هم الَّذين جمعوا القرآن كلَّه في عهد رسول الله صلعم، وليس كذلك، فقد جمعه الخلفاء الأربعة كما ذكره ابن عبد البرِّ وأبو عمرٍو الدَّانيُّ، قَالَ أبو عمرٍو: جمعه أيضًا على عهده عبد الله بن عمرو بن العاصي.
          قلت: وثبت أنَّه سأل النَّبِيَّ صلعم: كم يُقرأ القرآن؟ فقال: ((فِي شَهرٍ))، فقال: إنِّي أطيقُ أكثرَ مِنْ ذلك... وذكر الحديث.
          قلت: وجماعاتٌ أُخر: عُبادة بن الصَّامت وأبو أيُّوب خالد بن زيدٍ، ذكرَه ابن عساكر عن مُحمَّد بن كعبٍ القُرَظيِّ، وذكر القاضي أبو بكرٍ أنَّه تواتر عن عُبادة وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي، وابن عبَّاسٍ ذكره أيضًا مِنْ حديث أيُّوب عن جعفر بن أبي وحْشيَّة عن سعيد بن جُبَيْرٍ عن ابن عبَّاسٍ قَالَ: توفِّي رسول اللهِ صلعم وقد قرأتُ القرآنَ وأنا ابنُ عشر سنين.
          وأبو موسى الأشعريُّ ذكرَه أبو عمرٍو الدَّانيُّ، ومُجَمِّع بن جارية ذكرَه ابنُ إسحاق، قَالَ الشَّعْبيُّ فيما ذكره ابن عساكر عنه: كان قد بقي على مُجَمِّعٍ مِنَ القرآن سورةٌ أو سورتان حين قُبض رسول اللهِ صلعم.
          وقيسُ بن أبي صعصعة عمرِو بن زيدٍ الأنصاريُّ البدريُّ، ذكرَه أبو عُبيد بن سلَّام مِنْ حديث ابن لَهِيْعة، عن حبَّان بن واسعٍ عن أبيه عن قيس بن أبي صَعْصَعة أنَّه قَالَ لرسول الله صلعم: في كم أقرأُ القرآن؟ قَالَ: ((في خمسَ عشرةَ))، قَالَ: إنِّي أجد أقوى مِنْ ذلك، قَالَ: ((في كلِّ جمعةٍ))، ومِنْ حديث ابن لَهِيعة عن واسعٍ عن عمِّه عن سعد بن المُنْذرِ الأنصاريِّ البدريِّ قَالَ: يا رسول اللهِ، أقرأ القرآن في ثلاثٍ؟ قَالَ: ((نعم إن استطعت)).
          وسعد بن عبيد بن النُّعمان بن قيس بن عمرو بن زيد بن أُميَّة، أخي ضُبَيعة وعُبَيدٍ أولاد زيدٍ أخي عزيزٍ ومعاوية بن مالكٍ أخي حَنَشٍ، وأخي كُلْفَة بني عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأوسيِّ، ذكره ابن حَبيبٍ في «المحبَّر»، وَقَالَ أبو أحمد العسكريُّ: ذُكر أنَّه أوَّل مَنْ جمع القرآن مِنَ الأنصار، ولم يجمعه مِنَ الأوس غيره.
          فإن قلتَ: أبو زيدٍ الَّذي ذكره أنسٌ قيل: اسمه سعد بن عُبَيدة، فلعلَّه هذا، قلتُ: لا فإنَّ ذاك خَزْرجيٌّ، قَالَ أنسٌ: أحد عمومتي ونحن ورثناه، وهذا أوسيٌّ، وسعد بن عُبادٍ أو عبادة، ذكره ابن مِقْسَمٍ النَّحويُّ في «السَّبيل إلى علم التَّنزيل» عن الشَّعْبيِّ، وقيس بن السَّكن، وهو أبو زيدٍ السَّالف.
          وأمُّ وَرَقَة بنت نوفلٍ، وقيل: بنت عبد الله بن الحارث، ذكر ابن سعدٍ _فيما ذكره ابن الأثير_ أنَّها جمعت القرآن، فهؤلاء تسعةَ عشَر، وتميمٌ الدَّاريُّ كما سيأتي.
          قَالَ القاضي أبو بكرٍ: وجمعَه عمرو بن العاصي، وأقرأه ◙ خمسَ عشرةَ سجدةً في القرآن، منها ثلاثٌ في المفصَّل وفي الحجِّ سجدتان.
          وعن مُحمَّد بن سِيرين قَالَ: جمع القرآن أربعةٌ: أُبيٌّ ومعاذٌ وزيدٌ وأبو زيدٍ.
          واختلفوا في عثمانَ وتَميمٍ الدَّاريِّ وأبي الدَّرداء، وأمَّا رواية أنسٍ: (جَمَعَ) السَّالفة فلا بدَّ مِنْ تأويلها، فإنَّه قد جمع تلاوته وأحصاه حفظًا أعلام الصَّحابة ممَّن لا يُحصى كثرةً، فالجواب: أنَّه يريد مِنَ الأنصار خاصَّةً دون قريشٍ وغيرهم، أو يريد جمعه بجميع وجوهه ولغاته وحروفه وقراءاته الَّتي أنزلها الرَّبُّ تعالى، وأذن للأمَّة فيها، وخيَّرها في القراءة بما شاءت منها، أو يريد: اشتُهر أو لم يُشتهر بجمع متفرِّقه، وحفظ ما كان ينزل وقتًا دون وقتٍ إلى انقضاء نزوله وكمال جمعه، أو يريد: الأخذ مِنْ في رسول اللهِ صلعم تلقِّيًا أو أخذًا دون واسطةٍ، أو يريد أنَّ هؤلاء ظهروا به وانتصبوا لتعليمه وتلقينه، أو يريد جمعَه في صحفٍ أو مصحفٍ، ذكرها أجمعَ أبو عمرٍو الدَّانيُّ.
          ويحتمل _كما قَالَ ابن العربيَّ_ أن لم يجمع ما نُسخ منه وزيد رسمُه بعد تلاوته مع ما ثبت رسمه وبقي فرض حفظه وتلاوته إلَّا هؤلاء الأربعة، ويبعد أن يكون معنى: (جَمَعَ القُرْآنَ) سمع له وأطاع وعمل بموجبه، يؤيِّده رواية أحمد في كتاب «الزُّهد»: أنَّ أبا الزَّاهريَّة أتى أبا الدَّرداء فقال: إنَّ ابني جمع القرآن، فقال: اللَّهمَّ غفرًا، إنَّما جمع القرآن مَنْ سمع له وأطاع.
          وذكر المازَريُّ أنَّه يحتمل أن يُراد أنَّه لم يذكره أحدٌ عن نفسه سوى هؤلاء لأنَّ مَنْ أكمله سواهم / كان يتوقَّع نزول القرآن ما دام رسول الله صلعم حيًّا، فقد لا يستجيز النُّطق بأنَّه أكملَه، واستجازه هؤلاء، ومرادُهم أنَّهم أكملوا الحاصل منه، أو يحتمل أن يكون مَنْ سِواهم لم ينطق بإكماله خوفًا مِنَ الرِّياء واحتياطًا على النيَّات، وهؤلاء الأربعة أظهروه لأمنهم على أنفسهم، أو لرأيٍ اقتضاه ذلك عندهم، وكيف يعرف النَّقَلة أنَّه لم يحمله إلَّا أربعةٌ، وكيف يُتصوَّر الإحاطة بهذا، والصَّحابة متفرِّقون في البلاد، وهذا لا يُتصوَّر حتَّى يلقى النَّاقلُ كلَّ رجلٍ منهم فيخبره عن نفسه بأنَّه لم يكمل القرآن، وهذا بعيدٌ تصوُّره عادةً، وكيف وقد نقل الرُّواة إكمال بعض النِّساء لقراءته؟! وقد اشتهر حديث عائشة ♦، وقولها: كنت جاريةً حديثة السِّنِّ لا أقرأ كثيرًا مِنَ القرآن، وكيف يظنُّ بأبي بكرٍ وعمرَ أنَّهما لم يحفظاه؟! على أنَّ الَّذي رواه ليس بنصٍّ جليٍّ، وذلك أن قصاراه أنَّ أنسًا قَالَ: جمع القرآن على عهده أربعةٌ، فقد يكون المراد: لا أعلم سوى هؤلاء، ولا يلزمه أن يعلم كلَّ الحافظين.
          وحديث أنسٍ حاول بعضُ الملحدة به القدح في الثِّقة بنقل القرآن، ولا متروَّح لها في ذلك لأنَّا لو سلَّمنا أنَّ الأمر كما ظنُّوه، وأنَّه لم يكمله سوى أربعةٍ، فإنَّه قد حفظ جميع أجزائه مِئوينَ لا يحصَون، وما مِنْ شرط كونه متواترًا أن يحفظ الكلُّ الكلَّ بل الشَّيء الكثير إذا روى جزءًا منه خلقٌ كثيرٌ عُلم ضرورةً، وجُعل متواترًا.
          والجواب عن سؤال مَنْ سأل عن وجه الحديث مِنَ الإسلاميِّين، فإنَّه يُقال له: عُلم ضرورةً مِنْ تديُّن الصَّحابة ومبادرتهم إلى الطَّاعات والقُرَب الَّتي هي أدنى منزلةً مِنْ حفظ القرآن لا يعلم منه أنَّه محالٌ _مع كثرتهم_ ألَّا يحفظ منه إلَّا أربعةٌ، وأيضًا فيمن يعلم أنَّ القرآن كان عندهم مِنَ البلاغة بحيث هو، وكان الكفَّار في الجاهليَّة يَعجبون مِنْ بلاغته، ونحن نعلم مِنْ عادة العرب شدَّة حرصها على تحفُّظ الكلام البليغ، ولم يكن لها شغلٌ ولا صنعةٌ سوى ذلك، فلو لم يكن للصَّحابة باعثٌ على حفظ القرآن سوى هذا لكان أدلَّ الدَّلائل على أنَّ الخبر ليس على ظاهره.
          قَالَ: وقد عددنا مَنْ حَفظنا منهم وسمَّيناهم نحو خمسةَ عشَر صاحبًا ممَّن نُقل عنه حفظ جميع القرآن في كتابنا المترجم بـــ«قطع لسان النَّابح» وأشرنا فيه إلى تأويلاتٍ لهذا الخبر، وذكرنا اضطراب الرُّواة في هذا المعنى، فمنهم مَنْ زاد في هذا العدد، ومنهم مَنْ نقص عنه، ومنهم مَنْ أنكر أن يجمعه أحدٌ.
          وَقَالَ القُرْطُبيُّ: إنَّما نشأ هذا ممَّن يظنُّ أنَّ لهذا الحديث دليلَ خطابٍ، فإنَّه لا يتمُّ له ذلك حتَّى يقول: تخصيص هؤلاء بالذِّكر يدلَّ على أنَّه لم يجمعه أحدٌ غيرهم، فمَنْ ينفي القول بدليل الخطاب سلم مِنْ ذلك، ومَن يقول به فأكثرهم يقول: أنْ لا دليل خطابٍ لها باتِّفاق أئمَّة الأصول، ولا يُلتفت لقول الدَّقَّاق فيه، فإنَّه واضح الفساد، ولئن سلَّمنا ألَّا تقع الأعداد دليل خطابٍ، فدليل الخطاب إنَّما يُصار إليه إذا لم يعارضه بمنطوقٍ به، فإنَّه أضعف وجوه الأدلَّة عند القائلين به، وهاهنا أمران أولى منه _مِنَ الاتَّفاق_: النَّقلُ الصَّحيح، وما يُعلم مِنْ ضرورة العادة، وقد ذكر القاضي أبو بكرٍ وغيره جماعةً مِنَ الصَّحابة حفظوه، فمنهم الخلفاء الأربعة، وقد تواترت الأخبار بأنَّه قُتل باليمامة سبعون ممَّن جمع القرآن، وكانت اليمامة قريبةً مِنْ وفاة رسول صلعم، فالَّذين بقُوا في ذلك الجيش لم يُقتلوا أكثرُ مِنْ أولئك أضعافًا، وإذا كان ذلك في جيشٍ واحدٍ، فانظر كم بقي في دين الإسلام إذ ذاك في عساكرَ أُخر ممَّن جمع القرآن، فيظهر مِنْ هذا أنَّ الَّذين جمعوا القرآن على عهده لا يحصيهم أحدٌ، ولا يضبطهم عددٌ.
          فإن قلتَ: إذا لم يكن له دليلُ خطابٍ فلأيِّ شيءٍ خصَّ هؤلاء الأربعة بالتَّزكية دون غيرهم؟ فالجواب: أنَّه يحتمل أن يكون ذلك لتعلُّق غرض المتكلِّم بهم دون غيرهم، أو نقول: إنَّ هؤلاء في ذهنه دون غيرهم.
          ولمَّا ذكر القاضي أبو بكرٍ وجوهَ التَّأويل أنَّه لم يجمعه على جميع الوجوه، أو أنَّه لم يجمعه تلقينًا، أو مَنِ انتصر له قَالَ: تظاهرت الرِّوايات أنَّ الأئمَّة الأربعة جمعوا القرآن على عهد رسول اللهِ صلعم لأجل سبقِهم إلى الإسلام وإعظام الرَّسول لهم، وقد ثبت عن الصِّدِّيق بقراءته في المحراب بطوال السُّور الَّتي لا يتهيَّأ حفظُها إلَّا لأهل القدرة على الحفظ والإتقان، منها: عن ابن عُيَيْنة عن الزُّهْريِّ عن أنسٍ أنَّ الصِّدِّيق قرأ في الصُّبح بالبقرة، فقال عمر: كادتِ الشَّمسُ أن تطلعَ، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين.
          وقد علم أنَّ كثيرًا مِنَ الحفَّاظ وأهل الدُّرْبَة بالقرآن يتهيَّبون الصَّلاةَ بالنَّاس بمثل هذه السُّور الطِّوال وما دونها، وهذا يقتضي أنَّ أبا بكرٍ كان حافظًا، وقد صحَّ الخبر أنَّه بنى مسجدًا بفناء داره بمكَّة قبل الهجرة، وأنَّه كان يقوم فيه بالقرآن ويكثر بكاؤه ونشيجه عند قراءته، ويقف عليه نساء المشركين وولدانهم يسمعون قراءته، ولولا علمه صلعم بذلك مِنْ أمره لم يقدِّمه للإمامة مع قوله: ((يَؤمُّ النَّاس أقرؤُهم لكتاب اللهِ))، وكذلك تظاهرت الرِّوايات عن عمرَ ☺ أنَّه كان يؤمُّ النَّاسَ بالسُّور الطِّوال، وقرأ مرَّةً بسورة يوسف في الصُّبح، فبلغ إلى قوله: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84] حتَّى سُمع بكاؤه مِنْ وراء الصُّفوف، وقرأ مرَّةً سورة الحجِّ وسجد فيها سجدتين.
          روى عبد الملك بن عُميرٍ عن زيد بن وهبٍ عن ابن مسعودٍ ☺ قَالَ: كان عمرُ أعلمنا باللهِ، وأقرأَنا لكتاب اللهِ، وأفقهَنا في دين اللهِ، ولولا أنَّ هذه كانت حالتَه، وأنَّه مِنْ أقرأ النَّاس لكتاب اللهِ لم يكن الصِّدِّيق بالَّذي يضمُّ إليه زيدَ بن ثابتٍ، وأمرهما بجمع القرآن، واعتراض ما عند النَّاس، ويجعل زيدًا تبعًا له لأنَّه لا يجوز أن ينصَّب لاعتراض القرآن وجمعه مَنْ ليس بحافظٍ.
          وأمَّا عثمان فقد اشتُهر عنه أنَّه كان ممَّن جمع القرآن على عهد رسول اللهِ صلعم، وأنَّه كان مِنْ أهل القيام به، وقد قَالَ حين أرادوا قتله فضربوه بالسَّيف على يده فمدَّها، وَقَالَ: واللهِ إنَّها لأوَّل يدٍ خطَّت المفصَّل، وقالت زوجته: إن تقتلوه فإنَّه كان يحيي اللَّيل بجميع القرآن في ركعةٍ.
          وكذلك عليُّ بن أبي طالبٍ قد عُرف حاله في فضله وثاقبة فهمه وسعة علمه، ومشاورة الصَّحابة له، وإقرارهم بفضله، وتربية النَّبِيِّ صلعم له، وأخذه له بفضائل الأخلاق، ورغبته ◙ في تخريجه وتعليمه، وما كان يرسِّخه له، ويثبته عليه مِنْ أمره، نحو قوله: ((أقضاكم عليٌّ))، ومِنَ البعيد أن يقول هذا فيه وليس مِنْ قرَّاء الأمَّة، وقد كان يُقرئ القرآن، وعليه قرأ أبو عبد الرَّحْمَن السُّلَميُّ وغيره، وروى همَّامٌ عن ابن أبي نَجِيْحٍ عن عَطاء بن السَّائب أنَّ أبا عبد الرَّحْمَن السُّلَميَّ حدَّثه قَالَ: ما رأيت رجلًا أقرأ للقرآن مِنْ عليِّ بن أبي طالبٍ، صلَّى بنا الصُّبح فقرأ سورة الأنبياء، فأسقط آيةً، فقرأ ثُمَّ رجع إلى الآية الَّتي أسقطها فقرأها، ثُمَّ رجع إلى مكانه الَّذي انتهى إليه لا يتتعتع.
          فإذا صحَّ ما / قلناه مع ما ثبت مِنْ تقدُّمهم وتقدمةِ الرَّسول لهم وجب أن يكونوا حفَّاظًا للقرآن، وأن يكون ذلك أولى مِنَ الأخبار الَّتي ذكر فيها أنَّ الحفَّاظ كانوا على عهد رسول اللهِ صلعم أربعةً ليس فيهم أحدٌ مِنْ هؤلاء الأئمَّة القادة، الَّذين هم عمدة الدِّين وفقهاء المسلمين.
          فصلٌ: قوله في حديث ابن مسعودٍ: (فَوَجَدَ مِنْهُ رِيحَ الخَمْرِ فَضَرَبَهُ الحَدَّ) هو حجَّةٌ لمالكٍ وأصحابه وجماعةٍ مِنْ أهل الحجاز أنَّ الحدَّ عندهم يجب بالرَّائحة إذا شهد بها عدلان عند الحاكم، وهو خلاف قول الشَّافعيِّ وأبي حنيفة في آخرين لأنَّه لا حدَّ بالرَّائحة، وتأوَّلوا هذا على أنَّه اعترف، وضرْبُ ابن مسعودٍ له لأنَّه كان نائبًا عن الإمام إذ ذاك.
          وقوله للرَّجل: (تُكَذِّبَ بِكِتَابِ اللهِ) يعني تُنكر بعضَه جاهلًا، وليس المراد التَّكذيب الحقيقيَّ، فإنَّه لو فعل ذلك حقيقةً لكفر لإجماعهم على أنَّ مَنْ جحد حرفًا مجمعًا عليه مِنَ القرآن كفر، تجري عليه أحكام المرتدِّين.
          فصلٌ: حديث شقيقٍ عن عبد اللهِ رواه البُخاريُّ عن عمر بن حفصٍ حَدَّثنا أبي حَدَّثنا الأعمش حَدَّثنا شَقِيْقٌ، وهذا هو الصَّواب، قَالَ الجَيَّانيُّ: وفي نسخة أبي مُحمَّدٍ عن أبي أحمد: <حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا أَبِي>، وإنَّما هو عمرُ بن حفصٍ.
          فصلٌ: قول عمر: (أَقْرَؤُنَا أُبَيٌّ وَإِنَّا لَنَدَعُ مِنْ لَحْنِهِ) أي مِنْ لغته، قَالَ الهَرَويُّ: وكان يقرأ: {التَّابُوه}، وإنَّما ذلك لما علموا مِنْ نسخ ما تركوه، واللَّحْنُ بسكون الحاء: اللُّغة، وبالفتح: الفطنة، واللَّحنُ: إزالة الإعراب عن وجهه بالإسكان.
          فصلٌ: أبو زيدٍ السَّالف هو قيس بن السَّكَن بن قيس بن زَعُوراء بن حَرام بن جُندُب بن عامر بن غَنْمِ بن عَديِّ بن النَّجَّار، شهد بدرًا، وقُتل يوم جسر أبي عُبَيدٍ، ولا عَقِبَ له، وزيد بن ثابتٍ هو ابن الضَّحَّاك بن زيد بن لَوْذَان بن عمرو بن عبد بن عوف بن غَنْم بن مالك بن النَّجَّار، وأُبيُّ بن كعبٍ هو ابنُ قيس بن عُبيد بن زيد بن معاوية أخي عَديِّ ابنَي عمرو بن مالك بن النَّجَّار، ومعاذٌ سلف في مناقبه، وأبو الدَّرداء عُوَيمرُ بن زيد بن قيس بن عَيْشة بن أميَّة بن مالك بن عامر، أخي ابني عَديٍّ، أخي ثعلبة، ابنَي كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج.
          فصلٌ: وفي بني الحارث بن الخزرج أخي الأوس ابنَي حارثة أبو زيدٍ أيضًا ثابت بن قيس بن زيد بن النُّعمان بن مالكٍ الأغرِّ بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج الأصغر ابن الحارث، فولد أبو زيد بن ثابت بشيرًا _قُتل يوم الحرَّة_ وأوسًا وزيدًا دَرَجَ، شهد ثابت بن زيدٍ أُحدًا وما بعدها مِنَ المشاهد، وقيل: إنَّه جمع القرآن على عهد رسول الله صلعم، نزل البصرة، ثُمَّ رجع إلى المدينة فمات بها في عهد عمرَ، وولده أبو زيدٍ سعيد بن أوس بن ثابت بن بشير بن أبي زيدٍ ثابت بن زيد بن قيس الأنصاريُّ البصريُّ النَّحويُّ، قَالَ أبو زيدٍ الأنصاريُّ: هو جدِّي، وهو أحد السِّتَّة الَّذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلعم وهلك في خلافة عمر بن الخطَّاب بالمدينة، فقام على قبره، فقَالَ: رحمك الله يا زيد، لقد دُفن العلم وأعظم أهل الأرض أمانةً.
          وأبو زيدٍ الثَّالث: سعد بن عُبيد بن النُّعمان السَّالف الأوسيُّ، وهو الَّذي يُقال له: سعدٌ القارئ، ولم يكن أحدٌ مِنَ الصَّحابة يُسمَّى القارئ غيره، وهو أوَّل مَنْ جمع الأنصار مِنَ السَّالف، ولا عَقِبَ له، ولم يجمع القرآن مِنَ الأوس غيره ممَّن شهد بدرًا وبعدها، قيل: إنَّه قُتل بالقادسيَّة سنةَ ستَّ عشرةَ، وهو ابن أربعٍ وستِّين سنةً، وكان انهزم يومَ الجسر حين أُصيب أبو عُبيدٍ فغسلها عنه يوم القادسيَّة، وابنُه عمير بن سعدٍ له صحبةٌ، ولَّاه عمرُ حِمصَ بعد سعيد بن عامرٍ الجُمَحيِّ، وشهد عمَّا سعدٍ سِماكٌ وفُضَالة بن النُّعمان أُحدًا.
          فصلٌ: قراءة ابن كَثيرٍ ونافعٍ وأبي عمرٍو راجعةٌ إلى أُبيٍّ، وقراءة ابن عامرٍ إلى عثمانَ، وقراءة عاصمٍ وحمزة والكِسائيِّ إلى عثمانَ وعليٍّ وابن مسعودٍ ♥.