التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب استذكار القرآن وتعاهده

          ░23▒ (بَابُ: اسْتِذْكَارِ القُرْآنِ وَتَعاهُدِهِ).
          ذكر فيه أحاديث:
          5031- أحدها: حديث ابن عُمَرَ ☻: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ القُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الإِبِلِ المُعَقَّلَةِ، إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ).
          وأخرجه مسلمٌ أيضًا.
          5032- ثانيها: حديث مُحمَّد بْنِ عَرْعَرَةَ: (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلعم: بِئْسَ مَا لأَحَدِهِمْ يَقُولُ: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، بَلْ نُسِّيَ، وَاسْتَذْكِرُوا القُرْآن فَإِنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ).
          ثُمَّ ساق مِنْ حديث جَرِيرٍ: (عَنْ مَنْصُورٍ مِثْلَهُ، تَابَعَهُ بِشْرٌ عَنِ ابْنِ المُبَارَكِ عَنْ شُعْبَةَ، وتَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدَةَ عَنْ شَقِيقٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم).
          وأخرجه مسلمٌ أيضًا والنَّسَائيُّ والتِّرْمِذيُّ.
          5033- ثالثها: حديثُ أبي أسامة حمَّاد بن أسامة (عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى ☺) وهو عبد اللهِ بن قيس بن سُلَيمٍ الأشعريُّ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: تَعَاهَدُوا القُرْآنَ، فَوَالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنَ الإِبِلِ فِي عُقُلِهَا).
          الشَّرح: المتابعة الأولى أخرجها الإسماعيليُّ بنحوها عن الفَرَبْريِّ حَدَّثنا مزاحِم بن سعيدٍ، حَدَّثنا عبد الله بن المبارك، حَدَّثنا شُعبة، والمتابعة الثَّانية أخرجها النَّسَائيُّ في «اليوم واللَّيلة» بنحوها عن عبد الوارث بن عبد الصَّمد عن أبي مَعمرٍ عن مُحمَّد بن جُحَادة عن عَبْدة به.
          فصلٌ: إنَّما شبَّه ◙ صاحب القرآن بصاحب الإبل المعقَّلة إن عاهد عليها أمسكها، وأنَّه يتفصَّى مِنْ صدور الرِّجال، لقوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5] فوصفه بالثِّقل، ولولا ما أعان عباده على حفظه ما حفظوه، قَالَ تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:17]، وَقَالَ: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر:17] فبتيسير الله تعالى وعونه لهم عليه بقي في صدورهم.
          وهذان الحديثان يُفسِّران آيات التَّنزيل، فكأنَّه قَالَ: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} إذا تُعُوهِد وقُرئ أبدًا وتُذكِّر.
          فصلٌ: وقوله: (أَشَدُّ تَفَصِّيًا) أي تفلُّتًا وذهابًا، وهو بالفاء والصَّاد المهملة، قَالَ صاحب «العين»: فصى اللَّحم مِنَ العظم: إذا انفسخ، والإنسان يتفصَّى مِنَ الشَّيء إذا تخلَّص منه، والاسم التَّفصية، والنعم الإبل والبقر لا واحد له مِنْ لفظه، والمعنى أنَّه شبَّه مَنْ يتفلَّت منه بعض القرآن بالنَّاقة الَّتي انفلتت مِنْ عقلها.
          فصلٌ: قوله: (آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ) هو مثلٌ إلَّا أنَّه لا يُقال للمؤنَّث، قاله الدَّاوُديُّ، وهي كلمةٌ يُعبَّر بها عن الجُمل الكَثيرة، قَالَ ثعلب: كيت كنايةٌ عن الأفعال، وذَيْتَ وذيت إخبارٌ عن الأسماء، وزعم أبو السَّعادات أنَّ أصلها كيَّة _بالتَّشديد_ والياء فيها بدلٌ مِنْ إحدى التَّاءين، والهاء الَّتي في الأصل محذوفةٌ، وقد تُضمُّ التَّاء وتُكسر.
          وقوله: (بَلْ هُوَ نُسِّيَ) يعني أنَّه عُوقب بالنِّسيان على ذنبٍ كان منه أو على سوء تعهُّده له والقيام بحقِّه، وقيل: إنَّه خاصٌّ بزمانه ◙ والقرآن ينسخ ويرفع فيذهب رسمه وتلاوته ويسقط حفظه عن حملته فيقول القائل منهم: نسيتُ آية كيت وكيت، فنهاهم عن هذا القول لئلَّا يتوهَّموا على محكم القرآن الضَّياع، فأعلمهم أنَّ الَّذي يكون مِنْ ذلك إنَّما هو بإذن اللهِ ولما رآه مِنَ الحكمة والمصلحة في نسخه ومحوه عن قلبه، وأمَّا قول المرء: نَسيتُ كذا، فجائزٌ قَالَ فتى موسى ◙: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} [الكهف:63].
          وَقَالَ القُرْطُبيُّ: اختلف العلماء في متعلَّق هذا الذَّنب، فقال بعضهم: هو على نسبة الإنسان لنفسه النِّسيان إذ لا صنع له فيه، فالَّذي ينبغي له أن يقول أُنسيت _مبنيًّا لما لم يُسمَّ فاعله_ وهذا ليس بشيءٍ لأنَّه ◙ قد نسب النِّسيان إلى نفسه ففي البُخاريِّ _كما سيأتي_ عن عائشة ♦: سمع ◙ رجلًا يقرأُ فقال: ((يرحمُه الله، لقد أذكرَني كذا وكذا آيةً أسقطتُهنَّ مِنْ سورة كذا))، وفي لفظٍ: ((أنسيتها))، وفي آخرَ زاد عَبَّاد بن عبد الله عن عائشة ♦: تهجَّد رسول الله صلعم فسمع صوت عَبَّاد بن بشرٍ يصلِّي في المسجد... الحديث.
          وقد نسبه الله تعالى له في قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى. إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ} [الأعلى:6-7] أن ينسيكه كما قرأت الجماعة {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة:106] بضمِّ النُّون وترك الهمزة، أي نُنْسِكَها، فلا كان هذا كأنَّه نهى عن ذلك القول لئلَّا يُتوهَّم في كثيرٍ مِنْ محكم القرآن أنَّه قد ضاع لكثرة النَّاسين وفيه بُعْدٌ، فمَنْ أضاف النِّسيان إلى الله فإنَّه خالقُه وخالقُ الأفعال كلِّها، ومَنْ نسبه إلى نفسه فلأنَّه فِعْلُه يُضاف مِنْ جهة الاكتساب والتَّصرُّف، ومَنْ نسب ذلك إلى الشَّيطان كما قَالَ يوشع: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} [الكهف:63] فلِمَا جعل اللهُ له مِنَ / الوسوسة؛ فلكلِّ إضافةٍ منها وجهٌ صحيحٌ، وقيل: إنَّما يكون نسيان القرآن لترك تعهُّده والغفلة عنه، كما أنَّ حفظه إنَّما يكون بتكراره والصَّلاة به، كما في حديث ابن عمر: ((إذا قام صاحبُ القرآن فقرأه باللَّيل والنَّهار ذكرَه، وإن لم يقم به نسيَه)).
          فإذا قَالَ الإنسان: نسيتُ آية كيت وكيت، فقد شهد على نفسه بالتَّفريطِ وتركِ معاهدته، وهو ذنبٌ عظيمٌ كما في حديث أنسٍ مِنْ عند التِّرْمِذيِّ مرفوعًا: ((عُرضَتْ عليَّ أعمال أمَّتي فلم أرَ ذنبًا أعظم مِنْ سورةٍ مِنَ القرآن أو آيةٍ أوتيها رجلٌ ثُمَّ نسيها)) وهو نصٌّ، وعلى هذا فتعلُّق الذَّمِّ تركُ ما أُمر به مِنِ استذكار القرآن وتعاهده، والنِّسيان تركُ ذلك، فتعلَّق الذَّمُّ عليه، ولا يُقال: حفظُ جميع القرآن ليس واجبًا على الأعيان فكيف يذمُّ مَنْ تغافل عن حفظه؛ لأنَّا نقول: مَنْ جمعه فقد علتْ رتبته وشَرُفَ في نفسه، وكيف لا، ومَنْ حفظه فقد أُدرجت النُّبوَّة بين جنبيه كما سلف، وصار ممَّن يُقال فيه: هو مِنْ أهل الله وخاصَّته، فإذا كان كذلك فمِنَ المناسب تغليظ العقوبة على مَنْ أخلَّ بمرتبته الدِّينيَّة ومؤاخذته ما لا يُؤاخذ به غيره، وترك معاهدة القرآن تؤدِّي إلى الرُّجوع إلى الجهالة، ويدلُّ على صحَّة ذلك قوله في آخر الحديث: (بَلْ نُسِّي)، وهذِه اللَّفظة رُوِّيناها مشدَّدةً مبنيَّةً لما لم يُسمَّ فاعلُه.
          قَالَ القُرْطُبيُّ: وقد سمعتها مِنْ بعض مَنْ لقيته بالتَّخفيف، وبه ضُبط عن أبي بحرٍ والتَّشديد لغيره، ولكلٍّ وجهٌ صحيحٌ، بالتَّشديد معناه أنَّه عوقب بتكثير النِّسيان عليه لمَّا تمادى في التَّفريط، والتَّخفيف معناه تركَ غير ملتفتٍ إليه ولا مُعتنٍ به، كما قَالَ تعالى: {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] أي تركهم في العذاب أو تركهم مِنَ الرَّحمة.