التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: أنزل القرآن على سبعة أحرف

          ░5▒ (بَاب: أُنْزِلَ القُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ).
          4991- ذكر فيه حديثَ ابن عبَّاسٍ ☻ أَنَّه صلعم قَالَ: (أَقْرَأنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَسْتِزِيدُهُ وَيَزِيدُنِي حتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَة أُحْرِفٍ).
          وسلف في بَدْءِ الخلق [خ¦3219]، وأخرجه مسلمٌ أيضًا.
          4992- وحديثَ عمرَ مع هشامٍ السَّالف في الخصومات [خ¦2419]، وَقَالَ هنا: (فَكِدْتُ أُساوِرُهُ فِي الصَّلاَةِ) أي أثبُ عليه، ومنه قوله تعالى: {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص:21].
          وفيه انقيادُ هشامٍ لعمرَ، وكانا مِنْ أصلب النَّاس، كان عمرُ إذا كره شيئًا يقول: لا يكون هذا ما بقيت أنا وهشام بن حَكيمٍ.
          وقد سلف اختلافُ العلماء في المراد بالأحرف السَّبعة، وقيل: سبعة معانٍ مختلفة كالأحكام والأمثال والقصص إلى غير ذلك، وهو خطأٌ لأنَّه أشار في الحديث إلى جواز القراءة بكلِّ حروفها، وقد قام الإجماع أنَّه لا يحلُّ إبدال آية أمثالٍ بآية أحكامٍ؛ قَالَ تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس:15]، وَقَالَ ابنُ شِهابٍ: بلغني أنَّه في الأمر الواحد لا يختلف في حلالٍ ولا حرامٍ، وإليه ذهب ابنُ مسعودٍ أنَّه يجعل مكان الكلمة كلمةً بمعناها، ورَوى ذلك عن مالكٍ ابنُ وهبٍ، قال: أقرأ ابنُ مسعودٍ رجلًا: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ. طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الواقعة:43-44] فجعل الرَّجل يقول: اليتيم، فقال له ابن مسعودٍ: طعام الفاجر، فقلت لمالكٍ: أترى أن يُقرأ كذلك؟ قَالَ: نعم، أرى ذلك واسعًا، والَّذي في «المدوَّنة» أنَّه منع مِنْ أن يأتمَّ بمَنْ يقرأ بقراءة ابن مسعودٍ، وَقَالَ: ليخرجْ ويدعْهُ.
          فصلٌ: هذا الحديث له طرقٌ أُخرُ، منها: روى مسلمٌ مِنْ حديث أُبيِّ بن كعبٍ أنَّه ◙ كان عند أضاة بني غِفارٍ، فأتاه جبريل فقال: ((إنَّ اللهَ يأمرك أن تقرأَ أمَّتُك على حرفٍ، فقال: أسألُ اللهَ معافاتَه ومغفرتَه، إنَّ أُمَّتي لا تطيقُ ذلك))، ثُمَّ أتاهُ ثانيًا فذكر نحوَ هذا حتَّى بلغ سبعةً، قَالَ: ((إنَّ اللهَ يأمرك أنْ تَقرأَ أُمَّتُك على سبعة أحرفٍ، فأيُّما حرفٍ قرؤوا عليه فقد أصابوا)).
          وفي كتاب أبي عمرٍو الدَّانيِّ، و«صحيح الحاكم» وابن حبَّان مِنْ حديث أبي سَلَمة عن ابن مسعودٍ مرفوعًا: ((كانَ الكتابُ أُنزل مِنْ بابٍ واحدٍ / على وجهٍ واحدٍ، ونزل القرآنُ مِنْ سبعة أبوابٍ على سبعةِ أحرفٍ: زاجرٍ وآمرٍ وحلالٍ وحرامٍ ومحكمٍ ومتشابهٍ وأمثالٍ)) قال الحاكم: صحيحٌ، وأخرجه النَّسَائيُّ موقوفًا مختصرًا، وابن الضُّرَيْس مرفوعًا: ((نزل القرآنُ على سبعةِ أحرفٍ))، وأخرجه عبَّاد بن يعقوب في «فضائل القرآن» مرفوعًا بزيادة: ((لكلِّ آيةٍ منه ظهرٌ وبطنٌ)).
          وروى أبو الوليد الطَّيَالسيُّ عن حمَّاد بن سلمة عن عليِّ بن زيدٍ عن عبد الرَّحْمَن بن أبي بَكْرة عن أبيه مرفوعًا: ((أُنزل القرآن على سبعة أحرفٍ))، وفي روايةٍ: ((إنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: يا مُحمَّد اقرأ القرآنَ على حرفٍ، فقال ميكائيلُ: استَزِدْهُ؛ فاستزادَه حتَّى بلغ سبعةَ أحرفٍ وكلٌّ شافٍ كافٍ ما لم تختمْ آيةَ رحمةٍ بآيةِ عذابٍ وآيةَ عذابٍ بآيةِ رحمةٍ: أقبل هلمَّ تعال ادْنُ أسرع أعجل))، وعن عُبادة بن الصَّامت مرفوعًا: ((استزدتُ جبريلَ حتَّى بلغ سبعةَ أَحرفٍ، وكلٌّ شافٍ كافٍ))، وعن عُبيد بن أبي يزيد عن أبيه قَالَ: حَدَّثتني أم أيُّوب أنَّه ◙ قَالَ: ((ونزل القرآن على سبعة أحرفٍ))، وعن قتادة عن الحسن عن سَمُرَة مرفوعًا: ((أُنزل القرآنُ على ثلاثة أحرفٍ))، وأخرجه ابن أبي شَيبة أيضًا، وله في كتاب «الثَّواب» عن أبي مَيْسرة: نزل القرآن لكلِّ لسانٍ، والبزَّار عن عمرَ مرفوعًا: ((أُنزل القرآنُ على سبعة أحرفِ))، ثُمَّ قَالَ: هذا الحديث إسنادُه حسنٌ، ولا نعلمه يُروى عن عمرَ إلَّا مِنْ هذا الوجه، وهذا الكلام قد رُوي عن أُبيٍّ وحذيفة وأبي هريرة وغيرهم، وذكرناه عن عمرَ لجلالة عمرَ وحُسن إسنادِه.
          فصلٌ: اختُلف في معنى قوله: (سَبْعَةِ أَحْرُفٍ) فالأكثرون _كما قَالَ المُنْذرِيُّ_ أنَّه حصرٌ للعدد، وقيل: توسعةٌ وتسهيلٌ لم يقصد به الحصر، ثُمَّ اختلفوا في تعيينها على ما سلف، ومنهم مَنْ جعلها في صورة التِّلاوة، ومنهم مَنْ جعلها في الألفاظ والحروف، وذكر ابنُ حبَّان البُسْتيُّ فيها خمسةً وثلاثين قولًا غيرَ أنَّ غالبها فيه تداخلٌ، وجائزٌ أن يكون منها لقريشٍ وكنانةَ وأسدٍ وهذيل وتيمٍ وضَبَّة وقيسٍ، فهذِه قبائل مُضَر.
          وَقَالَ ابن الجَوْزيِّ: يستوعب سبع لغاتٍ على هذِه المراتب، وقد جاء في حديث ابن عبَّاسٍ: أُنزل القرآن على لغة الكعبيِّين: كعب قريشٍ وكعب خُزاعة لأنَّ الدَّار واحدةٌ، وقد أسلفنا هناك عن أكثر العلماء أنَّها سبعة أوجهٍ مِنَ المعاني المتَّفقة المتقاربة، ونقله القُرْطُبيُّ أيضًا عن الأكثرين، وهو قول الطَّحَاويِّ، ويمكن أن يُقال: إنَّه ◙ سمعَها مِنْ جبريل في عرضاتٍ سبعٍ أو في واحدةٍ وأوقفَه على المواضع المختلف فيها، ثُمَّ لا يُشترط أن يكون اختلاف هذِه اللُّغات السَّبع في كيفيَّات الكلمات مِنَ الإظهار والإدغام والمدِّ والقصر والإمالة والفتح وبينَ بينَ، وتخفيفه بالحذف والبدل وبينَ بينَ، والإسكان والرَّوم والإشمام عند الوقف على أواخر الكَلِم، والسُّكوت على اللِّسان قبل الهمز وما أشبهه واختلاف الإعراب فقط، بل يجوز أن يكون في هذِه كلِّها وفي ألفاظٍ مترادفةٍ على معنًى واحدٍ، كما قُرئ {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ} [الجمعة:9]: {فَامْضُوا}، وهذا يدلُّ _كما قَالَ أبو عبد اللهِ القُرْطُبيُّ_ على أنَّ السَّبعة الَّتي أُشير إليها في الحديث ليس بأيدي النَّاس منها إلَّا حرفٌ الَّذي جمع عليه عثمانُ المصاحف.
          وَقَالَ الطَّحَاويُّ: إنَّما كانت سبعةً للنَّاس في الحروف لعجزهم عن أخذ القرآن العظيم على غير لغاتهم، لأنَّهم كانوا أمِّيِّين لا يكتبُ إلَّا القليلُ منهم، فكان يشقُّ على كلِّ ذي لغةٍ أن يتحوَّل إلى غيرها مِنَ اللُّغات، ولو رام ذلك لم يتهيَّأ له إلَّا بمشقَّةٍ عظيمةٍ، فَوسَّع لهم في اختلاف الألفاظ إذ كان المعنى متَّفقًا، وكانوا كذلك حتَّى كثُر مَنْ يكتب منهم وحتى عادت لغاتهم إلى لسان رسول اللهِ صلعم، فقدروا بذلك على تحفُّظ ألفاظه فلم يسعْهم حينئذٍ أن يقرؤوا بخلافها. قَالَ أبو عمرَ: فلمَّا ارتفعت تلك الضَّرورة ارتفع حكم هذِه السَّبعة الأحرف وعاد القرآنُ حرفًا واحدًا.
          قَالَ أبو العبَّاس: وأمَّا القراءات السَّبع الَّتي تُنسب لهؤلاء القرَّاء السَّبعة، فقال كثيرٌ مِنْ علمائنا كالدَّاوُديِّ والمُهَلَّب وغيرِهما: إنَّها ليست مِنَ الأحرف السَّبعة الَّتي اتسعت الصَّحابة في القراءة بها، وإنَّما هي راجعةٌ إلى حرفٍ واحدٍ مِنْ تلك السَّبعة الَّتي جمع عليها عثمان المصاحف، ذكرَه النَّحَّاس وغيره، وهذِه القراءات هي اختيارات أولئك السَّبعة، وذلك أنَّ كلَّ واحدٍ منهم اختار فيما روى وعَلم وجهه مِنَ القراءات ما هو الأحسن عنده والأولى، فالتزم طريقَه ورواه وأقرأَ به فاشتهر عنه وعُرف به ونُسب إليه، فقيل: حرفُ نافعٍ، وحرفُ ابنِ كَثيرٍ، ولم يمنع أحدٌ اختيارَ الآخر _وكلٌّ صحيحٌ_ ولا أنكرَه، بل سوَّغه وجوَّزه، وكلُّ واحدٍ مِنْ هؤلاء السَّبعة رُوي عنه اختياران أو أكثر وكلٌّ صحيحٌ، وقد أجمع المسلمون في هذِه الأعصار على الاعتماد على ما صحَّ عن هؤلاء الأئمَّة مما روَوه ورأَوه مِنَ القراءات، وكتبوا في ذلك مصنَّفاتٍ، فاستمر الإجماعُ على الصَّواب، وحصل ما وعد اللهُ به مِنْ حفظ الكتاب.
          وَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: قد أكثر النَّاس في تأويل هذا الحديث، ولم أجد فيه قولًا يسلم مِنَ المعارضة، وأحسن ما رأيتُ فيه ما نقلَه أبو عمرٍو الدَّانيُّ في بعض كتبه ولم يُسمِّ قائله قَالَ: إنَّي تدبَّرت معنى هذا الحديث وأنعمت النَّظر فيه بعد وقوفي على أقاويل السَّلف والخلف، فوجدته متعلِّقًا بخمسة أوجهٍ وهي محيطةٌ بجميع معانيه: ما معنى الأحرف وكيف تأويلها؟ ما وجه إنزال القرآن على هذِه الأحرف السَّبعة؟ وما المراد بذلك في أيِّ شيءٍ يكون اختلافها؟ وعلى كم معنًى يشتمل اختلافها؟ وهل هي كلُّها متفرِّقةٌ في القرآن موجودةٌ فيه في ختمةٍ واحدةٍ حتَّى إذا قرأ القارئ بأيِّ حرفٍ مِنْ حروف الأئمة القُرَّاء بالأمصار المجمع على إمامتهم فقد قرأ بها كلِّها، أم ليست كلُّها متفرِّقةً فيه وموجودةً في ختمةٍ واحدةٍ.
          فأمَّا الأوَّل فهو يتوجَّه على وجهين، أحدهما: سبعةُ أوجهٍ مِنَ اللُّغات، وهذا قدَّمناه عنه بدليل قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] أي الوجه والنِّعمة.
          الثَّاني: أن يكون الشَّارع سمَّى القراءات أحرفًا على طريق السَّعة مجازًا كما يسمُّون الرِّسالة والخُطبة كلمةً إذ كانت الكلمة منها، قَالَ تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:137]، وقيل: المراد بهذه الكلمة {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ...} الآية [القصص:5]، وَقَالَ مجاهدٌ في قوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح:26]: لا إله إلَّا الله.
          وأمَّا الثَّاني: فهو توسعةٌ مِنَ اللهِ على عباده لِما هم عليه مِنِ اختلاف اللُّغات، وقد روى أبو عُبيد مِنْ حديث حذيفة مرفوعًا: ((لقيت جبريل عند أحجار المراء فقلت: يا جبريل، إنِّي أُرسلت إلى أمَّةٍ أُمِّيَّةٍ: الرَّجل والمرأة والغلام والجارية والشَّيخ الفاني الَّذي لم يقرأ كتابًا قطُّ، قَالَ: إنَّ القرآن أُنزل على سبعة أحرفٍ)).
          ويمكن أن تكون هذِه السَّبعةُ أوجهٍ مِنَ اللُّغات، وذكر ثابتٌ في هذا المعنى أنَّه يريد _والله أعلم_ على لغات شعوبٍ مِنَ العرب سبعةٍ أو جماهيرها _كما قَالَ الكَلْبيُّ_ خمسةٌ منها بهوازنَ وحرفان لسائر النَّاس، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نزل على سبعة أحرفٍ صارت في عجز هوازنَ منها خمسةٌ، وَقَالَ أبو حاتمٍ: عجز هوازنَ: ثقيفٌ وبنو سعد / بن بكرٍ وبنو جُشَم وبنو نضرٍ، خصَّ هؤلاء دون ربيعة وسائر العرب لقرب جوارهم مِنْ مولد رسول اللهِ صلعم ومنزل الوحي، وإنَّما مضر وربيعة أخَوان، وَقَالَ قتادة: عن سعيد بن المُسَيِّب قَالَ: نزل القرآن على لغة هذا الحيِّ مِنْ لدن هوازنَ وثقيفٍ إلى ضريَّة.
          وأمَّا الثَّالث فإنَّها تكون في أوجهٍ كثيرةٍ، منها: تغيير اللَّفظ نفسِه كـــ{مَلِكِ} و{مَالِكِ} [الفاتحة:4]، و{الصِّرَاطَ} [الفاتحة:6] بالسِّين والصَّاد والزَّاي.
          ومنها: الإثبات والحذف، {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا} [البقرة:116]، {وَسَارِعُوا} [آل عمران:133] {وَالَّذينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا} [التوبة:107] بالواو ودونه.
          ومنها: تبديل الأدوات كقوله: {فَتَوكَّلْ عَلَى العَزِيزِ الرَّحِيمِ} {وَتَوَكَّلْ} [الشعراء:217] {فَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس:15] بالفاء والواو.
          ومنها: التَّوحيد والجمع، كالرِّيح والرِّياح، {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} {رِسَالَاتِهِ} [المائدة:67]، و{آيةٌ للسَّائِلينَ} و{آيَاتٌ} [يوسف:7].
          ومنها: التَّذكير والتَّأنيث {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة:48] بالتَّاء والياء، و{فَنَادَاهُ الْمَلائِكَةُ} و{فَنَادَتْهُ} [آل عمران:39]، {وَاسْتَهْوَاهُ الشَّيَاطِينُ} و{اسْتَهْوَتْهُ} [الأنعام:71].
          ومنها: التَّشديد والتَّخفيف {بِمَا كَانُوا يُكَذِّبونَ} [البقرة:10] {وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ} [البقرة:102] ({وَلَكِنَّ الْبِرَّ}) [البقرة:177].
          ومنها: الخطاب والإخبار {وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74] و{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة:76]، {وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13].
          ومنها: الإخبار عن النَّفس كقوله: {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} [يوسف:56] بالنُّون والياء {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ} [يونس:100] بالنُّون واليَّاء.
          ومنها: التَّقديم والتَّأخير كقوله: و{قُتِلُوا وقَاتَلُوا} {وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} [آل عمران:195]، و{فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة:11]، وكذا {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَائِهِمْ} و{قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام:137] وشبه ذلك.
          ومنها: النَّهي والنَّفي كقوله: {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة:119] بالجزم على النَّهي وبالرَّفع على النَّفي، {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26] بالتَّاء والجزم على النَّهي، وبالياء والرَّفع على النَّفي.
          ومنها: الأمر والإخبار كقوله: {وَاتَّخَِذُوا} [البقرة:125] بكسر الخاء وفتحها، و{قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي} [الإسراء:93]، و{قَلَ رَبِّي يَعْلَمُ} [الأنبياء:4] الأمر، و{قَالَ} على الخبر وشبهه.
          ومنها: تغيير الإعراب وحده كــ{وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} [البقرة:240] بالنَّصب والرَّفع، و{تِجَارَةً حَاضِرَةً} [البقرة:282] بهما، و{أَرْجُلِكُمْ} [المائدة:6] بالنَّصب والجرِّ.
          ومنها: تغيير الحركات اللَّوازم كقوله: {وَلَا يَحْسَبَنَّ} [آل عمران:178] بكسر السِّين وفتحها، {وَمَنْ يَقْنَطُ} [الحجر:56]، و{يَقْنَطُونَ} [الروم:36] بكسر النُّون وفتحها، و{يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137] و{يَعْكُفُونَ} [الأعراف:138] بكسر الرَّاء والكاف وضمِّهما، و{الْوَلَايَةُ} [الكهف:44] بكسر الواو وفتحها.
          ومنها: التَّحريك والتَّسكين كـــ{خُطُْـوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:168] بضمِّ الطَّاء وإسكانها و{عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَْرُهُ} [البقرة:236] بفتح الدَّال وإسكانها.
          ومنها: الإتباعُ وتَرْكه {فَمَنِ اضْطُرَّ} [البقرة:173] و{أَنِ اعْبُدُوا} [المائدة:117] {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ} [الأنعام:10] بالضِّمِّ والكسر؛ فالضَّمُّ لالتقاء السَّاكنين إِتْباعًا لضمِّ ما بعدها، والكسرُ للسَّاكن مِنْ غير إتْباعٍ.
          ومنها: الصَّرف وتركه كـــ{عَادًا وَثَمُودًا} [الفرقان:38] و{أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ} [هود:68] بالتَّنوين وتركه.
          ومنها: اختلاف اللُّغات كـــ{وَجِبْرِيلَ}.
          ومنها: التَّصرُّف في اللُّغات نحو الإظهار إلى آخر ما سلف.
          وقد ورد التَّوقيف عن الشَّارع بهذا الضَّرب مِنَ الاختلاف وأذن فيه لأمَّته في الأخبار الثَّابتة، وقد روى أبو عُبيدٍ عن نُعَيْم بن حمَّادٍ: حَدَّثنا بَقِيَّة عن حُصَين بن مالكٍ قَالَ: سمعت شيخًا يُكنى أبا مُحمَّدٍ عن حذيفة رفعَه: ((اقرؤوا القرآنَ بلُحون العربِ وأصواتِها)) مذاهبها وطباعها.
          ووجه هذا الاختلاف في القرآن أنَّه ◙ كان يعرض القرآن على جبريل في كلِّ عامٍ عرضةً، وفي عام موته عرضتين، وكان جبريل يأخذ عليه في كلِّ عرضةٍ بوجهٍ مِنْ هذه الوجوه والقراءات المختلفة ولذلك قَالَ: إنَّ القرآنَ أنزل عليها، وإنَّها كلُّها كافٍ شافٍ، وأباح لأمَّته القراءة بما شاءت منها مع الإيمان بجميعها إذ كانت كلُّها مِنْ عند اللهِ منزَّلةً ومنه ◙ مأخوذةً، ولم يلزم أمَّته حفظها كلَّها ولا القراءة بأجمعها، بل هي مخيَّرةٌ في القراءة بأيِّ حرفٍ شاءت منها، كتخييرها في كفَّارة حنث اليمين والفدية، ألَا ترى أنَّه ◙ صوَّب مَنْ قرأ ببعضها كما صوَّب قراءةَ هشامٍ وعمرَ حين تناكرا القراءة، وأقرَّ أنَّه كذلك قُرئ عليه، وكذا أنزل عليه.
          وأمَّا الرَّابع فإنَّه يشتمل على ثلاث معانٍ: اختلافُ اللَّفظ والمعنى واحدٌ كـــ{الصِّرَاطَ} كما سلف، و{عَلَيْهِمْ} و{إِلِيْهُمْ} بضمِّ الهاء مع إسكان الميم وبكسر الهاء مع ضمِّ الميم وإسكانها وشبه ذلك.
          اختلافهما جميعًا مع جواز اجتماعهما في شيءٍ واحدٍ لعدم تضادِّ اجتماعهما فيه كـــ{مَالِكِ} و{مَلِكِ}، فإنَّ المراد الرَّبُّ تعالى، وكذا {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10] لأنَّ المراد المنافقون، وذلك أنَّهم كانوا يَكذِبون في أخبارهم ويُكذِّبون رسول اللهِ صلعم.
          اختلافهما جميعًا مع الامتناع كقوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا} [يوسف:110] بالتَّشديد.
          وأمَّا الخامس: فلأنَّه لا يمكن القراءة بها في ختمةٍ واحدةٍ، فإذا قرأ القارئ بروايةٍ مِنْ رواية القرَّاء فإنَّما قرأ ببعضها لا بكلِّها لأنَّا قد أوضحنا أنَّ المراد بالسَّبعة أحرفٍ سبعةُ أوجهٍ مِنَ اللُّغات، كنحو اختلاف الإعراب والحركات والسُّكون وغيرها ممَّا قدَّمناه، وإذا كان كذلك فمعلومٌ أنَّه مَنْ قرأ بوجهٍ مِنْ هذه الأوجه، فإنَّه لا يمكنه أن يحرِّك الحرف ويُسكِّنه في حالةٍ واحدةٍ أو يقدِّمه ويؤخِّره أو يظهره ويدغمه إلى غير ذلك.
          غير أنَّا لا ندري أيُّ هذه السَّبعة كان آخرَ العرض، وأنَّ جميع هذه الأحرف قد ظهر واستفاض عن رسول اللهِ صلعم وضبطتها الأمَّة على اختلافها عنه، وأنَّ معنى إضافة كلِّ حرفٍ منها إلى ما أُضيف إليه كأُبَيٍّ وزيدٍ وغيرهم مِنْ قِبل أنَّه كان أضبط له وأكثر قراءةً وأقرأ به، وكذلك إضافة القراءات إلى أئمَّة الأمصار إضافة اختيار.