شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب إذا رأى الإمام رجلًا جاء وهو يخطب أمره أن يصلى ركعتين

          ░32▒ باب: إِذَا رَأى الإمَامُ رَجُلا وَهُوَ يَخْطُبُ، أَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ.
          فيه: جَابِر قَالَ: (جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ صلعم، يَخْطُبُ النَّاسَ(1)، قَالَ: صَلَّيْتَ يَا فُلانُ؟ فَقَالَ: لا، قَالَ: قُمْ فَارْكَعْ). [خ¦930]
          وترجم له: باب من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين.
          وقال فيه(2): فصل رَكْعَتَيْنِ(3). [خ¦931]
          اختلف العلماء في معنى هذا الحديث، فقال قوم بظاهره وقالوا: من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين، وذلك سنة معمول بها، رُوي هذا عن الحسن ومكحول / وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وطائفة من أهل الحديث. وفيه قول ثان، قال الأوزاعي: من ركعهما في بيته، ثم دخل المسجد والإمام يخطب قعد ولم يركع، وإن لم يكن ركعهما(4) ركعهما في المسجد لأنه ◙ إنما أمره بالركوع حين ذكر له أنه لم يصل في بيته. وفيها(5) قول ثالث، قال أبو مجلز: إن شئت فاركع وإن شئت فاجلس. وفيها(6) قول رابع: أنه يجلس ولا يركع وهو قول الجمهور، ذكره ابن أبي شيبة عن عمر وعثمان وعلي بن أبي طالب وابن عباس، ومن التابعين عن عطاء(7) والنخعي وابن سيرين وشريح وعروة وسعيد بن المسيب، وهو قول مالك والليث(8) والكوفيين. واحتج بعض أهل هذه المقالة أن(9) النبي صلعم، إنما أمره بالصلاة لبذاذة هيئته فأراد أن يفطن الناس له(10) ويتصدقوا عليه، وروى ذلك ابن عجلان(11) عن عياض بن عبدالله عن أبي سعيد الخدري: ((أن رجلًا دخل المسجد ورسول الله صلعم على المنبر، فأمره النبي صلعم، أن يدنو منه، فأمره فركع(12) ركعتين قبل أن يجلس وعليه خرقة خلق، ثم صنع مثل ذلك في الثانية، فأمره بمثل ذلك، ثم صنع مثل ذلك في الجمعة الثالثة، فأمره النبي صلعم بمثل ذلك، وقال للناس: تصدقوا، فألقي(13) الثياب، فأمره النبي صلعم فأخذ ثوبين، فلما كان بعد ذلك أمر الناس أن يتصدقوا، فألقى الرجل أحد ثوبيه فغضب رسول الله صلعم ثم أمره(14) أن يأخذ ثوبه)).
          قال الطحاوي: وقد يجوز أن يكون النبي صلعم أمر سُليكًا بالصلاة فقطع خطبته ثم استأنف(15)، وقد يجوز أن يكون بنى عليها، وكان ذلك قبل أن يُنسخ الكلام في الصلاة، ثم نُسخ الكلام في الصلاة فنُسخ أيضًا في الخطبة، وقد يجوز أن يكون ما قال أهل المقالة الأولى ويكون سنة معمولًا بها، فنظرنا هل روى شيئًا(16) يخالف ذلك؟ فإذا بحر ابن نصر(17) حدَّثنا عن عبدالله بن وهب قال: سمعت معاوية بن صالح يحدث عن أبي الزاهرية عن عبدالله بن(18) بشر(19) قال: ((جاء رجل فتخطى(20) رقاب الناس يوم الجمعة، فقال له رسول الله صلعم: اجلس فقد آذيت))، فأمره النبي صلعم بالجلوس ولم يأمره بالصلاة، وهذا يخالف حديث سليك، وكذلك حديث أبي سعيد الخدري يدل أن ذلك كان في حال إباحة الأفعال في الخطبة قبل أن يُنهى عنها، وقد أجمع المسلمون أن نزع الرجل ثوبه، والإمام يخطب مكروه وأن مسَّه الحصى، وقوله لصاحبه: أنصت في الخطبة مكروه(21).
          قال الطحاوي: والدليل على أنه كان وقت إباحة الكلام في الخطبة أنه ذكر في حديث أبي سعيد الخدري: ((أن النبي صلعم(22)، أتى بالصدقة فأعطى منها رجلًا ثوبين، فلما كانت الجمعة طرح الرجل أحد ثوبيه فصاح النبي صلعم به، وقال: خذه، ثم قال: انظروا إلى هذا جاء تلك الجمعة))، وذكر الحديث، ولا نعلم خلافًا أن مثل هذا الكلام محظور في الخطبة لقوله صلعم: ((إذا قلت لصاحبك(23): أنصت والإمام يخطب(24) في الخطبة(25) فقد لغوت)). ومن طريق النظر، فقد رأيناهم(26) لا يختلفون أن من كان في المسجد قبل أن يخطب الإمام، فإن الخطبة تمنعه من الصلاة، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك من دخل المسجد، والإمام يخطب أن(27) لا يصلي لأنه داخل في غير موضع صلاة، والأصل المتفق عليه أن الأوقات التي تمنع من الصلوات يستوي فيها من كان قبلها في المسجد، ومن دخل(28) فيها في المسجد في المنع من الصلاة. فإن قال قائل: إنما(29) أمره(30) صلعم، أن يركع لقوله ◙: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس)).
          قيل له: إنما هذا(31) لمن دخل في(32) المسجد في وقت تحل فيه الصلاة، ألا ترى أن من دخل المسجد عند طلوع الشمس وعند غروبها وفي الأوقات المنهي عن الصلاة فيها أنه لا ينبغي له الصلاة، وليس كمن(33) أمره النبي صلعم بالركوع لدخوله المسجد. قال غيره: في(34) حديث جابر حجة لمن أجاز للخطيب يوم الجمعة أن يتكلم في خطبته بما عرض له من كلام من غير جنس الخطبة ما(35) فيه نفع للناس وتعليم لهم، وقد رُوي عن علي بن أبي(36) طالب ذلك حين تخطى الأشعث بن قيس رقاب الناس، ذكره الطبري.
          وفي «المدونة»: جائز أن يتكلم الإمام في خطبته لأمر أو نهي، ولا يكون لاغيًا، ومن كلَّمه الإمام فردَّ عليه لم يكن لاغيًا.


[1] زاد في (م): ((يوم الجمعة))، و قوله: ((قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ ◙، يَخْطُبُ النَّاسَ)) ليس في (ق).
[2] زاد في (م) و(ق): ((قم)).
[3] قوله: ((وقال فيه: فصل رَكْعَتَيْنِ)) ليس في (ص).
[4] في (م) و(ق): ((ركع)).
[5] في (م) و(ق): ((وفيه)).
[6] في (م) و(ق): ((وفيه)).
[7] في (م) و(ق): ((وابن عباس وعن عطاء)).
[8] زاد في (م) و(ق): ((والثوري)).
[9] في (م) و(ق): ((بأن)).
[10] في (ق): ((له الناس)).
[11] في (م): ((روى ابن عجلان))، و في (ق): ((روى عجلان)).
[12] في (ص): ((أن يركع)).
[13] في (م) و(ق): ((فألقوا)).
[14] في (ق): ((فأمره)).
[15] في (م) و(ق): ((استأنفها)).
[16] في (ق) و(م): ((هل روي شيء)).
[17] صورتها في (ز): ((بحرب نصر)).
[18] قوله: ((بن)) ليس في (م).
[19] في (ق): ((أسر))، وفي (م) و(ص): ((بسر)).
[20] في (م) و(ق): ((يتخطى)).
[21] قوله: ((وأن مسَّه الحصى، وقوله لصاحبه: أنصت في الخطبة مكروه)) ليس في (ص).
[22] قوله: ((الخدري أن النبي ◙)) ليس في (م) و(ق).
[23] في (ص): ((لأخيك)).
[24] قوله: ((يخطب)) ليس في (ص).
[25] قوله: ((في الخطبة)) ليس في (م) و(ق).
[26] في (م): ((النظر فرأيناهم)).
[27] قوله: ((أن)) ليس في (ق) و(م).
[28] قوله: ((ومن دخل)) ليس في (م).
[29] في (م) و(ق): ((فإن قيل أنما)).
[30] زاد في (م) و(ق): ((النبي)).
[31] في (ق): ((هو)).
[32] قوله: ((في)) ليس في (م) و(ق).
[33] في (م) و(ق): ((ممن)).
[34] في (م) و(ق) و(ص): ((وفي)).
[35] في (ق) و(م): ((بما)).
[36] قوله: ((أبي)) ليس في (م).