شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب فضل الجمعة

          ░4▒ باب: فَضْلِ الْجُمُعَةِ.
          فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ النبي صلعم: (مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ(1)، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإمَامُ حَضَرَتِ الْمَلائِكَةُ يَسْمعُونَ(2) الذِّكْرَ). [خ¦881]
          وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ: (أَنَّ عُمَرَ بْنُ الْخَطَّابِ بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دَخَلَ رَجُلٌ(3)، فَقَالَ عُمَرُ(4): لِمَ تَحْتَبِسُونَ عَنِ الصَّلاةِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا هُوَ إِلا أَنْ سَمِعْتُ النِّدَاءَ تَوَضَّأْتُ(5)، فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَع(6) النَّبِيَّ صلعم، قَالَ(7): إِذَا رَاحَ أَحَدُكُمْ إلى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ؟). [خ¦882]
          قال المؤلف(8): فيه الحض على الاغتسال للجمعة والتبكير إليها، وقوله: (كَغُسْلِ(9) الْجَنَابَةِ)، فإنما(10) يعني(11): في العموم والإسباغ لا في الوجوب لما قدمناه قبل هذا.
          واختلف العلماء في الساعات المذكورة في هذا الحديث التي يكون الرواح فيها، فذهبت طائفة(12) إلى أنها من أول طلوع الشمس، هذا قول الكوفيين والشافعي، وأجاز الشافعي البكور إليها قبل طلوع الشمس، وقال مالك: لا يكون الرواح إلا بعد الزوال، والذي يقع في قلبي أنه أراد صلعم ساعة واحدة فيها هذا التفسير(13).
          قال الخطابي: وحجة مالك في(14) أن هذه الساعات كلها في ساعة واحدة قولهم: جئت من(15) ساعة، وقعدت عند فلان ساعة، يريد به(16) جزءًا من الزمان غير معلوم دون الساعات التي هي أوراد الليل والنهار وأقسامها(17).
          واختار ابن حبيب القول الأول، واحتج له بأن ابن(18) عمر سئل(19) متى أروح؟ فقال(20): إذا صليت الغداة فَرُحْ إن شئت، قال ابن حبيب: وتأويل مالك محال(21) وتحريف لوجه الحديث، وذلك أنه لا تكون ساعات في ساعة واحدة، والشمس إنما تزول في الساعة(22) السادسة من النهار وهو وقت الأذان وخروج الإمام إلى الخطبة.
          وقول ابن حبيب خطأ لا خفاء به لأن أهل العلم بالأوقات والحساب لا يختلفون أن الشمس إنما تزول في أول الساعة السابعة، وتقع(23) الصلاة إذا فاء الفيء ذراعًا وذلك في الساعة الثامنة بعد مسير خمسها في زمن الصيف، وبعد مسير نصفها في زمن الشتاء.
          قال المُهَلَّب: ومفهوم(24) الرواح في لسان العرب يرد قول(25) ابن حبيب لأنهم لا يسمون الرواح إلا عند الزوال والغدو في أول النهار، ولا يسمّون الغدو رواحًا، قال الله ╡: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}[سبأ:12]، فدل أن الغدو خلاف الرواح، والفرق بينهما مستفيض في كلام الناس. والآثار الصحاح تشهد لقول مالك والفعل(26) بالمدينة لأنه أمر متردد في كل جمعة لا يخفى على عامة العلماء، وروى(27) أشهب عن مالك قال: التهجير إلى الجمعة ليس هو الغدو، ولم يكن الصحابة يغدون هكذا.
          وروى(28) الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، عن النبي صلعم، قال: ((إذا كان يوم الجمعة قام على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول، فالمهجر إلى الجمعة كالمُهدي بدنة، ثم الذي يليه كالمهدي بقرة، ثم الذي يليه كالمهدي كبشًا)) إلى آخر الحديث.
          و (المُهَجِّر)(29): مأخوذ من الهاجرة والهجير، وذلك وقت المسير إلى الجمعة، ولا يجوز أن يسمى عند طلوع الشمس هاجرة ولا هجيرًا، وقال في الحديث: ((ثم الذي يليه(30)))، ولم يذكر الساعات، فدل على صحة قول مالك.
          قال المُهَلَّب: وفيه دليل على أن المسارع إلى طاعة الله والمسابق(31) إليها / أعظم أجرًا، ألا ترى أنه قد مثل ذلك بهدي(32) البدنة، ثم الرائح بعده كمهدي(33) البقرة إلى البيضة، فأراد ◙ أن يرى(34) فضل ما بين البقرة والبدنة(35)، ويدل على تفاوت ما بين السابق والمسبوق في الفضل، وجعل الرواح إلى خروج الإمام.
          وقوله: (فَإِذَا(36) خَرَجَ الإمَامُ طُوِيَت الصُّحُف) فدل على أنه(37) من أتى والإمام في الخطبة أن أجره أقل من أجر من أتى قبله لأن الملائكة لم تكتبه في صحفها، وإنما يكون له أجر من أدرك(38) الصلاة لا أجر(39) المسارع.
          وقوله: (حَضَرَتِ الْمَلائِكَةُ، يَسْتمعُونَ(40) الذِّكْرَ)، يعني: الخطبة، وقد بين(41) ذلك في حديث ابن المسيب عن أبي هريرة وقال: ((يستمعون الخطبة)).
          وقد احتج بهذا الحديث مَن فَضَّل البدن على البقر، والبقر على الضأن في الضحايا، وهو قول الكوفيين(42) والشافعي، واحتجوا بالإجماع على أن أفضل الهدايا: الإبل، وقالوا: ما استيسر من الهدي: شاة، فدل ذلك على نقصان مرتبتها عما هو أعلى منها، وذهب مالك إلى أن أفضل الضحايا: الضأن، وقال تعالى(43): {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}[الصافات:107]، وهو(44) كبش لا جمل ولا بقرة، وقال: لو علم الله حيوانًا(45) أفضل من الكبش لفدى به إسحق.
          وقوله: (مَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، كَمَنْ أَهْدَى دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ(46) فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ، كَمَنْ أَهْدَى بَيْضَةً)، واسم الهدي لا يقع على الدجاجة والبيضة، وأما الغنم فقد اختلف(47) العلماء فيها، فقال بعضهم: ليست بهدي والأكثرون منهم يجعلونها هديًا، وثمرة هذا الخلاف أن يوجب الرجل على نفسه هديًا، فإذا ذبح شاة أجزأه عن نذره في قول من رآها هديًا، ولا يجزئه في قول الآخرين إلا بدنة أو بقرة، ذكره الخطابي.
          وقوله: (أَهْدَى دَجَاجَةً وَبَيْضَة)، فمن المحمول على حكم(48) ما تقدمه من الكلام كقوله(49): أكلت طعامًا وشرابًا، والأكل إنما يصرف(50) إلى الطعام دون الشراب، إلا أنه لما عطف به على المذكور قبله حُمِل على حكمه كقولهم: متقلدًا سيفًا ورمحًا، والرمح لا يتقلد إنما يحمل، ومثله:
زَجَّجْنَ(51) الحواجبَ والعيونا
          أي: كحلن(52) العيونا.


[1] قوله: ((أقرن)) ليس في (ص).
[2] في (ق) و(م) و(ص): ((يستمعون)).
[3] في (ق) و(م): ((الجمعة إذ جاء رجل)).
[4] زاد في (م): ((بن الخطاب)).
[5] في (ق) و(م): ((فتوضأت)).
[6] في (ق) و(م): ((تسمعوا)).
[7] في (ق) و(م): ((يقول)).
[8] قوله: ((قال المؤلف)) ليس في (ق) و(م).
[9] في (ق) و(م): ((غسل)).
[10] قوله: ((فإنما)) ليس في (ق) و(م).
[11] زاد في (م): ((كغسل الجنابة)).
[12] قوله: ((طائفة)) ليس في (ق).
[13] في (ق) و(م): ((التقسيم)).
[14] قوله: ((في)) ليس في (ص).
[15] في (م): ((منذ)).
[16] قوله: ((به)) ليس في (ق) و(م) و(ص).
[17] في (ق): ((واقتسامها)).
[18] قوله: ((ابن)) ليس في (ق).
[19] في (م): ((قيل له)).
[20] في (ص): ((قال)).
[21] في (ق): ((مخالف)).
[22] قوله: ((الساعة)) ليس في (ق).
[23] في (ق) و(م): ((في آخر الساعة السادسة ثم تقع)).
[24] في (ق): ((ومعلوم)).
[25] في (ق): ((العرب وقول)).
[26] في (ق) و(م): ((والعمل)).
[27] في (ق) و(م): ((روى)).
[28] في (ق): ((روى)).
[29] في (ق) و(م): ((فقوله المهجر)).
[30] زاد في (ق) و(م): ((ثم الذي يليه)).
[31] في (ص): ((السابق)).
[32] في (م): ((بمهدي)).
[33] في (م): ((بمهدي)).
[34] في (ص): ((يُري)).
[35] زاد في (م): ((والبيضة)).
[36] في (ص): ((إذا)).
[37] في (ق) و(م): ((يدل أنه)).
[38] في (ق) و(م): ((أجر مدرك)).
[39] زاد في (ق) و(م): ((المبادر)).
[40] في (م): ((يسمعون)).
[41] في (ق) و(م): ((تبين)), زاد في (ص): ((في)).
[42] في (م): ((للكوفيين)).
[43] في (ق) و(م): ((الضأن واحتج بقوله تعالى)).
[44] في (ق) و(م): ((وذلك)).
[45] زاد في (ص): ((هو)).
[46] قوله: ((من راح)) ليس في (ص).
[47] في (ص): ((فاختلف)).
[48] قوله: ((حكم)) ليس في (ص).
[49] في (ق) و(م): ((كقولك)).
[50] في (م): ((ينصرف)).
[51] في (ق) و(م): ((وزججن)).
[52] في (ق) و(م): ((وكحَّكلن)).