شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب شرب السم والدواء به وبما يخاف منه والخبيث

          ░56▒ بابُ شُرْبِ السُّمِّ وَالدَّواءِ بِهِ وَمَا يُخَافُ مِنهُ وَالخَبِيثِ.
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبيُّ صلعم: (مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ في نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَه، فَسُمُّهُ في يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ في نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا(1) فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ في يَدِهِ، يَجَأُ بِهَا في بَطْنِهِ في نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا(2)). [خ¦5778]
          وفيه: سَعْدٌ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (مَنِ اصْطَبَحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتِ عَجْوَةٍ لَمْ يَضُرُّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سَمٌّ وَلَا سِحْرٌ). [خ¦5779]
          قال المؤلِّف: هذا الحديث يشهد لصحَّة نهي الله تعالى في كتابِه المؤمن عن قتل نفسِه فقال تعالى: {وَلَاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا. وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوفَ نُصْلِيْهِ نَارًا(3)} الآية[النساء:29-30]فأمَّا مَن شرب سمًّا للتَّداوي به(4) ولم يقصد به قتل نفسِه وشرب منه مقدارًا لا يقتل مثلُه، أو خلطَه بغيره ممَّا يكسر ضرَّه فليس بداخل في الوعيد لأنَّه لم يقتل نفسَه غير أنَّه يُكرَه له ذلك لما روى التِّرمذي قال: حدَّثنا سُويد بن نصر حدَّثنا ابن المبارك عن يونس بن أبي إسحاق عن مجاهد عن أبي هريرة قال: ((نَهَى النَّبيُّ صلعم عَنِ الدَّوَاءِ الخَبِيْثِ)).
          قال أبو عيسى: يعني: السُّمَّ، وقد تعلَّق بقوله: (خَالِدًا مُخَلَّدًا) في حديث أبي هريرة مَن أنفذ الوعيد على القاتل، وهو قول رُوي عن قوم مِن الصَّحابة قد ذكرناهم(5) في أوَّل كتاب الدِّيات، وجمهورُ التَّابعين وجماعةُ الفقهاء على خلافه، ولا يجوز عندهم إنفاذ الوعيد على القاتل، وأنَّه في مشيئة الله تعالى لحديث عبادة بن الصَّامت على ما تقدَّم في كتاب الدِّيات.
          فإن قيل: ظاهر حديث أبي هريرة يدلُّ على أنَّ قاتل نفسِه مخلَّد في النَّار(6)، قيل: هذا قول تقلَّدَه الخوارج وهو مرغوب عنه، ومِن حجَّة الجماعة أنَّ لفظ التأبيد في كلام العرب لا يدلُّ على ما توهَّموه، وقد يقع الأبد على المدَّة مِن الزَّمان الَّتي قضى الله ╡ فيها بتخليد القاتل إن أنفذ عليه الوعيد، وذلك أنَّ العرب تجمع الأبد على آباد كما تجمع الدَّهر على دهور، فإذا كان الأبد عندها واحد الآباد لا يدلُّ الأبد على ما قالوه، ويدلُّ على صحَّة هذا إجماع المؤمنين كلِّهم غير الخوارج على أنَّه يخرج مِن النَّار مَن كان في قلبِه مثقال ذرَّة مِن إيمان وأنَّه لا يخلد في النَّار بالتوحيد مع الكفَّار، فسقط قولُهم.
          وقولُه: (يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ) قال صاحب «الأفعال»: وجأت البعير طعنت منحره(7)، ووجأه وجئًا: طعنه مثل وجأه، والأصل في المستقبل يوجأ.


[1] قوله: ((مخلداً)) ليس في (ص).
[2] قوله: ((ومن قتل نفسه... مخلداً فيها أبداً)) ليس في (ص).
[3] قوله: ((عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً)) ليس في (ص).
[4] قوله: ((به)) ليس في (ص).
[5] في (ص): ((فذكرناهم)).
[6] زاد في (ص): ((أبداً)).
[7] في المطبوع تصحيفًا: ((منخره)).