شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من خرج من أرض لا تلايمه

          ░29▒ بابُ مَنْ خَرَجَ مِنْ أَرْضٍ لَا تُلَائِمُهُ.
          فيه: أَنَسٌ: (أَنَّ نَاسًا مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ(1) قَدِمُوا عَلَى النَّبيِّ صلعم وَتَكَلَّمُوا بِالإسْلامِ، وقَالُوا(2): يَا نَبِي اللهِ إِنَّا كُنَّا أَهْلَ ضَرْعٍ وَلَمْ نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ، وَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ(3) النَّبيُّ صلعم بِذَوْدٍ ورَاعٍ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فِيهِ...) الحديث. [خ¦5727]
          وفيه: سَعْدٌ أَنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ: (إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا مِنْهَا). [خ¦5728]
          وفيه: ابنُ عبَّاسٍ: أَنَّ عُمَر خَرَجَ إلى الشَّامِ حتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغٍ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بالشَّامِ، فقَالَ ابنُ عبَّاس: قَالَ عُمَرُ: ادْعُ لي الْمُهَاجِرِينَ الأوَّلِينَ، فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ وَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاس وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلعم، وَلا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا / عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لي الأنْصَارَ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ(4) فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلافِهِمْ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ عليه مِنْهُمْ رَجُلانِ، فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاس وَلا تُقْدِمَهُمْ على هَذَا الْوَبَاءِ، فَنَادَى عُمَرُ في النَّاس: إِنِّي مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ، فقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللهِ؟ قَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ ! نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ إلى قَدَرِ اللهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ؟ قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ مُتَغَيِّبًا في بَعْضِ حَاجَتِهِ، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي في هَذَا عِلْمًا سَمِعْتُ النَّبي صلعم يَقُولُ: (إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ) قَالَ فَحَمِدَ اللهَ عُمَرُ، ثُمَّ انْصَرَفَ. [خ¦5729]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ المَسِيحُ وَلا الطَّاعُونُ). [خ¦5731]
          وفيه: حَفْصَةُ بِنْتُ سِيرِينَ قَالَتْ: (قَالَ لي أَنَسٌ: يَحْيَى بِمَ مَاتَ؟ قُلْتُ: مِنَ الطَّاعُونِ، قَالَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ). [خ¦5730]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبيُّ صلعم: (الْمَبْطُونُ شَهِيدٌ وَالْمَطْعُونُ شَهِيدٌ). [خ¦5729]
          قال الطَّبري في حديث سعد: فيه الدِّلالة على أنَّ على المرء توقِّي المكاره قبل وقوعِها وتجنُّب الأشياء المَخُوْفة قبل هجومِها، وأنَّ عليه الصَّبر وترك الجزع بعد نزولها، وذلك أنَّه صلعم نهى مَن لم يكن في أرض الوباء عن دخولِها إذا وقع فيها، ونهى مَن هو فيها عن الخروج منها بعد وقوعِه فيها فرارًا منه، فكذلك الواجب أن يكون حكم كل متَّقٍ مِن الأمور غوائلَها سبيلُه(5) في ذلك سبيل الطَّاعون وهذا المعنى نظير قولِه صلعم: ((لَا تَتَمَنَّوا لِقَاءَ العَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللهَ العَافِيَةَ وَإذِا لَقِيْتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا)).
          فإن قال قائل: فإن كان كما ذكرت فما أنت قائل فيما روى شعبة عن يزيد بن أبي زياد عن سليمان بن عَمْرو بن الأحوص أنَّ أبا موسى بعث بنيه إلى الأعراب مِن الطاعون؟ وروى شعبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي موسى الأشعري أنَّ عُمَر بن الخطَّاب كتب إلى أبي عُبيدة في الطَّاعون الَّذي وقع بالشَّام(6) أنَّه عرضت بي(7) حاجة لا غنى بي عنك فيها، فإذا أتاك كتابي ليلًا فلا تصبح حتَّى ترد إليَّ، وإن أتاك نهارًا فلا تمسَّ حتَّى ترد إلي، فلما قرأ أبو عبيدة الكتاب قال: عرفت حاجة أمير المؤمنين أراد أن يستبقي مَن ليس بباقٍ، ثم كتب إليه إنِّي قد عرفت حاجتك فحلِّلْني مِن عزمتك يا أمير المؤمنين؛ فإنِّي في جند المسلمين(8) ولن أرغب بنفسي عنهم، فلما قرأ عمر الكتاب بكى، فقيل له: توفِّي أبو عبيدة؟ قال: لا وكان قد كتب إليه عمر أن الأردن أرض غَمِقة وأن الجابية أرض نزهة فاظهر بالمسلمين إلى الجابية، فلما قرأ أبو عبيدة الكتاب قال: هذا نسمع فيه لأمير المؤمنين ونطيعه، فأراد ليركب بالنَّاس فوجد وخزة فطعن وتوفي أبو عبيدة وانكشف الطاعون.
          وروى شعبة أنَّه سأل الأشعث هل فرَّ أبوك مِن الطَّاعون؟ قال: كان إذا اشتدَّ الطاعون فرَّ هو والأسود بن هلال، وروى شعبة عن الحكم أنَّ مسروقًا كان يفرُّ مِن الطَّاعون؟
          قيل: قد خالف هؤلاء مِن القدوة مثلُهم، وإذا اختُلف في أمر كان أولى بالحق مَن كان موافقًا أمر(9) رسول الله صلعم، فإن قيل: فاذكر لنا مَن خالفَهم، قيل، روى شعبة عن يزيد بن خُمير عن شُرَحبيل بن شُفْعة قال: وقع الطَّاعون، فقال عَمْرو بن العاص: إنَّه رجز فتفرَّقوا عنه، فبلغ شُرَحبيل بن حسنة فقال: لقد صحبت رسول الله صلعم وعمرو أضلُّ مِن بعير أهلِه(10)، إنَّه دعوة نبيِّكم ورحمة(11) ربِّكم وموت الصَّالحين قبلكم، فاجتمعوا له ولا تفرَّقوا عنه، فبلغ ذلك عَمْرو بن العاص فقال: صدق.
          وروى أيوب عن أبي قِلابة عن عَمْرو بن العاص قال: تفرَّقوا عن هذا الرِّجز في الشِّعاب والأدوية ورؤوس الجبال، فقال معاذ بن جبل: بل هو شهادة ورحمة ودعوة نبيِّكم: اللَّهُمَّ أعط معاذًا وأهلَه نصيبَهم مِن رحمتك، فطعن في كفِّه، قال أبو قِلابة: قد عرفت الشَّهادة والرَّحمة ولم أعرف(12) ما دعوة نبيِّكم، فسألت عنها فقيل: ((دَعَا ◙ أَنْ يُجْعَلَ فَنَاءُ أُمَّتِّه بِالطَّعنِ والطَّاعُونِ حِينَ دَعَا أَنْ لَا يُجْعَل بَأْسُ أُمَّتِهِ بَينَهُم فَمُنِعَهَا، فَدَعَا بِهَذَا)). /
          وقالت عَمْرة: سألتُ عائشة عن الفرار مِن الطَّاعون، فقالت: هو كالفرار مِن الزحف، وسُئل الثَّوري عن الرَّجل يخرج أيَّام الوباء بغير تجارة معروفة، قال(13): لم يكونوا ليفعلوا(14) ذلك، وما أحبُّه(15). فإن قيل(16): فهل مِن أحد هو ميِّت إلا بعد(17) استيفائِه مدَّة أجلِه الَّذي كتب له؟ قيل: نعم، قال: فإن(18) كان كذلك فما وجه النَّهي عن دخول أرض بها الطَّاعون أو الخروج منها؟ قيل: لم ينه عن ذلك أحد حذارًا عليه(19) أن يصيبَه غير ما كُتب عليه، أو أن يهلك قبل الأجل الَّذي لا يستأخر عنه ولا يستقدم، ولكن حذار الفتنة على الحي مِن أن يظنَّ إنَّما كان هلاكه مِن أجل قدومِه عليه، وأن مَن فرَّ عنه فنجا مِن الموت أنَّ نجاته كانت مِن أجل خروجِه عنه. فكره رسول الله صلعم ذلك، ونهيُه صلعم عن ذلك نظير نهيِه عن الدُّنُوِّ مِن المجذوم، وقال: ((فِرَّ مِنْهُ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَدِ)) مع إعلامِه ◙ أمَّته أن((لا عدوى ولا صفر)).
          وقال غير الطَّبري: فإن قال قائل: فإنَّ في حديث أنس في الَّذين استوخموا المدينة فأمرَهم النَّبيُّ صلعم أن يخرجوا منها حجَّة لمَن أجاز الفرار مِن أرض الوباء والطَّاعون، قيل: ليس ذلك كما توهَّمتَه، وذلك أنَّ القوم شكوا إلى النَّبيِّ صلعم أنَّهم كانوا أهل ضرع ولم تلائمهم المدينة واستوخموها لمفارقتِهم هواء بلادِهم، فهم الَّذين استوخموا المدينة خاصَّة(20) دون سائر النَّاس، فأمرهم النَّبيُّ صلعم بالخروج منها، ففي هذا مِن الفقه أنَّ مَن قدم إلى بلدِه ولم يوافقْه هواها أنَّه مباح له الخروج منها(21) والتماس أفضل هواء(22) منها، وليس ذلك بفرار مِن الطَّاعون وإنَّما الفرار منه إذا عمَّ الموت في البلدة السَّاكنين فيها والطَّارئين عليها وفي ذلك جاء النَّهي، والله أعلم.
          وقولُه: (وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ) دليل أنَّه يجوز الخروج مِن بلدة الطَّاعون على غير سبيل الفرار منه إذا اعتقد أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئَه، وكذلك حكم الدَّاخل في بلدة الطَّاعون إذا أيقن أنَّ دخولَه لا يجلب إليه قدرًا لم يكن قدَّرَه الله عليه، فمباح له الدُّخول إليه.
          وقد روي عن عروة بن رويم أنَّه قال: بلغنا أنَّ عمر كتب إلى عاملِه بالشَّام إذا سمعت بالطَّاعون قد وقع عندكم فاكتب إليَّ حتَّى أخرج إليه، وروى القاسم عن عبد الله بن عُمَر أنَّ عمر قال: اللَّهُمَّ اغفر لي رجوعي مِن سَرْغ، وروي عن ابن مسعود قال: الطَّاعون فتنة على المقيم وعلى الفار(23)، أمَّا الفارُّ فيقول: فررت فنجوت، وأمَّا المقيم فيقول: أقمت فمتُّ، وكذا(24) فرَّ مَن لم يجئ أجلُه وأقام فمات مَن جاء أجله.
          وقال المدائني يقال أنَّه قلَّ ما فرَّ أحد مِن الطاعون فسلم مِن الموت.
          وقولُه صلعم: (الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ) سيأتي تفسيرُه في الباب المتَّصل بهذا إن شاء الله تعالى(25).


[1] في المطبوع: ((وعرينة)) ونبه إلى المثبت في نسخة.
[2] في (ص): ((فقالوا)).
[3] في (ز): ((فأمرهم)) والمثبت من (ص).
[4] في (ص): ((واستشارهم)).
[5] صورتها في (ص) تحتمل: ((فسبيله)).
[6] في المطبوع: ((في الشام)).
[7] في المطبوع: ((به)).
[8] في (ص): ((الشاميين)).
[9] في (ص): ((من خالف أمر)).
[10] في (ص): ((رحله)).
[11] زاد في (ص): ((من)).
[12] قوله: ((ولم أعرف)) ليس في (ص).
[13] زاد في (ص): ((ثم)).
[14] في (ص): ((يفعلوا)).
[15] في (ص): ((وما أوجبه)).
[16] في (ص): ((قال)).
[17] في (ص): ((من أحد إلا وهو ميت بعد)).
[18] في (ز): ((نعم فإن قال)) والمثبت من (ص).
[19] زاد في (ص): ((من)).
[20] قوله: ((خاصة)) ليس في (ص).
[21] في (ص): ((عنها)).
[22] في (ص): ((هواء أفضل)).
[23] في (ص): ((المقيم والفار)).
[24] في (ص): ((وكذلك)).
[25] قوله: ((إن شاء الله تعالى)) ليس في (ص).