شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يذكر في سم النبي صلى الله عليه وسلم

          ░55▒ بابُ مَا يُذْكَرُ فِي سُمِّ النَّبيِّ صلعم. رَوَاهُ عُروَةُ عَن عَائِشَةَ عَنِ النَّبيِّ صلعم.
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ إِلَى النَّبيِّ صلعم شَاةٌ فِيهَا سَمٌّ، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: اجْمَعُوا لِي مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنَ الْيَهُودِ، فَجُمِعُوا لَهُ، فَقَالَ لَهُمُ(1) النَّبيُّ صلعم: إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقيَّ(2) عَنْهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَقَالَ لَهُمْ رسول الله(3) صلعم: مَنْ أَبُوكُمْ؟ فقَالُوا: أَبُونَا فُلانٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: كَذَبْتُمْ بَلْ أَبُوكُمْ فُلانٌ؟ فَقَالُوا: صَدَقْتَ، وَبَرِرْتَ، فقَالَ(4): هَلْ أَنْتُمْ صَادِقيَّ(5) عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَاكَ(6) عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ في أَبِينَا، قَالَ(7) لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلعم: مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ فَقَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا ثُمَّ تَخْلُفُونَنَا فِيهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ(8) صلعم: اخْسَئُوا فِيهَا، وَاللهِ لا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ(9) عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟ فقَالُوا: نَعَمْ، فقَالَ(10): هَلْ جَعَلْتُمْ في هَذِهِ الشَّاةِ سَمًَّا؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فقَالَ: مَا(11) حَمَلَكُمْ على ذَلِكَ؟ قَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَذَّابًا أَنْ نَسْتَرِيحُ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا(12) لَمْ يَضُرَّكَ). [خ¦5777]
          لا أعلم خلافًا فيمَن سمَّ طعامًا أو شرابًا لرجل فلم يمت به أنَّه(13) لا قصاص فيه(14) ولا حدَّ، وفيه العقوبة الشَّديدة والأدب البالغ قدر ما يراه الإمام في ذلك، فإن قيل: كيف وجب فيه العقوبة والنَّبيُّ صلعم لم يعاقب مَن وضع له السُّمَّ فيها؟ قيل: كان النَّبيُّ صلعم لا ينتقم لنفسِه ما لم تُنتَهك لله حرمة، وكان يصبر على أذى المنافقين واليهود، وقد سحرَه لَبِيد بن الأعصم وناله مِن ضرر السِّحر ما لم ينلْه مِن ضرر السُّمِّ في الشَّاة ولم يعاقب الَّذي سحرَه لأنَّ الله تعالى كان قد ضمن لنبيِّه صلعم أنَّه لا يناله مكروه وأن لا يموت حتَّى يبلِّغ دينَه ويصدع بتأدية شريعتِه، وكان معصومًا مِن ضرر الأعداء قال الله تعالى: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس}[المائدة:67]وغيرُه مِن النَّاس بخلاف ذلك(15) فهذا الفرق بينَه وبين غيرِه صلعم.
          واختلفوا فيمَن سَمَّ طعامًا أو شرابًا لرجل فمات منه، فذكر ابن المنذر عن الكوفيِّين: إذا سقاه سمًّا أو جرَّبه به فقتلَه فلا قصاص عليه وعلى عاقلتِه الدِّيَة، وقال مالك: إذا استكرهَه فسقاه سمًّا فقتلَه(16) فعليه القود.
          قال الكوفيُّون: ولو أعطاه إيَّاه فشربَه هو لم يكن عليه فيه شيء ولا على عاقلتِه مِن قبل أنَّه هو شربَه، وقال الشافعي: إذا جعل السمَّ في طعام رجل أو شرابِه فأطعمه أو سقاه(17) غير مكره له / ففيها قولان: أحدُهما أنَّ عليه القود، وهذا أشبهُهما، والثَّاني: أن لا قود عليه وهو آثم لأنَّ(18) الآخر شربَه وإن خلطَه فوضعَه فأكلَه الرَّجل فلا عقل ولا قود ولا كفارة، وقيل: يضمن.
          وفي حديث أبي هريرة الدَّليل الواضح على صحَّة نبوَّة نبيِّنا صلعم مِن وجوه، منها: إخبارُه صلعم عن الغيب الَّذي لا يعلمُه إلَّا مَن أعلمَه الله بذلك، وذلك معرفتُه صلعم بأبيهم وبالسُّمِّ الَّذي وضعوا له في الشَّاة، ومنها تصديق اليهود له حين أخبرهم بأبيهم، ومنها: قول اليهود له: إن كنت نبيًّا لم يضرَّك، فرأوا أنَّه لم يقتلْه السُّمُّ وتمادوا في غيِّهم، ولم يؤمنوا بما رأوا مِن برهانه صلعم في السُّمِّ وفي إخبارِه عن الغيب، وهذا الحديث يشهد بمباهتة اليهود وعنادهم للحق، كما قال عبد الله بن سلام: اليهود قوم بُهْتٌ.


[1] قوله: ((لهم)) ليس في (ص).
[2] في (ص): ((صادقوني)).
[3] في (ص): ((النَّبي)).
[4] في (ص): ((قال)).
[5] في (ص): ((صادقوني)).
[6] في (ص): ((كذبنا فقد)).
[7] في (ص): ((فقال)).
[8] في (ص): ((النَّبي)).
[9] في (ص): ((صادقوني)).
[10] في (ص): ((إن سألتكم عنه، قال)) دون قوله: ((فقالوا نعم)).
[11] في (ص): ((قال: وما)).
[12] في (ص): ((صادقاً)).
[13] قوله: ((أنه)) ليس في (ص).
[14] في (ص): ((عليه)).
[15] في (ص): ((بخلافه)).
[16] قوله: ((فقتله)) ليس في (ص).
[17] في (ص): ((وسقاه)).
[18] في (ص): ((فإن)).