شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: من البيان سحرًا

          ░51▒ بابُ مِنَ البَيَانِ سِحْرٌ.
          فيه: ابنُ عُمَر قَالَ: (قَدِمَ رَجُلانِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا فَعَجِبَ النَّاس لِبَيَانهمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا، أَوْ إِنَّ بَعْضَ الْبَيَانِ لَسِحْرٌ(1)). [خ¦5767]
          قال المؤلِّف: الرَّجلان اللَّذان خطبا: عَمْرو بن الأهتم والزِّبْرِقَان بن بدر، روى حماد بن زيد عن محمَّد بن الزُّبير قال: قدم على رسول الله الزِّبْرِقَان بن بدر وعمرو بن الأهتم، فقال رسول الله صلعم لعمرو: أخبرني عن الزِّبْرِقَان، قال(2): هو مطاع في ناديه، شديد / المعارضة، مانع لما وراء ظهرِه، قال الزِّبْرِقَان: هو والله يا رسول الله يعلم أنِّي أفضل منه ولكنَّه حسدني شرفي فقصرني، قال عَمْرو: إنَّه لزَمِرُ المروءة ضيِّق العطن أحمق الأب لئيم الخال، يا رسول الله صدقت في الأولى وما كذبت في الأخرى، ولكنِّي رضيت فقلت أحسن ما علمت، وسخطت فقلت أسوأ ما علمت، فقال رسول الله صلعم: ((إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا)).
          واختلف العلماء في تأويله، فقال قوم مِن أصحاب مالك: إنَّ هذا الحديث خرج على الذَّمِّ للبيان، وقالوا على هذا يدلُّ مذهب مالك، واستدلُّوا بإدخالِه هذا(3) للحديث في باب ما يُكرَه مِن الكلام، وقالوا: إنَّ النَّبي صلعم شبَّه البيان بالسِّحر، والسِّحر مذموم محرَّم قليلُه وكثيرُه وذلك لما في البيان مِن التَّفيهق وتصوير الباطل في صورة الحق، وقد قال رسول الله صلعم: ((أَبْغَضُكُمْ إِليَّ الثَّرْثَارُونَ المُتَفَيْهِقُونَ)) وقد فسَّره عامر بنحو هذا المعنى وهو رواي الحديث عن رسول الله صلعم، وكذلك فسَّره صَعْصَعَة بن صُوحان فقال: أمَّا قولُه صلعم: (إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا) فالرَّجل يكون عليه(4) الحق وهو ألحن بالحجج مِن صاحب الحقِّ فيسحر القوم ببيانِه فيذهب بالحقِّ وهو عليه.
          وقال آخرون: هو كلام خرج على مدح البيان، واستدلُّوا بقولِه في الحديث: (فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا) قالوا(5): والإعجاب لا يقع إلا بما يحسن ويطيب سماعُه، قالوا: وتشبيهُه بالسِّحر مدح له؛ لأنَّ معنى السِّحر الاستمالة، وكلُّ مَن استمالك فقد سحرك، وكان رسول الله صلعم أميز النَّاس بفضل البلاغة لبلاغتِه(6) فأعجبَه ذلك القول واستحسنَه؛ فلذلك(7) شبَّهه بالسِّحر، قالوا: وقد تكلَّم رجل في حاجة عند عمر بن عبد العزيز _وكان في قضائِها مشقَّة_ بكلام رقيق موجز وتأنَّى لها أو تلطَّف(8)، فقال عُمَر بن العزيز: هذا السِّحر الحلال، وكان زيد بن إيَاس يقول للشَّعْبي: يا مبطل(9) الحاجات، يعني أنَّه يشغل جلساءَه بحسن حديثِه(10) عن حاجاتِهم(11).
          وأحسن ما يقال في ذلك أنَّ هذا الحديث ليس بذمٍّ للبيان كلِّه ولا بمدح للبيان كلِّه(12)، ألا ترى قولَه صلعم: (إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا) و: (مِنْ) للتَّبعيض عند العرب، وقد شكَّ المحدِّث إن كان قال صلعم: (إِنَّ مِنَ البَيَانِ) أو (إِنَّ مِنْ بَعْضِ البَيَانِ) وكيف يذمُّ البيان كلَّه، وقد عدَّد الله ╡ به النعمة على عبادِه فقال تعالى: {خَلَقَ الْإِنسَانَ.عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:3-4]ولا يجوز أن يعدِّد على عبادِه إلَّا ما فيه عظيم النِّعمة عليهم وما ينبغي إدامةُ شكرِه عليه؟ فإذا ثبت أنَّ بعض البيان هو المذموم وهو الَّذي خرج عليه لفظ الحديث، وذلك الاحتجاج للشَّيء الواحد مرَّة بالفضل ومرَّة بالنَّقص، وتزيينِه مرَّةً وعيبه أخرى ثبت أنَّ ما جاء مِن البيان مزيِّنًا للحقِّ ومبيِّنًا له فهو ممدوح وهو الَّذي قال فيه عُمَر بن عبد العزيز: هذا السِّحر الحلال، ومعنى ذلك أنَّه يعمل في استمالة النُّفوس ما يعمل السِّحر مِن استهوائِها، فهو سحر على معنى التَّشبيه لا أنَّه السِّحر الَّذي هو الباطل الحرام، والله أعلم.


[1] قوله: ((أو إن بعض البيان لسحر)) ليس في (ص).
[2] في (ص): ((فقال)).
[3] قوله: ((هذا)) ليس في (ص).
[4] قوله: ((عليه)) ليس في المطبوع.
[5] قوله: ((قالوا)) ليس في (ص).
[6] قوله: ((لبلاغته)) ليس في (ص).
[7] في المطبوع: ((ولذلك)).
[8] في (ص): ((وتلطف)).
[9] في (ص): ((يا متبطل)).
[10] في (ص): ((حديث)).
[11] قوله: ((حاجاتهم)) ليس في (ص).
[12] قوله: ((ولا بمدح للبيان كله)) ليس في (ص).