شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتو

          ░17▒ بابُ مَنِ اكْتَوَى أَوْ كَوَى غَيْرَهُ وَفَضْلُ مَنْ لَمْ يَكْتَوِ(1).
          فيه: جَابِرٌ قَالَ النَّبيُّ(2) صلعم: (إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ شِفَاءٌ، فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ). [خ¦5704]
          وفيه: ابنُ عبَّاسٍ قَالَ النَّبيُّ صلعم: (عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ فَجَعَلَ النَّبيُّ وَالنَّبيَّانِ يَمُرُّونَ وَمَعَهُمُ الرَّهْطُ، والنَّبيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ حتَّى رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ أُمَّتِي هَذِهِ؟ قِيلَ: بَلْ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ، وقِيلَ: انْظُرْ إلى الأُفُقِ فَإِذَا سَوَادٌ يَمْلأ الأُفُقَ، ثُمَّ قِيلَ: انْظُرْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا في آفَاقِ السَّمَاءِ، فَإِذَا سَوَادٌ قَدْ مَلأَ الأُفُقَ(3)، فقِيلَ: هَذِهِ أُمَّتُكَ وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ هَؤُلاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، ثُمَّ دَخَلَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ، فَأَفَاضَ الْقَوْمُ وَقَالُوا: نَحْنُ الَّذينَ آمَنَّا بِاللهِ وَاتَّبَعْنَا رَسُولَهُ، فَنَحْنُ هُمْ وأَوْلادُنَا(4) الَّذينَ وُلِدُوا في الإسْلامِ وَإِنَّا وُلِدْنَا في الْجَاهِلِيَّةِ، فَبَلَغَ النَّبيَّ صلعم، فَخَرَجَ، فَقَالَ: هُمِ الَّذينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلا يَتَطَيَّرُونَ(5) وَلَا يَكْتَوُونَ، وَعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، فَقَالَ عُكَّاشَةُ: أَمِنْهُمْ أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَامَ آخَرُ، فَقَالَ: أَمِنْهُمْ أَنَا؟ فَقَالَ: سَبَقَكَ عُكَّاشَةُ). [خ¦5705]
          قال المؤلِّف: في حديث جابر إباحة الكي والحجامة وأنَّ الشِّفاء فيهما لأنَّه صلعم لا يدلُّ أمَّتَه على ما فيه الشِّفاء لهم إلا ومباح لهم الاستشفاء والتَّداوي.
          فإن قال قائل: ما معنى قولِه صلعم: (وَمَا(6) أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ)؟ قيل: معنى ذلك _والله أعلم_ أنَّ الكي إحراق بالنَّار وتعذيب بها(7) وقد كان صلعم يتعوَّذ كثيرًا مِن فتنة النَّار وعذاب النَّار فلو اكتوى بها لكان قد عجَّل لنفسِه ألم ما قد استعاذ بالله تعالى منه.
          فإن قيل: فهل نجد في الشَّريعة مثل هذا ممَّا أباحه النَّبيُّ صلعم لأمَّته ولم يفعلْه هو في خاصَّة نفسِه فتسكن النَّفس إلى ذلك؟ قيل: بلى وذلك أنَّه صلعم أباح لأصحابِه أكل الضَّب على مائدتِه ولم يأكلْه هو، وبيَّن علَّة امتناعِه منه، فقال: ((لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِيْ فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ)) ومثلُه أنَّه لم يأكل الثُّوم والبصل والخضروات المنتنة الرِّيح وأباحَها لأمَّته، وقال: ((إِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي)) وقال مرة: ((إِنَّهُ يَحْضُرُنِي مِنَ اللهِ حَاضِرَةٌ)) فكذلك أباح الكيَّ وكرهَه في خاصَّة نفسِه صلعم.
          وقال الطَّبري: أمَّا قوله صلعم: (لَا يَتَطَيَّرُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ) فمعناه _والله أعلم_ الَّذين لا يفعلون شيئًا مِن ذلك معتقدين أنَّ البرء إن حدث عقيب ذلك كان مِن عند غير الله تعالى وأنَّه كان بسبب الكيِّ والرُّقية، وأنَّ الَّذي يتطيَّر منه لو لم ينصرف مِن أجلِه ومضى كان في مُضيِّه إن أصابه مكروه مِن قبل مُضيِّه لا مِن قبل الله ╡، فأمَّا مَن انصرف ومضى وهو في كلا(8) حاليه معتقد أنَّه لا ضارَّ ولا نافع غير الله تعالى وأنَّ الأمور كلَّها بيده، فإنَّه غير معني بقولِه: (لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ).
          قال أبو الحسن بن القابسي: معنى (لَا يَسْتَرْقُونَ) يريد الاسترقاء الَّذي كانوا يسترقونَه في الجاهليَّة عند كهَّانهم وهو استرقاء بما ليس في كتاب الله لا(9) بأسمائِه وصفاتِه، وإنَّما هو ضرب مِن السِّحر، فأمَّا الاسترقاء بكتاب الله والتعوُّذ بأسمائِه وكلماتِه فقد فعلَه الرَّسول صلعم وأمر به، ولا يخرج ذلك مِن التَّوكُّل على الله ╡، ولا يُرجى في التَّشفِّي به إلا رضا الله تعالى.
          وأمَّا قولُه: (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) فقال الطَّبري: اختلف النَّاس في حدِّ التوكل، فقالت طائفة: لا يستحقُّ اسم التَّوكُّل حتَّى لا يخالط قلبَه خوفُ شيءٍ غير الله ╡ مِن سَبُعٍ عادٍ وعدوٍّ لله كافر حتَّى يترك السَّعي على نفسِه في طلب رزقِه لأنَّ الله تعالى قد ضمن / أرزاق العباد والشُّغل بطلب المعاش شاغل عن الخدمة.
          واحتجُّوا بما رواه فُضيل بن عياض عن هشام عن الحسن عن عِمْرَان بن حُصين قال: قال رسول الله صلعم: ((مَنِ اِنْقَطَعَ إِلَى اللهِ كَفَاهُ اللهَ كُلَّ مُؤْنَةٍ وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَمَن اِنْقَطَعَ إِلَى الدُّنيَا وَكَلَهُ الله إِلَيْهَا)) وبما رواه فُضيل عن عطيَّة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلعم: ((لَوْ فَرَّ أَحَدُكُمْ مِنْ رِزْقِهِ لَأَدْرَكَهُ كَمَا يُدْرِكُهُ المَوتُ)).
          وقالت طائفة: حدُّ التوكل على الله تعالى: الثِّقة به والاستسلام لأمره والإيقان بأنَّ قضاءَه عليه ماض واتِّباعُ سنَّتِه وسنَّة رسولِه صلعم، ومِن اتِّباع سنَّتِه سعي العبد فيما لابدَّ له منه(10) مِن مطعم ومشرب وملبس لقولِه تعالى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ}[الأنبياء:8]ومِن سنَّتِهِ أن يحترز مِن عدوِّه كما فعل النَّبيُّ صلعم يوم أُحد مِن مظاهرتِه بين درعين وتغفُّره بمغفر يتَّقي به سلاح المشركين، وإقعادِه الرُّماة على فم الشِّعب ليدفعوا مَن أراد إتيانَه، وكصنيعِه الخندق حول المدينة تحصينًا(11) للمسلمين وأموالِهم مع كونِه مِن التَّوكُّل والثِّقة بربِّه بمحل لم يبلغْه أحد، ثم كان مِن أصحابِه ما لا يجهلُه أحد مِن تحوُّلهم عن منازلِهم مرَّة إلى الحبشة ومرَّة إلى مدينتِه صلعم خوفًا على أنفسِهم مِن مشركي مكَّة وهربًا بدينهم أن يفتنوهم عنه بتعذيبهم إيَّاهم.
          وقد أحسن الحسن البصري حين قال للمخبر عن عامر بن عبد الله: أنه نزل مع أصحابِه في طريق الشَّام على ماء، فحال الأسدُ بينهم وبين الماء فجاء عامر إلى الماء(12) فأخذ منه حاجتَه، فقيل له: لقد(13) خاطرت بنفسك! فقال(14): لأن تختلف الأسنَّة في جوفي خير لي مِن أن يعلم الله أنِّي أخاف شيئًا سواه قد خاف مَن كان خيرًا مِن عامر موسى صلعم حين قيل له: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ. فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[القصص:20-21]وقال أيضًا(15): {فَأَصْبَحَ فِي المَدِيْنَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ}[القصص:18]وقال حين ألقى السَّحرة حبالهم وعصيَّهم: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى. قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى}[طه:67-68]قالوا: فالمخبر عن نفسِه بخلاف ما طبع الله سبحانه(16) عليه نفوس بني آدم كاذب، وقد طبعَهم الله على الهرب مما يضرُّهم، وقد أمر الله تعالى عباده بالإنفاق مِن طيِّبات ما كسبوا وقال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}[البقرة:173]فأحلَّ للمضطر ما كان حرُم عليه عند عدمِه للغذاء الَّذي أمرَه باكتسابِه والاغتذاء به، ولم يأمرْه بانتظار طعام ينزل عليه مِن السماء، ولو ترك السَّعي في طلب ما يتغذَّى به حتَّى هلك كان لنفسِه قاتلًا، وقد كان رسول الله صلعم يتلوَّى مِن الجوع ما يجد ما يأكلُه، ولم ينزل عليه طعام مِن السَّماء وهو أفضل البشر، وكان يدَّخر(17) لنفسِه قوت سنة حين(18) فتح الله عليه الفتوح.
          وقد روى أنس بن مالك: أنَّ رجلًا أتى النَّبيَّ صلعم ببعير، فقال: يا رسول الله أعقله وأتوكَّل أو أطلقه وأتوكَّل؟ قال: ((اِعْقِلْهُ وَتَوَكَّلْ)) وأمَّا اعتلالُهم بقولِه صلعم: ((يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي الجَنَّةَ(19) سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ(20) وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)) فذلك إغفال منهم، ومعنى ذلك الَّذين لا يكتوون معتقدين أنَّ الشَّفاء والبرء في الكيِّ دون إذن الله بالشِّفاء له به، فأمَّا(21) مَنِ اكتوى معتقدًا إذا شفاه الله بعلاجِه أنَّ الله تعالى هو الَّذي شفاه به فهو المتوكِّل على ربِّه التوكُّل الصَّحيح، ولا أحد يتقدَّم النَّبيَّ صلعم في دخول الجنة ولا يسبقُه إليها وقد قال: ((أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الجَنَّةِ فَيُقَالُ لِي: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: محمَّد فَيَقُولُ الخَازِنُ: أُمِرْتُ أَلَّا أَفْتَحَ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ)) قالوا: وقد كوى صلعم جماعة مِن أصحابِه، كوى أبا أُمَامة أسعد بن زُرارة مِن الذَّبحة، وكوى سعد بن معاذ مِن كَلْمِهِ يوم الخندق، وكوى أُبَيَّ بن كعب على أكحلِه حين أصابَه السَّهم يوم أحد، وكُوي أبو طلحة في زمن النَّبيِّ صلعم، وقال جرير بن عبد الله: أقسم عليَّ عُمَر بن الخطاب لأكتوينَّ، واكتوى خَبَّاب بن الأَرَتِّ سبعًا على بطنِه / واكتوى مِن اللَّقْوة ابن عمر ومعاوية وعبد الله بن عَمْرو، وذلك كلُّه ذكرَه الطَّبري(22) بأسانيد صحاح.
          قال الطَّبري: فبان أنَّ معنى الحديث ما قلناه وأنَّ الصَّواب في حدِّ التَّوكُّل الثِّقة بالله تعالى والاعتماد في الأمور عليه، وتفويض كلِّ ذلك إليه بعد استفراغ الوسع في السَّعي فيما بالعبد الحاجة إليه مِن(23) أمر دينِه ودنياه على ما أمر به مِن السَّعي فيه، لا ما قالَه الزَّاعمون أنَّ حدَّه الاستسلام للسِّباع وترك الاحتراز مِن الأعداء ورفض السَّعي للمكاسب والمعاش، والإعراض عن علاج العلل لأنَّ ذلك جهل وخلاف لحكم الله في عباده وخلاف حكم رسولِه صلعم في أمَّتِه وفعل الأئمَّة الرَّاشدين.
          قال غيرُه: وأمَّا قولُه: (سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ) فمعناه _والله أعلم_ أنَّ ذلك الرَّجل لم يكن ممَّن بلغت درجتُه في الفضل إلى منزلة الَّذين لا يسترقون ولا يتطيَّرون ولا يكتوون وعلى ربِّهم يتوكَّلون، فكرِه صلعم أن يفزعَه بأنَّه ليس مِن هذه الطَّبقة فيحزنَه بذلك، وكان صلعم رحيمًا رفيقًا فجاوبَه بكلام مشترك ألطف له به القول(24) وهو قولُه: (سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةٌ) أي سبقك بهذه الحال الرَّفيعة مِن الإيمان حين كان مِن أهل تلك الصِّفات المذكورة، فبذلك(25) استحقَّ أن يكون منهم، وأنت لم يبلغ بك علمك(26) إلى تلك الدَّرجات، فكيف تكون منهم؟ وهذا مِن معاريض الكلام والرِّفق بالجاهل في الخطاب، وقد قيل: إنَّما كان منافقًا فأراد صلعم السَّتر له والإبقاء عليه ولعلَّه أن يتوب، فردَّه ردًّا جميلًا، وهذا خلقُه صلعم.


[1] في (ص): ((يكو)).
[2] قوله: ((النَّبي)) ليس في (ص).
[3] قوله: ((الأفق)) ليس في (ص) وبعدها فيها: ((قيل)).
[4] في المطبوع: ((أو أولادنا)).
[5] في (ص): ((ولا يتطببون)).
[6] في (ص): ((لا)).
[7] قوله: ((بها)) ليس في (ص).
[8] في (ص): ((كل)).
[9] في (ص): ((ولا)).
[10] قوله: ((منه)) ليس في (ص).
[11] في (ص): ((حصناً)).
[12] قوله: ((فجاء عامر إلى الماء)) ليس في (ص).
[13] في (ص): ((قد)).
[14] في (ص): ((قال)).
[15] قوله: ((أيضاً)) ليس في (ص).
[16] قوله: ((سبحانه)) ليس في المطبوع.
[17] في المطبوع: ((يدخل)).
[18] في (ص): ((حتَّى)).
[19] في (ص): ((الجنة من أمتي)).
[20] قوله: ((ولا يكتوون)) ليس في (ص).
[21] في (ص): ((وأمَّا)).
[22] في (ص): ((روى ذلك كله الطَّبري)).
[23] في (ص): ((في)).
[24] في (ص): ((له بالقول)).
[25] في (ز): ((فذلك)) والمثبت من (ص).
[26] كذا في (ز) و (ص): ((علمك)) وفي المطبوع: ((عملك)).